اتخذت إدارة "وفا" قرارا جائرا بحق بعض موظفيها في غزة ، بحجة أنهم غادروها للإقامة في مصر أو في بلدان أخرى، فاوقفت صرف رواتبهم مشترطة عودتهم لإعادة صرف الراتب أو فصلهم أن لم يعودوا.
لأ اعرف ، في الحقيقة، ما إذا كان هناك نص في قانون أو نظام أو لائحة يمنع الموظف في غزة من المغادرة للإقامة خارجها. ما اعرفه ان العلاقة بين السلطة وموظفيها علاقة شرطية : العمل مقابل الراتب،وقد نشأ وضع خاص لموظفي غزة ،بعد الانقلاب، بما ألغى العلاقة الشرطية تلك بل ذهب بها في اتجاه معاكس إذ طلبت السلطة من موظفيها الامتناع عن العمل مقابل صرف الراتب، واستجاب الموظفون لطلب سلطتهم وامتنعوا عن العمل كي يضمنوا استمرار صرف رواتبهم.والسؤال هو: طالما أننا لا نريد من هؤلاء الموظفين عملا ولا صلة لنا بهم فلماذا نطلب منهم العودة؟ ما هي الرسالة التي نوجهها لهم في ميزان العقل والمنطق ؟ أليست: عودوا إلى غزة لكي لا تفعلوا شيئا!!.
في التفاصيل الخاصة بحالات محددة بين هؤلاء الموظفين ما يحول قرار " وفا" من إجراء عبثي إلى إجراء مؤذ وفادح الضرر.هاهنا بعض النماذج: أحد هؤلاء الموظفين اعتقلته أجهزة أمن حماس عام 2009 عدة مرات وعادت لملاحقته عام 2010 ولم يجد مناصا من التسلل خلسة إلى مصر عبر الانفاق، حيث رتب أوضاعه واستقدم زوجته لتعيش معه في القاهرة براتبه المتواضع. هل يجوز ارغامه على العودة إلى غزة لكي لا يفعل شيئا هناك؟ وإذا جاز ذلك بشأنه فلماذا نجد المئات من موظفي غزة يعيشون في القاهرة وتصلهم رواتبهم بانتظام؟
نموذج ثان: إحدى موظفات " وفا " في غزه متزوجة من ضابط في الأمن الوقائي، وقد اضطر زوجها للمغادرة بعد الانقلاب ولحقت هي به لتحافظ على أسرتها وتربي أولادها، وها نحن ننذرها: ضحي باسرتك وعودي إلى غزة لكي لا تفعلي شيئا!.
موظف ثالث أصيب بمرض عضال لا علاج له في غزة فغادر للإقامة عند ذويه ، وعليه ان يعود الآن. لماذا؟ لكي لا يفعل شيئا.
موظفة رابعة ضاقت سبل الحياة بزوجها في غزة وعاش سنوات بعد زواجه منها عاطلا عن العمل ثم أتيحت له فرصة العمل في السودان فغادر غزة وطلب من زوجته الالتحاق به، فهل تفعل ام تبقى في غزه لكي لا تفعل شيئا؟.
لكل من هؤلاء الموظفين الاثني عشر قصة تنطوي على مبرر قوي للإقامة في الخارج فما هو مبرر الإدارة التي اتخذت القرار وما هو مبرر السلطة التي نفذت هذا الإجراء لارغامهم على العودة؟.هل نحن نخشى الهجرة الجماعيه لكوادرنا مثلا؟
انظروا إلى حال معبر رفح الذي يمر منه بالكاد بضع مئات من المواطنين سنويا. ربما نريد الحفاظ على مواردنا البشرية التي سنواجه بها سلطة حماس المستبدة في القطاع ! هذا مثير للسخرية حقا، نحن لا ننوي المواجهة ولا نمتلك اي استراتيجية لها، ما نملكه هو الحوار مع حماس في احسن الاحوال والدعاء عليها في اسوءها، وحسب.
ان احدا من هؤلاء الموظفين لم يهاجر،ولم يطلب لجوءا سياسيا في دولة أوروبية، ولا مورد لأي منهم سوى ذلك الراتب المتواضع الذي بالكاد يسد الرمق. وبالمناسبة فأنا أعرف موظفا في هيئة الإذاعة والتليفزيون هاجر إلى النرويج وفصل من الخدمة ثم عاد زائرا، بعد نيله الجنسية، مزيدا بكتاب من التنظيم يقول فيه انه يحتاج ذلك الموظف في " ساحة النرويج " وبقفزة فذة استعاد الموظف النرويجي راتبه وحقوقه على ملاك جهة أخرى غير الهيئة.
لماذا اتخذ هذا القرار طالما هو يفتقر إلى الأساس القانوني والجدوى العملية والمبرر الأخلاقي؟ في ظني أن هناك سببا واحدا فقط هو استضعاف موظفي غزة. إنهم بعيدون، لا يصل صوتهم،وان وصل فليس ثمة من يهتم ، وان كان هناك من يهتم فلا أحد سيفعل شيئا لحماية حقوقهم من الانتهاكات المستمرة ضدها.
الإجراء الذي اتخذته "وفا" ، وسواه من الإجراءات التي المشابهة التي تتخذها وزارات ومؤسسات السلطة الفلسطينية، تنكأ جرحا عميقا في العلاقة بين السلطة وموظفيها في غزة. لا يمكن اختصار الموضوع برواتب موظفين غادروا القطاع، فهو يطال كل ما يتعلق بموظفي غزة من حقوق وواجبات، بل أكثر من ذلك إذ هو يشمل الفجوة الخطيرة الناشئة بين الطرفين بفعل الإهمال والتجاهل والتقصير الذي اشاع اسما جديدا للسلطة الفلسطينية بين موظفي غزة هو " سلطة رام الله "!.
ينظر موظفو غزة إلى الجهاز الحكومي في السلطة الفلسطينية بخوف وارتياب متأصل في نفوسهم، يعتقدون أنه جهاز متربص بهم متأفف منهم ، لا ينفك يشعرهم بكل السبل بأنهم عبء عليه وعالة على مواطنيها، وينتهز كل فرصة ليحرمهم مما تبقى لهم من حقوق أو استحقاقات.
لا يعرف هؤلاء الموظفين حقوقهم، وعلى الأغلب فإن مؤسساتهم لا تعرف أيضا. هل يستحقون الترقية مثلا؟ ربما يبدو السؤال بسيطا لكنه غير ذلك حتما.
لقد نال بعضهم ترقية مستحقة إلى درجة أعلى، ووصله إشعار من ديوان الموظفين العام بذلك لكن وزارة المالية أوقفت تنفيذ تلك الترقيات سنوات دون سبب واضح، وينطبق الشيء نفسه على العلاوات والبدلات والمواصلات وغيرها. وأسوأ مافي الأمر أن وزارة المالية لا تجد نفسها مضطرة للتوضيح أو التفسير.
كان المدير السابق للتلفزيون في غزة ، والمدير الحالي أيضا ، يمضون ساعات في أروقة وزارة المالية برام الله بحثا عن جواب فلا يسمعون سوى عبارة واحدة : شاشة غزة مقفله. من اقفلها؟ ولماذا؟ وإلى متى ؟ لا أحد يعرف ولا احد يجيب. بالالحاح في طلب الايضاحات يقال لهم أن هناك قرارا بالامتناع عن إجراء أي تغييرات على رواتب الموظفين في غزة، وهو قرار شفهي، ولا نعرف الجهة التي أصدرته !. هكذا إذن، أشباح تتحكم في حياة هؤلاء الموظفين وتقرر مالهم وماعليهم.
أما كان يجدر بمجلس الوزراء، وقد اتضح له استطالة زمن الأزمة في غزه، أن يضع بروتوكولا أو نظاما أو دليل إجراءات يوضح للموظف حقوقه وواجباته في هذا الظرف الخاص ويرسم للوزارات والمؤسسات ماعليها اتباعه من إجراءات بخصوص موظفيها هناك ؟ ام ان الامر لا يستحق!.


