شكل وعد بلفور محطة فاصلة في تاريخ فلسطين المعاصر، مُنحت بموجبه دولة الاحتلال أرض فلسطين على حساب أهلها في تخلص غربي من يهود العالم. وبعد مائة سنة من عمر هذا الوعد المشئوم تقف القضية الفلسطينية أمام مفرق طرق مساراته التقليدية تحمل أوزار فشل برنامج التسوية، وحالة الانقسام الداخلي، وتراجع الحاضنة العربية الداعمة للشعب الفلسطيني. هذه العناوين الرئيسية من التراجع والإخفاق، جعلت من الموقف الرسمي الفلسطيني يعاني أمام عنجهية الاحتلال وبطشه، وألقت بحملها على كاهل المواطن الفلسطيني الذي أصابته خيبة أمل كبيرة من البرامج المطروحة على الساحة الداخلية، وأصابته بحالة إحباط شديدة على كافة المستويات.
وقد نظم مركز غزة للدراسات والاستراتيجيات التابع لأكاديمية الإدارة والسياسة للدراسات العليا مؤتمر الأمن القومي الفلسطيني الرابع بعنوان مائة سنة على سايكس بيكو ووعد بلفور.. فلسطين إلى أين؟ في مدينة غزة ، وشاركت في حضور جلساته، لأجد المشهد الفلسطيني الحالي يتجسد في تفاصيل جلساته، التي تنوع المشاركون فيها من كافة التوجهات الفلسطينية والأحزاب بجانب الأكاديميين والباحثين وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات الفلسطينية، وقد لفت نظري خلال مداولات المؤتمر، الحوارات التي جرت بين المشاركين، في تمثيل لحالة البرامج على الساحة الفلسطينية فوجدنا المُنظّرِ لبرنامج التسوية والمدافع عنها، وآخر يتبني الجمع بين المقاومة والسلطة، وفريق آخر يتبنى المقاومة كخيار وبرنامج للتحرير. وبعيدا عن الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، فقد سمعت كلاماً لا لَبْسَ فيه عن إيمان طرف المنظمة والسلطة ببرنامج التسوية، على الرغم من فشلها، حتى وان تغنى بأنه صاحب الطلقة الأولى، ورفع شعار المقاومة. وأما من يحاول الجمع بين المقاومة والسلطة فقد كان يعتز بخياره ويرى في نفسه المصلح والموجه الحقيقي لأجهزة الأمن نحو المقاومة ودعمها، ويهاجم الآخر الذي لم يترك الفرصة لكي يرد عليه وبحماسة كبيرة معبراً عن رفضه لمنطق التخوين، بل ومعايرة خصمه السياسي بأنه سار على نفس النهج حتى فيما يتعلق بالتنسيق الأمني مثلا.
وبين هذا الطرف ونقيضه، تسرب إلى الحضور صوت هادئ ومطمئن يدافع عن خياره- وقد لاقى استحسان الحضور جميعاً بمن فيهم الخصمين الرئيسيين- يعاود التأكيد من جديد على برنامجه المقاوم ويدفع برؤيته في محددات ثلاث (رافعة للأمة، فوق المحاور، بوصلة تصوب المسار) يتحدث بصراحة عن عمق الحاجة لمصالحة لا تأتي كمقدمة للتسوية، ويحافظ على الجسم الشرعي الوحيد الممثل للفلسطينيين، ويرى في الرئيس أبو مازن صاحب القرار الأهم في الدفع بالمسيرة نحو مسار محدد المعالم، وواضح الأهداف والآليات، تحت مظلة حوار وطني جامع. أعلام السياسية وأصحاب الفكر والبحث الأكاديمي، واعتقد أن هذا يشكل انعكاساً للحالة الفلسطينية بشكل عام.
نحن كفلسطينيين بحاجة ماسة إلى حوار وطني مفتوح على قاعدة مشاركة الجميع دون رغبة في إقصاء أو تخوين، بل في منطقية وقراءة واعية للمشهد الداخلي والوضع الإقليمي والدولي، فالجمهور الفلسطيني ينتظر من ساسته أن يحلوا العجز الذي أصاب برنامج التسوية وان يقدموا إضافات نوعية لبرنامج
المقاومة تؤهله للمضي قدماً نحو تحقيق المشروع الوطني. كذلك نحن بحاجة للبحث الحقيقي والجدي في وضع آليات عملية تضمن تعزيز صمود الناس، وتقوم بدعم الشعب، حتى يمكن الحفاظ على الحاضنة الشعبية لأي برنامج. فلا يمكن أن نترك المجال لأجسام تشبه روابط القرى تعمل على إدارة
المرحلة في استغلال لحاجات الناس وظروف معاناتهم باسم الوطن وفلسطين. ما حملته وقائع جلسات مؤتمر مائة سنة على وعد بلفور بغزة، ترسم لنا ملامح الواقع الفلسطيني الحالي، وتستدعي من الجميع أن يدرك أن حالة الانقسام الداخلي مكنت دولة الاحتلال من تمرير مخططاتها، فلا يعقل أن ندين بريطانيا وبلفور، وأن نقنع أنفسنا بذات الوقت أن هناك منا من يستطيع أن يخرجنا من هذا المأزق الخطير بشكل منفرد. مفترق الطرق الذي نحن أمامه بحاجة إلى مصالحة وطنية قائمة بالأساس على تحديد خيارات وسائل التحرير وبرنامجها، بما يعالج قضايا تفصيلية في آليات دعم صمود الناس، دون
الارتهان إلى لقمة العيش، ودون تكبيدهم أثمان باهظة لصمودهم ومقاومتهم. هنا المعادلة وهنا المسئولية، والتقط رسالة احدهم واذهب بها إلى أصحاب الفكر والبحث، وادعوهم إلى عقد مؤتمر يبحث في مستقبل المقاومة الفلسطينية وكيف يمكن استثمار الطاقات الفلسطينية في هذا الإطار.