الحلقة (1)
إن الأمة التي لا تعتبر من تاريخها ، و تبني على الصالح من موروثها ، و تنبذ الفاسد الفاشل من تجاربها ، لا يمكن لها أن تتقدم و تحتل مكانة محترمة تحت الشمس و فوق الأرض .
لقد ضرب الله تعالى الأمثال وقَصّ عَلينا أحسَن القَصَص ، في كتابه العزيز ، لنعتَبِر منها ، و أجرى الحوادث و سبب الأسباب ليُنزَّل الأحكام و الشرائع ، و المتصفح لكتب التاريخ ، و الأحداث ، يمكنه دون عَناء أو جُهد ، أن يرَى و يلمس ذلك الثبات في صفات النفس البشرية و غزائزها و طبائعها و سلوكها الفطري، رغم التغير المادي المستمر و التطور للأدوات و الإمكانات ..
وقد أحدث إبتعاث محمد عليه الصلاة و السلام ، تغيراً تاريخياً ، لازالت و ستظل البشرية تعيش نتائجه إلى يوم القيامة ، و سيظل المنهاج الإلهي ، و الرسالة الخاتمة التامة ، هي النبراس الذي يهتدي به كل من شذَّ عن الطريق القويم ، و تعقدت عليه أمور الدنيا و لن يجد الحل و الراحة ، و لن يصل إلى مبتغاه الدنيوي أو الأخروي ، إلا بالتقدم صوب القرآن العظيم ، و الدين الصحيح ، و إلا تاه في دروب الكُهّان ، و زواريب و أزِقّة المُدّعِين ، و أَلْهَتْهُ مشاريع السياسيين ، و أبعدته عن كتاب الله و دينه الصحيح ، فَهَجرَ القُرآن ، و انحازَ إلى ما دونه من تُرَّهات و أَثَر و فَلسَفات و مَذاهب و أحَزاب .. وما هدم بيوت الله إلا الكهنة ، بتدليسهم و كذبهم على الله ، و لا يبدع التزييف إلا مَهَرة النُقَّاش و الرَّسامِين ..
ولقد إستحقت جُمهورية النبيّ ، الجُمهورية المُصطفويّة الأولى ، بجدارة ، أن تكون الأولى في التاريخ ، و النموذج الأكثر إشراقاً و الأعمق فهماً و عدلاً و مشاركة و الأمتن تأسيساً و بناءً.. و التي ما حَسُنت بعدها نظرية ، و ما كَدح كادح في بحثه ، و قدح مُفكر عقله ، ليتوصل إلى نظرية في الحُكم أو الإدارة المُجتمعية ، إلا و ثبت أن أحسن و افضل و أَكمل ما توصل إليه ، قد جُرِّب و طُبِّق و مُورِس على أرض الواقع منذ ألفٍ و بِضع مئاتِ السنين .. في عهد الجمهورية الأولى .. جهورية النبي المُصَطفوية .. فالعدل و المساواة و الشورى و العلمانية ( بمعناها الذي سآتي عليه لاحقاً ) و الديمقراطية و الإشتراكية ، و العدالة الإجتماعية و المؤآخاة بين المواطنين ، و السِّلم الإجتماعي ، و المَدَنية ، و الحُكم الرَّشيد ، و حقوق الإنسان و الحيوان و النبات و حقوق المرأة و الطفل و الأقليات ، و عدالة توزيع الإنتاج و غيرها الكثير من الأبواب و الأفرع ، أحسن ما فيها ، كان جزءاً لا يتجزأ من النظام الذي أسست له الجمهورية المصطفوية الأولى .. ولكن و قبل أن أخوض أكثر في طبيعة هذه الدولة ، و مقصدي من تسميتها ، و ما أعنيه بالجمهوريات التي تلتها وصولاً إلى الجمهورية المأمولة .. الجمهورية السادسة .. هل كانت دولة رسول الله ، حقاً جُمهُوريّة ؟
علميـــاً تتنوع تفاصيل نظام الحكم الجمهوري بشكل كبير. ففي العلوم السياسية، يستخدم مصطلح جمهورية للإشارة للدولة التي تعتمد فيها القوة السياسية و التنفيذية للدولة على موافقة و تكليف و مشاركة الشعب المحكوم بالأغلبية أو الأكثرية . ويكون رأس الدولة منتخباً مباشرة من قبل الجمهور ، أو من قبل ممثلي الشعب ، و هناك ما يعرف بالجمهورية البرلمانية أو النيابية، حيث يمنح مجلس الشعب ، التشريعي ، أو البرلمان تفويضاً و سلطات و لرئيس الوزراء ( رئيس الحكومة ، أو رئاسية ، بحيث تتركز أغلب السلطات في يد الرئيس فهل إختار الشعب ( في مدينة يثرب ) محمداً عليه الصلاة و السلام حاكماً ؟ و الحقيقة أن المتأمل لكيفية خروج غالبية سكان يثرب لإستقبال النبي عليه الصلاة و السلام في تظاهرة شعبية ، أشبه بالإستفتاء العام ، لوضع الرسول على رأس الحكم و الأمر في يثرب و جوارها . و من ثم كيف غير شعب يثرب إسم مدينتهم فور وصول من آمنوا به نبياً ووثقوا به حاكماً عليهم ليصبح إسم يثرب " المدينة المنورة " تعبيراً عن فرحتهم بالنبي القائد الجديد .. فهل يوجد أقوى من هذا الإجماع الشعبي الديمقراطي على إختيار حاكم بشكل حر و طوعي ؟
بل أكثر من ذلك ، فقد أوفدت جماهير يثرب ، لرسول الله الوفود ، نيابة عنهم ، ليبايعوه حتى قبل أن يهاجر إليهم ، في بيعتي، العقبة الأولى و الثانية .. هاتان البيعتان فتحتا صفحة جديدة للنبي عليه الصلاة و السلام ، ليقيم نظاماً ، و دولة للمسلمين، ، بعد أن كسروا الطوق الذي فرضه جبابرة قريش عليهم، وذلك بفعل إيمانهم وصبرهم وجهادهم وثقتهم بالله سبحانه وتعالى، وعلى رأس كل هذه الأشياء والمقومات تقف قيادة الرسول ( عليه الصلاة و السلام ) الحكيمة، والتي تستند على قاعدة جماهيرية واسعة واثقة ، وعلى بعد النظر لقيادات الصف الأول من رجال آمنوا بالله و بضرورة عمارة الأرض ،فأحسنوا دراسة الأحداث دراسة موضوعية وافية، ووضعوا البدائل المناسبة للأزمات والمعضلات التي تواجه جمهورية يثرب ، جمهورية النبي ، الجمهورية الأولى ..
سما : و في الحلقة التالية ، سيتوقف الكاتب على مزيد من التفاصيل حول مبادئ الحكم الجمهوري التي أرساها النبي عليه الصلاة و السلام .. و يلقي مزيداً من الضوء على رؤيته لجمهورية النبي .. فتابعونا في الحلقات القادمة ..
الحلقة ( 2 )
( في الحلقة الأولى توقفنا عند بدايات وضع أسس الجمهورية الأولى ، و يكمل الكاتب اليوم الحديث عن بعض التفاصيل اللأخرى. )
و ترسيخاً من النبي الرسول القائد ، لمبدأ الحكم الجمهوري ، و لتكن بعد ذلك مثلاً يحتذى لمن أراد الهدى و الحرية ، فقد كان أول إجراء قام به ، بعد مبايعته من قبل نواب شعب يثرب أولاً و من قِبَل الأغلبية الساحقة لشعب يثرب ثانياً .. وعقب الوصول إلى المدينة قام بعقد مجلس كبير ضم الأنصار ونقباء المهاجرين حيث تم فيه في الأرجح مداولة الأحكام والأسس القانونية لعملية التآخي وقد تم تعيين بعض المواد لما سيعرف بعد ذلك بصحيفة المدينة ، الوثيقة و تم تدوين بعض النقاط و الأافكار و المقترحات في هذا الاجتماع، لعمل أول دستورو ميثاق تاريخي ، عقد إجتماعي ، شارك في وضعه ممثلي الشعب ، كل الشعب بكل طوائفه و طبقاته ، أي تم تسجيل شكل العلاقات الاجتماعية والقانونية لنظام الجمهورية الأولى وتثبيتها في مواد قانونية مكتوبة.
وهنا يجب أن أقرر حقيقة ، أن الدولة بمفهومها العام ، لم تكن " جمهورية النبي " هي السباقة إليها " إختراعاً أو إبتكاراً " فقد عرف التاريخ منذ عصور خلت ، دولاً و إمبراطوريات وممالك عظيمة على إمتداد طول الأرض و عرضها ، وحتى قبل عهد النبي سليمان و بلقيس ،و الفراعين و مرورا بالروم و الفرس بل و دول و ممالك للعرب أنفسهم ، إلا أن جمهورية النبي كانت الأنموذج الأكثر نجاحاً ، و الأرسخ بناءً عن غيرها ، حتى من تلك التي بناها اليونان و الفرس ، من حيث إرساء مبادئ باتت فيما بعد ، أُسُساً ، كل تفصيلة منها مثَّـلت نظرية قائمة بذاتــها في الحكم .. و قد تميزت عن سابقاتها بالعدالة الإجتماعية ، و الشورى و رفض إستعباد الشعب من قبل طائفة أو أسرة مالكة ، و حققت هذه الجمهورية قفزة حضاريــة هي الأسرع قياساً بغيرها من حيث التطور و الإنتشار ، بما يشبه الطفرة التاريخية المُعجزة.
كانت شبه الجزيرة العربية مفككة، لا توحّدها دولة ولا تديرها حكومة أو نظام ، وكانت الدول القديمة في اليمن ونجد وبعض أطراف العراق والشام قد انهارت و تلاشت ، و عادت البداوة تغزو المدن في تهامة والحجاز، وشكَّلت القبيلة الوحدة السياسية والاجتماعية . أما مكة فكانت تُدار من قبل بعض الأثرياء والوجهاء ( الرأس مالية) الذين كانوا يجتمعون في دار الندوة. وكانت يثرب في حالة نزاع دائم بين قبيلتي الأوس والخزرج. أما دولة المناذرة في الحيرة ودولة الغساسنة في الشام فقد سمح الفرس والروم ( القوى الإستعمارية و الفاشيستيه حينها ) للدولتين بالوجود لتُكونا حاجزتين تصدان عنهما الأخطار وتتوليان حماية القوافل التجارية. وقد أسقط الفرس دولة المناذرة سنة 602م أي قبل البعثة المحمدية بثمانِ سنوات.
و هكذا ، فدولة النبي ، التي شرع بإقامتها ، بادءاً بتحويل المجتمع من مجتمع قبلي عشوائي يحكم بالعرف و العادة و التقاليد فقط ، إلى شعب واحد متلاحم منظم ، و بدأ في توضيح و رسم ملامح الدولة ، وفق التعريف العلمي لها ، فالدَّولة هي جمعٌ من البشرِ يقطنُ بقعةً جغرافية محدَّدة بصفةٍ دائمة يستقر فيها و يطور هويته ، ويخضعُ لنظامٍ معلن تضعُه سلطةٌ سياسية معينة، هذا هو التعريفُ المصطلحُ عليه في علومِ السياسة على اختلافِها، وكلُّ التعريفاتِ الواردة في أدبياتِ هذا العلم تدورُ حول هذا المعنى. وهذا بالتحديد ما قام به النبيُّ – عليه و على آله الصلاة و السلام - دولةً تتكوَّنُ من أرضٍ ذاتِ حدود جغرافية، وأمَّةٍ ذاتِ خصائصَ مميزة، ينظمها دستورٌ عام "صحيفة المدينة"، وتحتكمُ إلى قانونٍ يطبق بالعدل والمساواة، ويحميها جيشٌ يدافعُ عن كيانِها ويجاهدُ في سبيل إعلاء شأنها؛ دولة مُستقلة ذات سيادة ، كان عدد سكّان المدينة يبلغ تقريباً عشرة آلاف شخص، منهم ألف و خمسمائة مسلم و أربعة آلاف يهودي و حوالي أربعة آلاف و خمسمائة من المشركين العرب فقام النبي ، عليه الصلاة و السلام ،بصفته القائد الحاكم هنا ، وفور توليه مقاليد الحكم ، قام بترسيم الحدود للمدينة المنورة ووضع علامات في زوايا الجهات الأربع لها، وهكذا عَيَّنَ حدود «دولة المدينة». وحسب المادة تسع و ثلاثون من الوثيقة - الدستور ( صحيفة المدينة) فإن المنطقة المحصورة في ضمن هذه الإحداثيات والحدود والواقعة في داخل وادي يثرب (الجوف ) أصبحت منطقة الحرم.
· في الحلقة القادمة يلقي الكاتب مزيداً من الضوء على ماهية الجمهورية ، الدستور ، الشورى و الديمقراطية و مفهوم المواطنة وغيرها من المفاهيم .. يتبع .


