( الحلقة الثالثة )
( الحدود ، و الإستقرار المكاني و تطوير الهوية ، كانت محور الحلقة السابقة .. في هذه الحلقة يكمل الكاتب الحديث عن دستور جمهورية محمد وفصل الدين عن الدولة .. )
و كتابة و صياغة ( صحيفة المدينة ) أو الدستور لم يكن بإملاء مصطفوي نبوي ، و لم يدعٍ أحد أنه من الوحي ، إنما كان بإرادة شعبية جامعة ، شارك فيها الكل الوطني في المدينة ومارس خلالها محمد رسول الله عليه الصلاة و السلام ، دوره كقائد ، رئيس ، حاكم .. حيث قام بمشاورات عديدة، ليس مع رؤساء قبائل و جماعات و أفراد من المسلمين فحسب بل أيضاً مع زعماء وممثلي و نواب الجماعات الأخرى من غير المسلمين. كان الاجتماع الأول مع المسلمين في بيت أنس بن مالك رضي الله عنه ثم مع زعماء المسلمين واليهود في بيت بنت الحارث حيث تم التفاهم على المبادئ الأساسية لـ«دولة المدينة» الجديدة. وفي رأي العالم المحقق محمد حمِيد الله فإن هذا «الدستور الجديد للدولة» كان من زاوية عقدًا اجتماعيًا بين الجماعات المنضوية تحت مظلة هذه الدولة الجديدة، وهذا الدستور هو وثيقة المدينة الموجودة بين أيدينا حالياً.
لا شك أن كِلا الاجتماعَين جريا في جو من الحوار الحُر، أو ما نسميه اليوم بالديمقراطية ، وهل الديمقراطية إلا شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة - إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم - في اقتراح، وتطوير، واستحداث القوانين و التشريعات ؟ وهي تشمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمكن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسي. وهذا ما حدث بالضبط في إجتماع الرسول عليه الصلاة و السلام بممثلي شعب المدينة المنورة ، فقد طرَح ممثلوا الجماعات المختلفة طلباتهم وأَولوياتهم، واستمعوا إلى آراء الآخرين وتحادثوا فيما بينهم وحددوا النقاط الأساسية والإطار المشترك ثم سُجِّلَ مَتن هذا الإطار ، وهو يعتبر أول دستور مدني في التاريخ، وقد أطنب فيه المؤرخون و المستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي، واعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية .
إحتوى هذا الدستور على اثنين وخمسين بندا، خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان ( نعم ، المواطنون المشركون و الوثنيون ) وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى و الوثنيين بالعيش مع المسلمين بحرية و مساواة، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة. دستور وضع اللبنة الأولى لمعنى و مفهوم " المواطنة " و المساواة في الحقوق و الواجبات ، دستور جعل الوطن هو البوتقة الجامعة ، بعيداً عن الإنتماء العقائدي الديني أو الطائفي أو العرقي ، وطن لكل مواطنيه بحيث و في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده.
من هنا نستطيعُ القولَ أنَّ مدلول الدَّولة المعروف الآن عند المفكِّرين السياسيين المعاصرين قد تناولَه القرآنُ الكريم في رؤية متكاملة، وإن شئت قلت: في نظريةٍ سياسية موجزة جامعة وبالتالي فعلى ضوءِ هذه النظرية أو الرؤية أسَّسَ رسولُ الله – عليه و آله الصلاة و السلام - دولتَه الأولى في مدينتِه الناشئة المنورة؛ حيث كان فيها المجتمعُ أو الشعب أو الأمَّة، وكان رسول الله – عليه و آله الصلاة و السلام - هو القائد أو الحاكم لهذه الأمَّةِ، وكان معه أجلاءُ الصحابةِ ( مجلس القيادة – الهيئة الرئاسية ) بعقولِهم الفاحصة المُدقِّقة وآرائِهم الثرية الناضجة وفقههم المعتبر، وكان ينظمُ هذه العَلاقةَ القائدُ وصحابتُه مع شعبه وأمته سياسةً وكياسة، ودرايةً ورعاية، ودقَّةَ نظرٍ واعتبار في الأحوالِ والمتغيرات؛ أي كانت دولته – عليه و آله الصلاة و السلام - مشتملة على أهمِّ أركانِ الدَّولة الثلاثة الرئيسة.
هل هناك تعريف واحد أكثر وضوحاً و إشارة أكثر دلالة ، على " مدنية" الجمهورية الأولى ، دولة النبي ؟ هل هناك أي لَبس على أن - حتى جمهورية النبي - فَصَلت بين الإنتماء الديني و إدارة و تسييس الدولة ؟ و أنها كانت دولة لا دينيــة ، علمانيـــــــة ؟
( الإجابة على هذا بشئ من التفصيل و الدلائل ، في الحلقة القادمة )


