خبر : العرب بين الاغتراب الزماني والمكاني ...محمد ياغي

الجمعة 05 أغسطس 2016 12:43 م / بتوقيت القدس +2GMT



يريد منا البعض أن نعود إلى حياة الأيام الأولى للإسلام التي لم نعشها ولا نعرفها إلا من خلال ما قرأناه في كتب التاريخ والدين.
لكن المشكلة في ذلك أن ما قرأته أنا يختلف عما قرأته أنت، وما قرأه صاحبك، وما قرأه جارك، وبالتالي نحن مختلفون أصلاً في فهمنا وتفسيرنا للأحداث التاريخية نفسها.
والمشكلة تزداد تعقيداً بطبيعة الحال لأن تفسير النص الديني لا يعتمد فقط على اللغة التي تجمعنا، ولكن أيضاً على الحدث التاريخي الذي لا يمكن فهم النص الديني إلا في سياقه.
هل نُقدِم الآية الكريمة التي تقول: «لا إكراه في الدين» على الآية التي تقول: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله» أم العكس؟ لمن الأولوية: للدعوة للسلام أم للدعوة للحرب.
في السياق التاريخي لتفسير أسباب نزول الآية الأولى هنالك على الأقل ثمانية سياقات مختلفة وجدتها على أحد مواقع تفسير القرآن الكريم، وعشرة سياقات تاريخية مختلفة لتفسير الآية الثانية.
الناس بطبيعتها أكثر ميلاً للتعاون وأبعد ما تكون عن الرغبة بالقتل أو القتال، وهي ترى مصالحها بقوانين تنظم حياتها وتمكنها من العيش بسلام.
لذلك لم تتوقف الناس عند نصوص في دينها قد يكون هنالك خلاف في فهمها بسبب السياق التاريخي لها. لذلك استحضرت الناس الآية الأولى في أوقات السلم، واستحضرت الثانية في زمن الكفاح الوطني ضد الاستعمار.
ولأن أوقات السلم أكثر بكثير من أوقات الحرب، فإن الآية الأولى التي تدعو للسلام هي التي التصقت في الذهن أكثر وأصبحت نمط حياة للمسلمين.
الرغبة في الحياة بسلام مثل كل شعوب الأرض، دفعت المسلمين عموماً للتصالح مع دينهم وتفسيره بما يمكنهم من العيش في عالم شديد وسريع التغير.
لذلك مثلاً تعامل الناس مع مسألة «المثليين» في بلادنا على أنها أخلاقياً مسألة «عيب»، ولم يدعو أحد لإلقاء أحد من «شاهق». الناس حلت مشاكلها بفطرتها المحبة للسلام ودون تعقيدات.
اليوم تخرج إلينا العشرات من تنظيمات الإسلام السياسي التي تدعو بالحديد والدم أن نتبع «الإسلام» الذي عاشه الصحابة.
لكننا لا نعرف حقيقة ما هو الإسلام الذي عاشه الصحابة ولا نعيشه نحن اليوم.
ولسنا وحدنا للحقيقة من لا يعرف، هم أيضاً لا يعرفون، ولأنهم كذلك فهم يقتلون بعضهم البعض باسم ما يدعون إليه جميعاً.
هؤلاء مغتربون زماناً. هم يرفضون الحياة التي نعيشها اليوم، ويريدون منا أن نعيش حياة مُتخيلة في ذهنهم عاشها المسلمون الأوائل.
مُتخيلة لأن أحداً منهم لا يعرفها حقيقة، ولو كانوا يعرفونها ومتفقين عليها لما قطعوا رؤوس بعضهم البعض.
وهي متخيلة أيضاً في ذهنهم، ليس بسبب طبيعتها العادلة التي يرغب عوام المسلمين جميعاً في نعتها به تقديساً لدينهم وتكريماً لنبيهم، ولكن بسبب ما يصفونه بأنها الفترة التي طبقت فيها قوانين الشريعة الإسلامية.
كما قلت أعلاه، أحداث التاريخ مُلتَبِسة، ولا نعلم حقيقة عن أي قوانين يتحدثون.
هل تبرر الشريعة قتل الرجال من الأزديين، واعتبار نسائهم سبايا، وصغارهم عبيدا؟ هل تبرر الشريعة كل هذا القتل اليومي وكل هذه الوحشية في القتل نفسه؟ هذا يتنافى مع طبيعة المسلمين، وإسقاط آيات عليه لتبريره لا يجعله لا حقيقة تاريخية، ولا إسلاما للأولين.
هؤلاء ظلاميون، مغتربون زماناً، يريدون منا قتل الحاضر واستدعاء ماضٍ وحشي من صناعة خيالهم.
في المقابل هنالك من لا يرانا أهلاً للحرية والكرامة. من يعتقد أننا لم نصل بعد إلى مستوى الشعوب التي من حقها اختيار من يحكمها.
نحن في نظرها ما زلنا قبائل، بدائيين، لا نستطيع احترام قوانين، ثقافتنا «متخلفة» وبحاجة دائماً إلى «زعيم» يقرر نيابة عنا ما يفيدنا وما يضرنا.
يصرخ هؤلاء كثيراً في الغرب: نحن لسنا مثلكم! وهي عادة ما تعني أننا «أقل منكم» لأنها دائما تأتي في سياق الحديث عن الانتهاك لحقوق الإنسان العربي.
هؤلاء مغتربون مكاناً، هم المتخلفون ثقافياً عن عصرهم لأن دول اليوم لا يحكمها عسكر أو عائلات أو أفراد يستمدون قوتهم من حجم القمع الذي يمارسونه، ولكن من مؤسسات منتخبة تحاسبهم على ما يقومون به: تقوم بإعادة انتخابهم أو إسقاطهم، وتقوم بمحاكمتهم أيضاً إذا أساؤوا استخدام سلطاتهم.
فضاء الاتصالات اليوم مفتوح لجميع الناس. صحيح أن هنالك كما هائلا من المعلومات المتناقضة في هذا الفضاء، لكن أكثر ما يلفت انتباه الناس هو صورة وزير يقود دراجته للوصول لعمله، أو رئيس وزراء هاجمة البعض بالشتائم أو بقذفه بالبيض رفضاً لسياساته، أو تقرير صادر عن إحدى مؤسسات الدولة يدين سياسات أو سلوكيات محددة لجهات رسمية ويمهد الطريق قانونياً لمحاكمتها.
الناس لا تشاهد فقط، لكنها تتعلم، وتقارن كيف تعيش وكيف يعيش غيرها.
الناس عموماً يريدون العيش بروح عصرهم: هم منسجمون معه ولا يرون أنفسهم أقل من غيرهم. لكنهم أقل حظاً بالتأكيد.
المغتربون مكاناً، لا يعيشون بروح عصرهم، هم أقرب للعيش لسنوات ما بعد العصور الوسطى بقليل حيث الحرية «للملك» يفعل ما يشاء بينما يعدم من يشاء من «الرعية» دون حساب.
هم إذاً لا يختلفون عن المغتربين زماناً، جميعهم يريد الماضي، متخيلاً كان أم حقيقة، ولا أحد منهم يريد الحاضر.
بين هؤلاء تقف الغالبية العظمى من الناس في العالم العربي عاجزة عن التقدم للأمام لأن هنالك من يقتلها باسم الماضي زماناً ومكاناً.
ملاحظة: يُطلق البعض مصطلح الاغتراب المكاني لوصف سلوك ما غير مقبول مجتمعياً في المكان الذي يمارس فيه ولكنه مقبول في مكانٍ آخر أو مجتمع آخر.