كيف يمكن لشبان، ولدوا في فرنسا، ويتحدثون اللغة الفرنسية، وعاشوا في مدنها، وتعلموا في مدارسها، أن يمارسوا الإرهاب ضد مواطنيهم الفرنسيين؟
سؤال حَيَّرَ فرنسا يميناً ويساراً ووسطاً، والجميع يحاول الإجابة عنه. بعد العمليات الأخيرة، أكثرية الفرنسيين تتوقع أعمالاً إرهابية في الأيام والأشهر المقبلة، وكأنهم سلموا بالأمر الواقع وبدؤوا يتعايشون مع آفة الإرهاب التي انتشرت في العديد من الدول.
وكانت فرنسا قد تعرضت في العام 2015، لموجة من العمليات الإرهابية، بدأت بالهجوم على مجلة شارلي إيبدو الذي أوقع 12 قتيلاً، وأعقبها هجمات تشرين الثاني 2015 التي قتل فيها 132 شخصاً في مسرح «باتاكالان» وإستاد «دو فرانس» الرياضي وأماكن أخرى. واستؤنفت العمليات في العام 2016 كعملية دهس بشاحنة قتل فيها 84 مواطناً في احتفالات مدينة نيس، وكان أبشع العمليات وأكثرها استفزازاً عملية ذبح الكاهن المسن جاك هامل (84 عاماً) على يد إرهابيين في كنيسة مدينة روان.
العمليات هزت المجتمع الفرنسي وجعلته يعيش حالة من الهلع، إلى درجة أن إنذاراً كاذباً أدى إلى انفضاض المواطنين وهم في حالة ذعر وسط العاصمة باريس.
الغريب في الأمر أن وسائل الإعلام الفرنسية الشعبية تستضيف محللين أمنيين إسرائيليين ليقدموا الخبرة الإسرائيلية في محاربة «الإرهاب الفلسطيني». ولا يتورع هؤلاء المحللون عن دمج كل النضال التحرري الفلسطيني بالإرهاب، وعن طمس مسألة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. والأغرب في الأمر أن المجتمع الفرنسي الذي اشتهر بتعاطفه مع نضال الشعب الفلسطيني يتعرض الآن إلى ما يشبه غسيل دماغ، دون أن تتاح له فرصة الاطلاع على الرأي الآخر. وهذا يطرح سؤالاً حول دور السفارة الفلسطينية والمؤسسات الداعمة لنضال الشعب الفلسطيني.
الحكومة الفرنسية أعلنت حالة من التأهب لمواجهة خطر الإرهاب، وقد جرى تمديد نظام حالة الطوارئ المعمول بها منذ أواخر 2015، وعززت الحكومة من مشاركتها العسكرية في حرب التحالف الدولي ضد الإرهاب داخل العراق وسورية وليبيا، وصعدت من نشاطها الأمني في مالي وساحل العاج، معتقدة أن هزيمة الإرهاب في تلك البلدان سوف يضع حداً للإرهاب في فرنسا.
ويلاحظ هنا أن الموقف الرسمي الفرنسي يتعامل مع السبب الخارجي كعامل وحيد تقريباً في نشوء الإرهاب وتصاعده داخل فرنسا وأوروبا، ويرى في الحل الأمني المتمثل بالقضاء على بؤر الإرهاب في الخارج حلاً شافياً.
اليمين الفرنسي المتطرف يرى أن المشكلة هي في داخل فرنسا ويحصرها بالفرنسيين من أصول إفريقية مسلمة وعربية، ويرى في المواطنين من أصول إفريقية علة العلل، مستنداً في ذلك إلى أن أكثرية الإرهابيين المنفذين للعمليات هم فرنسيون من أصول مغاربية وإفريقية. ويدعو هذا اليمين إلى «ضرورة كبح البؤر الداخلية التي يترعرع فيها الإرهابيون، كالجمعيات والمساجد والمؤسسات التي تتبنى عقيدة إسلامية متطرفة، ويدعو الحكومة لاتخاذ إجراءات استثنائية باسم (قوانين مكافحة الإرهاب) تتعارض مع مبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان. إلا أن رئاسة الجمهورية والحكومة ترفضان ذلك، وتكتفيان بزيادة أعداد رجال الأمن والجيش في الشوارع، وتعزيز إجراءات المراقبة، والتدقيق في إجراءات الدخول للأراضي الفرنسية.
رؤية أحادية الجانب لكل من الحكومة والمعارضة اليمينية المتطرفة، فقوى الإرهاب («داعش»، والقاعدة، وأمثالهما) لم تنشأ من فراغ، أو لم تكن نبتاً شيطانياً، فقد ساهمت سياسات الدول الغربية ومنها فرنسا في إضفاء شرعية على الأنظمة المستبدة عندما غضت الطرف عن سياساتها القمعية والفاشية بحق شعوبها، فضلاً عن متابعة الأطماع الكولونيالية الخاصة بكل بلد.
يقول ديفيد هيرست: «حاول توني بلير وبوش الابن إعادة تشكيل الشرق الأوسط في العام 2003، فكان لذلك نتائجه المدمرة حين أطلقا العنان للصراع والكراهية والبؤس وغذيا الحرب والإرهاب.
لقد نجح بلير وبوش في إشعال صراع طائفي داخل العراق ما لبث أن انتشر في عموم المنطقة، وأخلا بالتوازنات الإقليمية، والتزما لاحقاً بسياسة غض النظر عن سحق الانتفاضات السلمية في سورية وبلدان أخرى».
ويختم هيرست تقييمه بالقول: «ما كان للقاعدة أو «داعش» أن يتواجدا في العراق وسورية بمعزل عن إشعال الحريق في العراق والذي انتشرت ناره في عموم المنطقة.
تقرير لجنة تشيلكوت البريطانية جاء ليفند كل الأسباب التي ساقها توني بلير لتبرير غزو العراق. وعلى الرغم من انكشاف الدوافع الحقيقية للغزو وعلى الرغم من النتائج الوخيمة والخسائر الفادحة التي دفعتها وما تزال تدفعها شعوب المنطقة، إلا أن سياسة التدخل ما تزال تفعل فعلها. بدورها، ذهبت عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي آنا سابوريني إلى أبعد من ذلك، حين اتهمت دول الغرب بزعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، في سياق سعيها للسيطرة على ثروات المنطقة، ما أفضى إلى أزمات وحروب وإرهاب.
ما تقدم يوضح، أن دول الغرب هي شريك فعلي للأنظمة المستبدة في مفاقمة الصراع وإنتاج الأزمات وصولاً إلى نشوء التنظيمات الإرهابية التي تمارس الإرهاب دون هوادة في الشرق الأوسط وفي أوروبا وأميركا.
الدول تعاملت مع حل أمني لوقف الإرهاب بمعزل عن معالجة الأسباب الأخرى التي أنتجته، وتعاملت مع مشكلة اللاجئين بمعزل عن معالجة الاضطهاد والقمع الدموي والتدمير الذي أدى إلى تشريد الملايين. إن التناقض وعدم الانسجام في مواقف الدول الغربية يكشف إفلاساً سياسياً وأخلاقياً.
في الجهة الأخرى، فإن دعوات اليمين المتطرف لعقاب جماعي يمس مواطنة الفرنسيين من أصول مغاربية وإفريقية، تتجاهل تماماً الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية التي يعيشها هؤلاء، وتتجاهل البطالة المرتفعة وانغلاق الأفق أمام أجيال جديدة من الشبان الذين يجدون أنفسهم مهمشين اجتماعياً وثقافياً، ويعيشون في ضواحي باريس المكتظة بالسكان منعزلين عن المجتمع الفرنسي. وفي الوقت نفسه يتعرضون لخطاب، مشحون بالكراهية والعنصرية، صادر عن قوى اليمين المتطرف. هذا الوضع يشكل بيئة مواتية لنمو الإرهاب والتطرف، ويتيح المجال لتنظيمات الإرهاب تجنيد أعداد منهم أو مبادرة البعض لمحاكاة التنظيمات الإرهابية.
طالما ينظر إلى الأزمات من زوايا المصالح الأنانية الضيقة للدول الكبيرة فإنها ستتفاقم وستعيد إنتاج نفسها، فلا عجب إذا من توقع المزيد من أعمال الإرهاب في فرنسا وأوروبا، ولا عجب من إعادة تثبيت الأنظمة العربية المستبدة، ولا غرابة من تحويل الأنظار عن الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة.


