بَعد أن تُركت غزة ، لتذهب هي و ربها يقاتلا .. بعد أن تركها الجميع و تشبهوا بمن تشبهوا بهم ، من أولئك الذين قالوا إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا .. بعد أن نخر الحصار الإقتصادي ، و العسكري ، والنفسي نخاع العظم منها .. تُلام غزة .. و تُؤآخذ على عدم رص الصف ، و التمتع " بالحنكة " و حسن الإدارة الإنتخابية .
بعد أن لوث عقول شبابها ، و سطَّح أحلامهم ، وإستغل فقرهم و حاجتهم للمال و العمل ، فساروا في ركبه ، مقتنعين به ، و بأنه صاحب " الكاريزما " و الصاعد الواعد ، إكتشف أن النفخ بالعملة الصعبة ، و الشعارات الرنانة ، لن تشكل في النهاية إلى فرقة " طبول " عالية الصوت فارغة المضمون ..
و بعد أن تركوها ، و أصبحت بالنسبة لهم مجرد " زيارة " ، و بعضهم تبرأ من إنتسابه إليها رسمياً بأوراق ثبوتية على يد محضر يحمل ختم " الثعلب " ، فغيروا العنوان ، و السلوك ، و أصبحت غزة بالنسبة لهم " مطعم سمك و زبدية جمبري " .. بعد كل هذا يلومون الناس ، الذين كانوا ينتظرون " الزيارة " و يحتشدون حول المطاعم و الفنادق ليتنسموا عبقاً قد يؤنس وحشة غربتهم في بلدهم ، و يصفقون و يقبلون بقوائم غريبة و عجيبة ، و يرتضون أسماءً تختارونها لهم .. ولكنهم في كل مرة حين تتركونهم ، يعودون إلى بيوتهم و شقوقهم و ما تبقى من منازل و شوارع و أزقة ، مزكومين من رائحة غريبة ، ليس لها أصل و لا تعريف .. فيعود الغزيون إلى دوامة البحث ، و الصراع ، مع كل شئ و أي شئ ، حتى مع أنفسهم .. يصبحون على رأي و يمسون على عكسه ، يتحدثون و ينظرون إلى الجدران خشية أن تنبت لها آذان تسمعهم ، ينتظرون آخر الشهر لينسلوا من كل فج عميق ، إلى البنوك قبل أن تطالهم تقارير تتهمهم بالخروج و المروق ، يمشون بإبتسامة لا حياة فيها ، خشية أن يُتهموا بجريمة الإتصال برام الله ، ينتظرون مواربة باب معبر رفح ، لينطلقوا إلى الفضاء ، و ترمى الجوازات في وجوههم ، ينامون على الأرصفة ، ليلحقوا بمراكب الموت و الهجرة إلى المجهول ، فعلى أي حال هو أفضل من المعلوم ..
و تسألونهم اليوم ، لماذا تتصارعون ، و تنقسمون و لا تتوحدون ؟؟!!..
نعم ، الغزيون كانوا في المؤتمر السابع لحركة فتح ، غير موحدين ، و على قلوب شتى ، و ضربوا للناس مثلاً ، و صورة ليوم القيامة ، وفر الأخ من أخته .. من أجل منصب هنا أو هناك ، عله يلحق بركب الناجين .. أصحاب العناوين الجديدة و يدخل أبناءه مدارس نظيفة ، و يعيش في بيت فيه كهرباء ، و ثلاجة تدور ليل نهار ، ثم بعد ذلك يفكر بالتحرير و القدس و اشياء أخرى ..
لا تلوموا الغزيين ، ولا تسألونهم عن أسباب تبعثرهم ، و تشتتهم ، بل و تفرقهم و صراعهم ، و إنقسامهم على أنفسهم "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم" ..
الآن ، و قد إنفض المؤتمر ، " وغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" ، الأفضل أن لا نتكلم ، و نتلاوم ، و بالذات ، أهل غزة ، إبتعدوا عنهم بألسنتكم و تحليلاتكم و إقتربوا بقلوبكم و عقولكم، و فكروا ، كيف نعيدهم ، و كيف نعود إليهم .. و الخطوة الأولى ، أن تصبح غزة مكاناً للقادة ، لا مزاراً ، أن تصبح غزة ، و أهلها عنواناً ثابتاً و دائماً .. (و اللي مش عاجبة ، يطق ، ينفلق ) .


