( الحلقة الرابعة )
(تلخيص : في الحلقة الثالثة شرح الكاتب بعض مرتكزات جمهورية النبي ، و أنها كانت دولة مدنية ديمقراطية تقوم على الشورى ، تفصل الدين عن الدولة و أنها كانت علمانية !! في حلقة اليوم ، سيلقي مزيداً من الضوء و يوضح وجهة نظره)
* * *
تأملوا معي هذه البنود من ميثاق المدينة أو دستور الجمهورية المصطفوية الأولى :
· أن يهود بني عوف "أمة مع المؤمنين " ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم ، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ ( يعني يهلك و يضر ) إلا نفسه وأهل بيته.
· وأن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
إنشاء الدول على أسس عقائدية دينية كان في العصور الوسطى وكان يعاني منها هناك بعيداً ، خلف البحار و المحيطات ، شعوباً أوروبية وقعت تحت نير سيطرة الكُهَّان و مُمتَطي السلطة بقناع الدين، إلا أن دولة رسول الله عليه الصلاة و السلام تجاوزت هذه النقطة ، و أرست قواعد المواطنة ، وجعلت مفهوم الأُمّة ليس مفهوماً مِليّاً ، بل مفهوماً سياسياً ، وهنا لا أريدُ أن يُخلَط بين ما أقول وبين ما ذَهبَ إليه المُفكِّر العِراقيّ عبد الرازق الجبران ، حيثُ تَناوَل جُمهورية النبيّ من منظور وُجُوديّ فَلسَـفيّ ، ولكني هنا أُناقش تراكمات و أمثلة تاريخية و محطات وَجَبَ التَّوقف عِندَها و تَأّمُّلها لِفهم أسباب إنهزامنا ،و تفرقنا ،و تَصديرنا دائماً أزماتنا و نَكَسَاتنا للآخرين و إتَّهامهم ، بينما نحن من زيَّن المَسجد بالذَّهب و جوّع الشعب ، باسمِ الدِّين و نَحنُ من هَجَـرَ القُرآن و تَمَسَّك بالرِّواية و إن ضَعُفَت ، نَحنُ مَن قَدَّسَ الأئِمَّة و عَبَد السَلاطِين ، و نَسينا أنّ نَبيّ الله ، الرَّئيِس الزَّعيم ، كان يرفُض أن يَقِف له أصحَابه و أَتباعَه ، نَحنُ من زَاغَ عن الصِّراطِ المُستقيم ،صحيفة المدينة نصَّت على أن يهود بني عوف أمَّةٌ مع المؤمنين ، رغم كَونهم يَهوداً ، أليسَ هذا هو ما يُسمى الآن بعلم الإجتماع السياسي ؟ اليهود أمَّة مع المؤمنين !! إذن فهذا تصريح واضح وضوح الشَّمس ، بأن اختلاف العُنصُر أو العًقيدة أو الدِّين أو المَذهَب لا يُلغي أبداً الإنتماء إلى الأُمَّة ،و لغير المُسلم رغمَ إختلاف دِينه و شَرائِعه حُرية التصَرّف الإقتصادي وفق مفاهيمه و معتقداته و دينه ، له نفقته ..و للمسلمين نفقتهم ..في إطار القانون الجامع و الدستور الشامل ، يجمع الكُل ، وطنٌ واحِد ، لأمة واحدة ، الدين لله .. و الوطن للجميع .. هذا الشعار و بكل وضوح رَفَعته و أعلنَتهُ ، بل و طَبّقته ومَارسته على الأرض الجُمهورية الأولى ، دولة النبيّ قبلّ أكثرَ من الأفِ و أربعُمائة عام .. و الغريب العجيب أنه ما زالَ بيننا من يَرفض فِكرة مَدَنية و عَلمَانِية الدّولة ! و يعتبر فصل الدِّين عن الدَولة خَطيئة و كُفر و يعتبر العَلمانيَّة ، دُون وَعيّ ، بأنها كلها علمانية غَربية تُحارب الدّين و تَهدف إلى إسقاطه . و بالقطع هذا تطرف في التفسير و خطأ في الفهم .. سأحاول توضيحه لاحقاً ..و المهم هنا ، وقد تحدثت عن الجمهورية الأولى ، بقصد إستلهام العبر، و الرجوع إلى الأصل ، و فهم طبيعة الأرض التي نقف عليها اليوم ، و هل ما ينادي به الكثير من أبناء أمَّتنا العَربية و المُسلمة ، لعودة " نظــام الخلافـــة " و إقامة " الدولة الإسلامية " ، هل تتماشى مع قوانين الجمهورية الأولى ؟ وهي النموذج و المثل الأعلى ؟ هل نترك ما بناه محمد عليه الصلاة و السلام ، و نتمسك بما بناه ملوكٌ و سَلاطِين بدءاً من الحقبة الأُموية ، و نعتبرها هي " الإسلام و هي الأنموذج الأفضل " و أن " الجمهوريات المصطفوية الخمسة " ليست نماذج تحتذى ؟
إذا كان الأمر كذلك .. و بواقع التَشابُه الجَليّ بين مَمالِك العَرب المُسلمين بدءاً من العَصر الأُموي و ما تَلاه ، مع مَمَالِك و إمبراطوريات الغرب ، البيزَنطية و الرُومانية و غيرها .. فَمِن حقنا أن نتساءل هنا من الذي يَلهَثُ خَلف التَّغريب ؟ و مَن الذي يُقلِّد بِعِلم أو بِجَهلٍ و انْسِيَاق و يبني خُططه على أُسس و منطق و رؤية غريبة غربية ؟ والتي ثبت بالممارسة أنها جميعا إلى زوال و سقوط و خراب .. فباطل كل ما بني على باطل ..
بل أنني أستطيع القول ، أن ما سبّب حالة التَشَظِّي ، و الِإنقِسام ، و انْفِراطِ عِقدِ الأُّمة هو دَعمُ ومُساندة تِلك الأَنظِمة للطائِفية و تأجيجها لِنار الفِتن السياسية المُتَلحِّفة بثوب الدّين ، و من ثمّ ترويجها لفكرة الحكم بأمر الله أو ما يعرف بالحكم الثِيُوقراطِي، و أن الحاكمية لله ، كلمة حق يراد بها باطل .. و هي بداية إنفلات وحش ما يعرف بالإسلام السياسي ، حتى أصبح التخوف من مشروع الدولة الإسلامية ، له ما يبرره منذ بدايات عهود الحكم الثيوقراطي أو الديني و إنفلات المذاهب و إنتشار الجدل و علم الكلام و السفسطة ، و بناء هيكل القُشور و البُعد عن لُب الحقيقة ، و الإهتمام بتفاصيل الشكل و الهيئة و زينة المسجد دونَ رسالته ، فالجاهلية التي هدمها محمد عليه الصلاة و السلام ، أعَادها الجهل و بنى لها صروحاً مزينة ، كم عالِم و مُصلح و شَيخ و مُـفكر تم إعدامه بحد الردة و باسم الدين الذي تعتقد به طائفة دون أخرى ؟ هذا الحد الذي وُضع و فُصِّل على قالب سياسي ،ولكن بإسم الدين ( الجامع) ..ذُبِحُوا و عُذِّبُوا ، و كأن تلك الطائِفة أو الجَماعَة هي من يُمثل الدِّين كلّ الدِّين ..في حين تُرك الكثير من الزنادقة و الدَّجالين و الفاسدين طُلقاء ، بل و نُصِّبوا و تم توليتهم أموراً هامة .. تماماً كما كانت أنظمة الحكم الإمبراطوري و الملكي الغربي سبباً في إنفلات وحش المسيحية السياسية و تسلط الكهنوت و القساوسة على شئون البلاد و العباد ..
إن الدولة الأنموذج ، الجمهورية المصطفوية ، جمهورية النبي وما تلاها من جمهوريات أربعة مصطفوية راشدة ، أبعد ما تكون ، شكلاً و مضموناً ، عن شكل ومضمون الإمبراطوريات العربية الإسلامية التي بدأت بإمبراطورية بني أمية .. و يكفي أنها و بكل صراحة ، سُميت بإسم أصحابها " أموية" . يتبع ...


