كثيرون كتبوا وسيكتبون عن محاولة الانقلاب الفاشلة ضد حزب العدالة والتنمية التركي وحكومته ورئيسه وكثيرون ايضا سيغفلون عن رؤية الاحداث بمنظورها الحقيقي او حتى الغارق في نظرية المؤامرة التي تشكل ثقافة ووجداننا العربي والاسلامي.
التصريحات الاولى التي اطلقها رئيس الوزراء التركي "بلدريم" والرئيس اردوغان اكدت على ان "ما يحدث كان تمردا لبعض وحدات الجيش وليس انقلابا وان الموضوع له علاقة باجتماع مجلس الامن القومي والذي كان له ان يحيل مئات الضباط من الرتب الوسطية الى التقاعد" ثم ما لبثتت التصريحات ان ازدادت وتيرتها الوصفية بان ما حدث كان "انقلاب" مع زيادة سيطرة مؤيدي اردوغان على الارض ومحاصرة التمرد" او "الانقلاب".
وسيكون من السخف القول بان الجيش التركي انقلب على النظام الحالي في انقرة، ويجب علينا تصديق ما يقوله المحللون والساسة الاتراك بان عدد من شاركوا في هذه المحاولة الفاشلة لم يتجاوز عشرات الالاف من الجنود المؤتمرين بقيادة وسطية في هذا البلد الضخم والذي يزيد عدد افراد جيشه عن نصف مليون مقاتل والذي يعتبر الجيش الاضخم في حلف الناتو.
ومن الواضح ايضا ان 14 عاما من وجود حزب العدالة والتنمية في الحكم لم تذهب سدى وان هذا الحزب استطاع ان يجعل من بلد كان التضخم الاقتصادي يصل به سنويا الى اكثر من 300 % عند تسلمه الحكم الى بلاد تجد نفسها تنظم قمة "العشرين" لاهم دول صناعية في العالم، بل يتوقع لها ان تصل الى المركز السادس عشر قريبا.
المشاهد الدراماتيكية التي تابعها العالم كانت تؤكد حتمية السقوط المدوي لتلك المحاولة الطفولية الفاشلة وكانت تدل بصورة لا تقبل اللبس على مدى التحولات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية التي اصابت المجتمع التركي ومؤسساته الامنية والاقتصادية في كافة المجالات بلا استثناء.
والمثير للدهشة ايضا ان تلك المحاولة الفاشلة جاءت في توقيت غير مفهوم سبقه تحولات واستدارات سياسية تركية تتعلق بالمصالحة والتطبيع مع اسرائيل في كافة المجالات الامنية والاقتصادية والتصالح مع روسيا وتنبيهات رئيس الوزراء التركي بضرورة عودة العلاقات مع سوريا والعراق في تطور وصفه الكثيرون بانه انقلاب في السياسة التركية.
لقد كان انقلابا او تمردا على النمط الافريقي والذي يقاد دائما بصغار الضباط وبادوات ساذجة حمقاء لا علاقة لها بحقائق تركيا الجديدة ومتغيرات الداخل وولاءات رجال الاعمال والسياسة وقدرات القوة الناعمة الجديدة في منظومة الاتصالات والتكنولوجيا على صناعة الحدث اليوم ليس في تركيا فقط ولكن في كل مكان.
لا يمكن الجزم بان تفاصيل الانقلاب او نوايا منفذيه كانت معروفة لدى اجهزة الامن التركية او الاستخبارات العالمية ولكن سيكون من السذاجة الافتراض بان عواصم الامن والاستخبارات وبلدان الجوار والمحيط تفاجأت من تحرك بعض وحدات الجيش التركي وقطاعاته ضد حكومة اردوغان وحزبه.
وهنا تجدر الاشارة الى الموقفين الايراني والاسرائيلي من تطورات المشهد التركي في ساعاته الاولى والذى بدا واضحا من خلاله حالة التشكك الكبير في نجاح المحاولة "الانقلابية" ومن هنا كانت ايران السباقة في الدعوة الى احترام الديمقراطية التركية ومعارضة الانقلاب. ويلاحظ هنا ان كافة وكالات الانباء الايرانية حتى المتطرفة منها والمحسوبة على الحرس الثوري التزمت بخط الدولة ولم تعبر عن تمنيات او طموحات الرغبة او الكره بالنسبة لاردوغان وحكومته رغم الاختلافات العميقة بين الدولتين في ملفي سوريا والعراق.
الموقف الايراني في تصورنا كان مبنيا على تقديرات استخبارية واضحة لفهم محاولة الانقلاب وتطوراتها حسمت الامور باتجاه موقف ايراني سباق ومعتدل سيكون له ما بعده في العلاقات بين الجانبين مستقبلا.
اما في تل ابيب وبعيدا عن تقولات بعض رجال الاعلام والكتاب وتحليلاتهم لحدث اليومين الماضيين وما صرح به رئيس الشاباك السابق يعقوب بيري للاذاعة العبرية صباح اليوم بان محاولة الانقلاب كانت معدة مسبقا من قبل "اردوغان" لتطهير الجيش والقضاء والاجهزة الامنية وان الجنود في الدبابات لم يعرفوا مطلقا بالمهام المناطة بهم ولماذا هم هناك، الا انه كان منذ الواضح بل منذ الساعات الاولى للمحاولة الانقلابية بان التقدير الامني الاسرائيلي لها هو الفشل الذريع وان لا امل بنجاحها وهذا ما ظهر جليا خلال الموجات المفتوحة للاعلام الاسرائيلي لدرجة ان الاذاعة العبرية الرسمية كانت تبشر بفشل المحاولة في حدود الساعة الـ 12 من ليلة الانقلاب فيما كان الجميع وبالذات الاعلام العربي يعيش حال تيه غير مسبوقة في تصورات وتحليلات هلامية عبرت عن نوازع وغرائز بعضها مفهوم والاخر لا.
الاحداث الجارية في تركيا سيكون لها تاثيرات عميقة سواء على المستوى الداخلي او الاقليمي او العالمي وعلى التركيبة البنيوية للمجتمع والجيش التركي وتوجهاته المستقبلية.
ومن الواضح بان ما صرح به "اردوغان" بالامس بان هناك من يحاول اثارة فتنة حقيقية بين الجيش والشعب والحكومة لهو دلالة واضحة على الشعور العام لدى النخبة السياسية التركية وقطاعات مجتمعية هامة وبالذات بعد الصورة المهينة والمذلة للعسكرية التركية من قبل اجهزة امنية اخرى او قوى مدنية موالية للرئيس دافعت عن الحزب والتوجه والانجاز.
تركيا امام اختبار حقيقي وجدي في مرحلة ما بعد الانقلاب والذي يتطلب معالجة معرفية وحقيقية لكل ما حدث ومسبباته دون تاخير او وجل حتى لا نكون على ابواب مرحلة قد تكون الاخطر في تاريخ الدولة التركية والمنطقة وهو ما تنبه له اردوغان عندما تحدث عن "فتنة" نرجو الله بالا تحدث ...