بتاء التأنيث، هكذا "حركة" فإن نصيبها من اسمها هو الأنثوية، وهذا يعني أن طبعها هو الأمومة، ولذا فإنها الحركة الأم للشعب الفلسطيني بتماهيها مع المنظمة والثورة والدولة، وكما كانت الكنيسة التي يقول علماء اللاهوت المسيحيون تزوجها السيد المسيح، ومن بعده الباباوات فقد اقترنت هذه الحركة الأمومية بالآباء، وهكذا يدعون بأبوتهم وليس بأسمائهم الأولى على الأغلب، وان الضلع الثالث في هذه المحاكاة هم الأبناء ويقال أبناء فتح. وقد كان دوماً غريزة الأمومة هي الولادة، هكذا في أغنية الشيخ إمام عن مصر: "يا ولادة يا ست الكل يا مهرة".
واستطراداً في هذه المحاكاة وقد ولد الفن في البدء من رحم هذه المحاكاة، فإن أسطورة الأب القتيل هنا تكتسب صفة الرمز أي الجليل والمقدس، وهكذا هو موضع ومكان ياسر عرفات في هذا السياق الفريد لحركة كانت فريدة السيرة والطابع، هو أقرب في هذه المحاكاة إلى الإباء التاريخيين الذين كانوا يمتلكون هذه الهالة الأسطورية، غريكو أبو الإغريق اليونانيين، وروملس أبو الرومان، وأتاتورك أبو الأتراك. وهكذا فإنه يدعى هذا الأب "أبو الوطنية الفلسطينية" بل "أبو الشعب الفلسطيني"، ياسر عرفات مؤسس هذه الحركة وإن أقرانه الأوائل يرتقون في هذه المحاكاة الى مرتبة الشهداء القديسين، أو الآباء الذين باتوا اليوم هم الأجداد، وقد اعتلوا السماء ليصبحوا بمثابة النجوم في الليل يهدون أبناءهم في طريقهم. وعدد آخر من تبقى منهم أسمائهم كلها كما في الأسفار القديمة.
وشرح بابا الكنيسة الحالي فرانسيس وهو فيلسوف كبير ومثقف، حين قال إن للكنيسة جناحين أو فرعين: الفرع الذي ينسب الى بطرس أي الذكوري، ويقال على صخرة القديس بطرس أخلص وأحب تلاميذ المسيح إلى قلبه، أقيمت كنيسة روما. أما الفرع الثاني فهو نسبة إلى أمنا مريم وهو أنثوي ويسمى بالمريمية، والمعنى الذي يفيد القصد ان القدرة على البقاء والاستمرار إنما كان يقوم على امتلاك هذا التوازن الفذ والخارق بين هذين المكونين او العنصرين القوة الصلبة والقوة الناعمة، وهو ربما ما قصده دارون بالقدرة على التكيف الذي يتفوق على الأداء، حتى بلغت من العمر الخمسين باتت كما الحية، وقد أصبحت قادرة على الالتفاف على نفسها وعض ذيلها، المثل الذي يطلق مجازاً على بلوغ الحكمة.
أنرى إلى صورتها الآن وقد تدرجت في عمرها الخمسين استطراداً في هذا المجاز، وكأنها قد تقلبت على ألوان الطيف الخمسة، ومن هذه الألوان الخمسة تتشكل جميع الألوان التي لا حصر لها؟ أم أنها تحاكي الصعود على أعمدة أو أدراج الحكمة السبعة؟ من الأحمر الناري ثم البرتقالي والأصفر اللذان يرمزان الى القوة والتماهي مع الشمس في الحقبة البطولية، وأخيراً إلى الأخضر والأزرق السلام والرؤية.
هيا ونحن نبلغ الأزرق في نهاية هذه الرحلة الطويلة، تبدو حين يقول الشاعر وكأنه يصف الحال اليوم وكما لو أنها نبوءة في باكورة تحوله في بنية القصيدة من الغنائية الثورية إلى الملحمة الشعرية، "إن التشابه للرمال وانت للأزرق". أم تراها التماهي مع أسطورة العرب القدماء عن زرقاء اليمامة؟. المرأة التي كانت تبصر على مدى ثلاثة أيام من السفر في هذه المحاكاة لاتساع الرؤية وقوة البصيرة التي ترمز إليها العين الثالثة؟
لعله هذا هو الانتقال الأكبر الذي يوازي في دلالته التاريخية اليوم انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة، حروب عرفات من الخارج عن القوس الممتد من خليج العقبة حتى رأس الناقورة. ثم إنشاء السلطة والانتقال من الثورة إلى الدولة.
كيف أمكنها إذن قطع كل المسافات في السير على هذه المنحنيات دون أن تنهار؟ حتى أنها تقف على عتبة تحقيق الغاية الكبرى أي التحرير والدولة؟ وقد ظن لوقت أنها بلغت سن اليأس؟ والجواب قد نجده في ماضيها في الأزمة التي صدرت أو نشأت عنها؟ إذ كيف استطاعت العام 1965 في ذروة صعود وتنافس بل تزاحم التيارات والأحزاب القومية والأيديولوجية في العالم العربي، أن تبرز كحركة مخالفة لكل هذه التيارات وتتحول بعد وقت قصير كما لو أنها الوريثة لكل هذه التيارات، والتي تقدم الجواب التاريخي على أزمة الأيديولوجيا العربية المعاصرة حين كانت الناصرية والبعثيون والشيوعيون والإخوان المسلمون يتصدرون المشهد من دون أن تأتي هي نفسها بأي أيديولوجيا؟.
هذه الحركة الجديدة الصاعدة التي حلقت في سماء العالم العربي وكأنها شهاب يجذب إليه وحوله كل مناضلي وثوار وأحرار العالم، عرباً وكُرداً وفُرساً آسيويين وأميركان لاتين بل وحتى أوروبيين، كما تجذب أفضل المفكرين العرب والأوروبيين. وكانت كلمة السر هي الوطنية الفلسطينية الخالصة، ولكن في بعدها التحرري الأممي الإنساني الأشمل، وبهذا البعد كانت هي أخت الثورة الجزائرية والفيتنامية والثورات الآسيوية والإفريقية. في الكفاح المشترك ضد الاستعمار ومن أجل تحقيق مبدأ العدالة التاريخية ضد العدو المشترك.
هذه هي الحركة الثورة أم الوطنية الفلسطينية كزيتونة لا شرقية ولا غربية لا يمينية ولا يسارية، أم الشعب الفلسطيني. فهل أدركنا الآن كما قال آباؤها الأولون ان قانونها هو المحبة والأخوة وأنها لا تقبل القسمة على اثنين، والجواب واضح لأن في انقسامها موتَها ودمارَها الذاتي، وان موتَها هو وحده يحيل الشعب الى اليتم، فقد يحدث الانقسام بينها وبين فصائل اليسار الفلسطيني في السبعينيات والثمانينات، ويحدث اليوم منذ عشر سنوات هذا الانقسام بينها وبين حماس، ويمكن التعايش معه. ولكن محظور ان يحدث الانقسام داخلها لأن هذا الانقسام وحده ما يقسم ظهر الشعب الفلسطيني. وهذا المحظور هو ما يستبطن الخافية اللاواعية للعقل الباطني الجمعي لكل أبناء الحركة والشعب الفلسطيني. وهل هذا الوعي الباطني الجمعي هو سر قدرتها على التجدد كما الطاقة السحرية المتجددة.
وهل كان هذا الحضور اللافت، ستون وفداً عربياً جاؤوا من اجل "فتح" في مؤتمرها السابع تعبيراً عن هذا الخوف والهاجس المضمر قلقاً عليها؟ وأنه كان مقصوداً من قبل الرئيس أبو مازن إظهار هذه القدرة بل العافية الصحية لكي يبعث برسائل الى جهات عديدة، وأولها إسرائيل في الإقليم ليقول لهم: هاكم أنا الثمانيني آخر ممثل بقي من جيل الشيوخ "الديسمبريين" الأوائل والذين قضى معظمهم قتلا واغتيالا على يد إسرائيل، أبدو أكثر عافيةً وصحةً وحيويةً ومن المبكر أن تحفروا القبر وتعدو للجنازة.
والذي يحدث أمامنا الآن عند هذا الفصل الأخير أن مأساة الأب القتيل لا تحدث كما في الأسطورة والتاريخ مرتين، وانما لمرة واحدة، وأن ما سمى ذات مرة في السنوات الأخيرة من حياة عرفات وهو محاصر في المقاطعة بصراع الأجيال، لا يبدو أنه ممكن التحقق في الواقع ما دام الصراع الأكبر مع إسرائيل لم يحل ويحسم، وهو الصراع والأزمة التي ما زالت تسد الطريق أمام حسم المنافسة التاريخية بينها وبين حماس.
ولكن لعل سر استعصائها ومناعتها وعظمتها على حد سواء، إنما يكمن على مدى الخمسين عاماً الماضية من عمرها بأن أحداً في الساحة الفلسطينية لا يمكنه ان يشكل بديلاً لأداء الدور الذي تلعبه، فقد فشل اليسار في عقد السبعينيات ذروة الكفاح المسلح في تجاوز دورها العسكري كما وزنها. واليوم فإن تفوق وتعاظم قوة "حماس" العسكرية تظل محصورة في غزة، ولا تستطيع "حماس" تجاوز دورها السياسي الدولي والعربي، باعتبارها هي المُحاور وأم الصبي والعنوان، الذي كان أكبر تعبير له هذا الحشد الاحتفالي والتظاهري الإعلامي والسياسي الدولي الذي رافق انعقاد مؤتمرها السابع حتى تحت حراب الاحتلال في رام الله.


