الحلقة ( 2 )
( في الحلقة الأولى توقفنا عند بدايات وضع أسس الجمهورية الأولى ، و يكمل الكاتب اليوم الحديث عن بعض التفاصيل اللأخرى. )
و ترسيخاً من النبي الرسول القائد ، لمبدأ الحكم الجمهوري ، و لتكن بعد ذلك مثلاً يحتذى لمن أراد الهدى و الحرية ، فقد كان أول إجراء قام به ، بعد مبايعته من قبل نواب شعب يثرب أولاً و من قِبَل الأغلبية الساحقة لشعب يثرب ثانياً .. وعقب الوصول إلى المدينة قام بعقد مجلس كبير ضم الأنصار ونقباء المهاجرين حيث تم فيه في الأرجح مداولة الأحكام والأسس القانونية لعملية التآخي وقد تم تعيين بعض المواد لما سيعرف بعد ذلك بصحيفة المدينة ، الوثيقة و تم تدوين بعض النقاط و الأافكار و المقترحات في هذا الاجتماع، لعمل أول دستورو ميثاق تاريخي ، عقد إجتماعي ، شارك في وضعه ممثلي الشعب ، كل الشعب بكل طوائفه و طبقاته ، أي تم تسجيل شكل العلاقات الاجتماعية والقانونية لنظام الجمهورية الأولى وتثبيتها في مواد قانونية مكتوبة.
وهنا يجب أن أقرر حقيقة ، أن الدولة بمفهومها العام ، لم تكن " جمهورية النبي " هي السباقة إليها " إختراعاً أو إبتكاراً " فقد عرف التاريخ منذ عصور خلت ، دولاً و إمبراطوريات وممالك عظيمة على إمتداد طول الأرض و عرضها ، وحتى قبل عهد النبي سليمان و بلقيس ،و الفراعين و مرورا بالروم و الفرس بل و دول و ممالك للعرب أنفسهم ، إلا أن جمهورية النبي كانت الأنموذج الأكثر نجاحاً ، و الأرسخ بناءً عن غيرها ، حتى من تلك التي بناها اليونان و الفرس ، من حيث إرساء مبادئ باتت فيما بعد ، أُسُساً ، كل تفصيلة منها مثَّـلت نظرية قائمة بذاتــها في الحكم .. و قد تميزت عن سابقاتها بالعدالة الإجتماعية ، و الشورى و رفض إستعباد الشعب من قبل طائفة أو أسرة مالكة ، و حققت هذه الجمهورية قفزة حضاريــة هي الأسرع قياساً بغيرها من حيث التطور و الإنتشار ، بما يشبه الطفرة التاريخية المُعجزة.
كانت شبه الجزيرة العربية مفككة، لا توحّدها دولة ولا تديرها حكومة أو نظام ، وكانت الدول القديمة في اليمن ونجد وبعض أطراف العراق والشام قد انهارت و تلاشت ، و عادت البداوة تغزو المدن في تهامة والحجاز، وشكَّلت القبيلة الوحدة السياسية والاجتماعية . أما مكة فكانت تُدار من قبل بعض الأثرياء والوجهاء ( الرأس مالية) الذين كانوا يجتمعون في دار الندوة. وكانت يثرب في حالة نزاع دائم بين قبيلتي الأوس والخزرج. أما دولة المناذرة في الحيرة ودولة الغساسنة في الشام فقد سمح الفرس والروم ( القوى الإستعمارية و الفاشيستيه حينها ) للدولتين بالوجود لتُكونا حاجزتين تصدان عنهما الأخطار وتتوليان حماية القوافل التجارية. وقد أسقط الفرس دولة المناذرة سنة 602م أي قبل البعثة المحمدية بثمانِ سنوات.
و هكذا ، فدولة النبي ، التي شرع بإقامتها ، بادءاً بتحويل المجتمع من مجتمع قبلي عشوائي يحكم بالعرف و العادة و التقاليد فقط ، إلى شعب واحد متلاحم منظم ، و بدأ في توضيح و رسم ملامح الدولة ، وفق التعريف العلمي لها ، فالدَّولة هي جمعٌ من البشرِ يقطنُ بقعةً جغرافية محدَّدة بصفةٍ دائمة يستقر فيها و يطور هويته ، ويخضعُ لنظامٍ معلن تضعُه سلطةٌ سياسية معينة، هذا هو التعريفُ المصطلحُ عليه في علومِ السياسة على اختلافِها، وكلُّ التعريفاتِ الواردة في أدبياتِ هذا العلم تدورُ حول هذا المعنى. وهذا بالتحديد ما قام به النبيُّ – عليه و على آله الصلاة و السلام - دولةً تتكوَّنُ من أرضٍ ذاتِ حدود جغرافية، وأمَّةٍ ذاتِ خصائصَ مميزة، ينظمها دستورٌ عام "صحيفة المدينة"، وتحتكمُ إلى قانونٍ يطبق بالعدل والمساواة، ويحميها جيشٌ يدافعُ عن كيانِها ويجاهدُ في سبيل إعلاء شأنها؛ دولة مُستقلة ذات سيادة ، كان عدد سكّان المدينة يبلغ تقريباً عشرة آلاف شخص، منهم ألف و خمسمائة مسلم و أربعة آلاف يهودي و حوالي أربعة آلاف و خمسمائة من المشركين العرب فقام النبي ، عليه الصلاة و السلام ،بصفته القائد الحاكم هنا ، وفور توليه مقاليد الحكم ، قام بترسيم الحدود للمدينة المنورة ووضع علامات في زوايا الجهات الأربع لها، وهكذا عَيَّنَ حدود «دولة المدينة». وحسب المادة تسع و ثلاثون من الوثيقة - الدستور ( صحيفة المدينة) فإن المنطقة المحصورة في ضمن هذه الإحداثيات والحدود والواقعة في داخل وادي يثرب (الجوف ) أصبحت منطقة الحرم.
· في الحلقة القادمة يلقي الكاتب مزيداً من الضوء على ماهية الجمهورية ، الدستور ، الشورى و الديمقراطية و مفهوم المواطنة وغيرها من المفاهيم .. يتبع .


