القرار الوطني المستقل بين الأمس واليوم ...مهند عبد الحميد

الثلاثاء 06 ديسمبر 2016 08:22 ص / بتوقيت القدس +2GMT



 

 

حاولت الهيئة العربية تشكيل حكومة فلسطينية مؤقتة فور خروج الانتداب البريطاني من فلسطين، لكن الدول العربية عارضت ذلك، وكان التطور اللافت للنظر هو تهميش الهيئة العربية العليا وإخضاعها للقرار العربي الخاص بفلسطين، وبخاصة في سنوات التطهير العرقي التي بدأت في العام 1947 وتواصلت في العامين 48 و49. كانت جامعة الدول العربية تتخذ قراراتها دون العودة الى القيادة الفلسطينية ( التي نفي أكثرها خارج فلسطين وبقي عدد أقل في فلسطين)، القرار العربي شمل جيش الإنقاذ الذي كان يخضع للقيادة العربية ولدعمها المالي والعسكري. في ذلك الزمان ساهم الانتداب البريطاني والقوات الصهيونية المنظمة في تفكيك أنظمة القوة السياسية والعسكرية الفلسطينية، ما أدى الى تسهيل عملية التطهير العرقي. 
لقد دُمرت التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، ودُمر المركز المديني الفلسطيني، وشرد المقتلعون في مناطق الجوار، وانهارت القيادة والحركة الوطنية وتكيف بعضها مع أحزاب وتنظيمات يسارية وقومية بمسميات أسقطت الهوية الفلسطينية، وأُدمج اللاجئون في الأردن ومعهم الضفة الغربية بالنظام السياسي الأردني، وأُلحق قطاع غزة بمصر، واستُبعد اللاجئون من الحياة السياسية في مصر وسورية ولبنان. عندئذ تراجعت الكيانية والهوية الفلسطينية وأصبحت القرارات الخاصة بالقضية الفلسطينية تتخذ في الجامعة العربية وأصبحت الدول العربية تمثل التجمعات الفلسطينية. لم يكن في ذلك الوقت ما يُعرف بالقضية الوطنية الفلسطينية او المشروع الوطني. كانت القضية تعرف بقضية لاجئين مطلوب مساعدتهم وإغاثتهم وتعليمهم فقط عبر "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين" التي تشكلت لهذه المهمة الإنسانية البحتة. ولم يندرج في برامجها مهمة إعادة اللاجئين الفلسطينيين الى وطنهم وديارهم تنفيذاً للقرار الدولي 194. وشُطِب التطهير العرقي من ذاكرة النظام الدولي الذي لم يعترف بالكارثة الفلسطينية ولا بتعريف الذين ارتكبوها.
انتقل الشعب الفلسطيني الى محطة جديدة عندما، انخرطت أجيال جديدة من اللاجئين في التعليم بمستوياته المختلفة، إضافة الى العمل في أسواق العمل الجديدة في الخليج والسعودية، المترافق مع إعادة بناء المجال الاجتماعي في مختلف أماكن تواجدهم، ومع حضور الثقافة الوطنية (الشعر والأدب والمسرح والصورة والرسم والغناء والموسيقى والفلوكلور الشعبي ) التي كان رافعتها ومركزها مناطق الـ 48، أدت هذه العوامل المجتمعة البدء بتوليد حركة وطنية فلسطينية جديدة تستعيد الهوية الوطنية من خلال عملية الانخراط بالتحرر وانتزاع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. كانت الإرهاصات تدفع بعض النخب للبحث عن إطار سياسي فلسطيني مستقل من خارج السيطرة العربية الرسمية. ومع تزايد المنظمات الفدائية التي شرعت بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي عبر الحدود العربية ومن الضفة الغربية وقطاع غزة. في هذا السياق، بادرت جامعة الدول العربية بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1964. كان الهدف العربي الرسمي من وراء تأسيس منظمة التحرير من شخصيات تدور في فلك هذا النظام او ذاك ومنفصلة عن التجمعات الفلسطينية وبخاصة (المخيمات) ومعاناتها، هو قطع الطريق على الحراك الثوري واستيعابه في نظام فلسطيني يضاف الى أسرة الأنظمة العربية. كانت النتيجة إيجابية من زاوية إعادة بعث الهوية الفلسطينية. منذ ذلك التاريخ بدأت تتشكل حركة وطنية فلسطينية مستقلة بقيادة حركة فتح التي نجحت بعد هزيمة 67 وتفجيرها للثورة باستعادة القرار الفلسطيني وبإطلاق الهوية الوطنية وبالإفلات من سيطرة العائلات التقليدية المرتبطة بالأنظمة العربية. تعزز القرار الفلسطيني المستقل باعتراف القمم العربية بالمنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وباعتراف الأمم المتحدة بالمنظمة كعضو مراقب في الجمعية العامة، وفيما بعد الاعتراف العربي والدولي بدولة فلسطينية وفتح السفارات في اكثر من 100 دولة. نجحت المنظمة في درء استخدامها كورقة ضغط من قبل بعض الأنظمة العربية حتى لو كان ذلك على حساب الشعب الفلسطيني. 
إذا كان النضال التحرري والالتفاف الفلسطيني الواسع جدا شكلا رافعة للقرار الفلسطيني المستقل بحدود نسبية، فقد تعاملت قيادة عرفات مع التدخلات العربية في الشأن الفلسطيني بمرونة وحنكة، حين أشركت المنظمات الملتحقة بالأنظمة العربية في صياغة القرار الفلسطيني ضمن حصة محددة لا تمس جوهر القرار. وراعى مصالح وسياسات دول عربية أخرى. كما أخذ بالاعتبار مواقف دول كبرى كالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة إضافة للاتحاد الأوروبي. 
غير أن القرار المستقل كان يصطدم بالمال السياسي الذي يقدم للمنظمة، فقد حجبت دول الخليج دعمها المالي الهائل للمنظمة بعد مراعاتها لابتزاز نظام صدام حسين الذي ربط الانسحاب العراقي من الكويت التي احتلها وضمها للعراق بانسحاب إسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة . وهنا اكتشفت المنظمة ان الاعتماد على الدعم المالي الخارجي يلعب دوراً خطيراً في زعزعة استقلال القرار او في دفع الأثمان، وفي هذه الحالة فإن تحمل الضغط المالي يعتمد على أهلية البنية التنظيمية والمالية التي لم تكن تسمح بذلك، وذلك بعد أن اعتمدت المنظمة والفصائل سياسة مالية ريعية ولم تنجح في تطوير الموارد الخاصة داخل المجتمع ووسط التجمعات. او في إدخال أموال التبرعات في دورة انتاج او مشاريع وتعاونيات إنتاجية. 
ذهبت المنظمة الى مؤتمر مدريد "للسلام" بشروط قاسية بفعل الضغوط العربية والأميركية التي مورست، وقد تخلخل القرار المستقل في ظل تراجع الدعم العربي، وكان العنصر الأهم والأقوى في الحفاظ على ماء الوجه لأصحاب القرار المستقل هو الالتفاف الشعبي والمؤسساتي في القدس والضفة وغزة حول منظمة التحرير. لكن النقلة الأخطر في زعزعة القرار المستقل كانت بعد أوسلو وتحديداً بعد وضع اتفاقية القاهرة التي ترجمت تلك "المبادئ" بمفهوم إسرائيلي بحت. حاول الرئيس عرفات الانسحاب وعدم التوقيع لكنه جوبه بضغوط كبيرة من نظام حسني مبارك. التوقيع والتطبيق الذي ما بعده وبخاصة البنود الأمنية التي طالبت السلطة بكبح كل من يحاول تهديد الأمن الإسرائيلي في الوقت الذي تنتهك فيه دولة الاحتلال كل الحقوق الفلسطينية. كان من شأن ذلك إضعاف استقلالية القرار. 
نجح الرئيس عرفات في الحفاظ على القرار المستقل أثناء وبعد مفاوضات كامب ديفيد وحاول أن يستقوي بالانتفاضة والمقاومة، لكن الهجمات التي استهدفت مدنيين إسرائيليين داخل المدن الإسرائيلية، أتت عليه وعلى القرار المستقل. وبدأت مرحلة جديدة من التدخلات التي عصفت بالقرار المستقل بالاستناد للقمع الدموي الإسرائيلي ودعم المانحين المشروط والوعود الكاذبة بإقامة الدولة الفلسطينية. ولكن بعد فشل المفاوضات عام 2008، بدأت محاولات فلسطينية جديدة للتملص من الممنوعات، فكان الذهاب للأمم المتحدة والتصويت على عضوية مراقب والانضمام للمنظمات الدولية يعبر عن قرار فلسطيني مستقل. غير ان الدعم الدولي المشروط والضغوط الإسرائيلية وعدم إشراك قطاعات جماهيرية واسعة يهدد كل خطوة استقلالية. ما أود قوله أن القرار المستقل بدون توفير المقومات لا يصمد طويلاً. 
Mohanned_t@yahoo.com