لا يُصلِح العطار ما أفسد الدهر! محمد ياغي

الجمعة 09 ديسمبر 2016 09:34 ص / بتوقيت القدس +2GMT



 

 

مُنتقداً اصطفافات العرب الكونية في ظل الحرب الباردة، يقول مظفر النواب في قصيدته الرائعة «في الحانة القديمة»: فالبعضُ يبيع اليابس والأخضر، ويدافع عن كل قضايا الكون، ويَهربُ من وجه قضيته.
تذكرت هذه الأبيات الشعرية وأنا أقرأ إحصائية للمركز السوري لحقوق الإنسان والتي سجل فيها مقتل أكثر من 125 مدنياً سورياً على يد القوات التركية منذ بدء عملية درع الفرات، ومقتل أكثر من ثلاثة آلاف مدني سوري منذ بدأ التحالف الدولي الأميركي حربه على داعش، ومقتل أكثر من ثمانية آلاف مدني سوري بنيران الطائرات الروسية، ومقتل عشرات الآلاف غيرهم منذ دخول إيران وحزب الله الحرب في سورية، ومِثلهم بالطبع منذ التحاق كل مجرمي الأرض لقتال النظام السوري. 
تذكرت هذه الأبيات أيضاً، عندما اعتبر النظام السوري وحلفاؤه أن قصف إسرائيل لمطار المزة العسكري قبل يومين كان تدخلاً هدفه إنقاذ الجماعات المسلحة في حلب. وتذكرتها عندما اختلف «المثقفون» العرب على توصيف كاسترو بعد رحيله، لدرجة السقوط في إهانة بعضهم البعض في وسائل التواصل الاجتماعي: هل الرجل مقاتل من أجل الحرية أم هو دكتاتور!
يُسقِط المثقفون العرب أحكامهم على العالم وعلى القضايا التي تقرر مصير منطقتهم من منظور هويتهم الفكرية وليس من منظور مصالح شعوبهم. لذلك تختفي كل القضايا المهمة من أجنداتهم والتي يجب أن تشغلهم ويحل مكانها صراع على أجندات غيرهم. 
يصعب إقناع التيار الإسلامي العربي «المعتدل» أن عليه أن يرى السياسة التركية بأعين قادتها: تركيا أولاً وأخيراً. وأن القادة الأتراك لا يهمهم إن كان الطريق لحماية مصالحهم هو مهادنة إسرائيل على حساب الفلسطينيين، أومهادنة روسيا على حساب الشعب السوري، أو شراء البترول من "داعش" كما كشفت "وكيليكس" مؤخراً. 
لا يريد التيار الإسلامي الإقرار بأن «الإسلام» لتركيا هو أداة لتعزيز نفوذها في العالمين العربي والإسلامي، وليس غايتها. لذلك ومن باب أولوية معركة «الهوية» على غيره من المعارك، ينبري هذا التيار في الدفاع عن كل شيء تقوم به تركيا حتى لو كان ذلك على حساب قتل المدنيين السوريين أو على حساب مصالح العرب أنفسهم.
ولا يختلف «اليسار» العربي هنا عن التيار الإسلامي، فهو ينظر لروسيا اليوم كما لو أنها «الاتحاد السوفيتي السابق» التي تخوض معركة نشر «الاشتراكية» في العالم، وليس دولة لها مصالح قومية تسعى لتعزيزها بكل الوسائل الممكنة بما فيها دعم أنظمة لا تمانع في إبادة شعوبها من أجل حماية عروشها. 
وهنا لا يجب أن ننسى أن المدافعين عن نظام آيات الله في إيران، من المثقفين العرب، يتناسون أن هذا النظام قد تمدد في العراق وسورية ولبنان على حساب الإرادة الحرة لشعوب هذه الدول: من يجرؤ في العراق على أخذ موقف يتعارض مع مصالح إيران؟ وهل يمتلك النظام في سورية اليوم قراره السياسي، وهل يجرؤ حزب الله في لبنان على فتح معركة مع إسرائيل بدون قرار إيراني؟ 
إيران هنا مثل تركيا السنية، تستخدم لغة «الطائفة» و«المقاومة» من أجل الدفاع عن مصالحها القومية على حساب العرب. 
أن تسقط النخب الحاكمة في أحضان تركيا وروسيا وإيران وأميركا، فهذا يمكن فهمه، لأن هذه النخب تعتاش على تحالفاتها الخارجية التي تستمد منها مصادر قوتها في وجه شعوبها. لكن كيف يمكن فهم مواقف النخب العربية التي تدعي بأنها البديل لهذه الأنظمة؟! 
كيف يمكن للتيار الإسلامي أن يبرر وقوفه الى جانب «المعارضة» السورية في الوقت الذي تستثني فيه هذه المعارضة إسرائيل التي تحتل الجولان من أجندتها؟ أو ليس تحرير الجولان بأهمية إسقاط النظام إن لم يكن أكبر؟ كيف يمكن تبرير احتشاد عشرات الآلاف من الإسلاميين على حدود الجولان المحتل دون أن يطلق هؤلاء رصاصة واحدة من أجل تحريره أو من أجل تحرير فلسطين التي يشبعونها نثراً وشعراً وآيات قرآنية في خطابهم اليومي. 
وكيف يمكن للتيار الذي يدعي «المقاومة» أن يستمر في امتطاء ظهرها في الوقت الذي أصبحت فيه إيران على حدود فلسطين التاريخية، لكنها كما الإسلاميين، تكتفي بتكريس يوم عالمي للاحتفال بالقدس، بينما الآلاف من جنودها مشغولين في القتال للدفاع عن نظام تَعتبره جزءاً من منظومتها الإقليمية التي تخدم مصالحها. ألا يمكن القتال على الأقل على جبهتين لتجسيد فكرة المقاومة؟
تاريخياً، انحاز المثقفون العرب باتجاه الغرب والشرق وفقاً لهوايتهم الفكرية. التيار الإسلامي اختار الغرب الأميركي لأنه أقرب الى الإسلام من الغرب الروسي «الملحد»، على الرغم من أن الأول كان حليفاً لإسرائيل بينما كان الثاني حليفاً للعرب. التيار الإسلامي اعتبر الخطر على الهوية القادم من تبني أفكار قومية واشتراكية أهم من خطر احتلال الأرض الذي قامت به إسرائيل بدعم حلفائها الغربيين. لذلك أسقط هذا التيار لعقود مشروع المقاومة من حساباته واكتفى بخوض صراع مرير مع أعدائه الأيديولوجيين.
أما التياران، اليساري والقومي، فقد انحازا للاتحاد السوفييتي لأنه ليس فقط الأقرب لهويتهم الفكرية، ولكن لكونه الداعم الرئيس لهما في صراعهما مع الغرب وإسرائيل. الاتحاد السوفييتي كهوية فكرية وكمصدر لدعم العرب في صراعهم مع إسرائيل اختفى، لكن تحالف اليسار والقوميين معه لم يختف. لماذا؟ لأن صراعهم الماضي مع الإسلاميين أصبح جزءاً من هويتهم أو ربما هويتهم الفكرية.