في ذكرى احتلال ما تبقى من فلسطين، فإن المستوطنين يحتفلون بضم واستيطان مدينة القدس؛ بل ويحتفلون بما يسمونه "انتصار مشروعهم الاستيطاني في الضفة" الذي تحول من حلم هاذٍ في نهاية الستينات وسباحة ضد التيار إلى مشروع مزدهر على أرض الواقع وممثلون يجلسون خلف مقود الحكومة؛ هذا ما يصوره فيلم وثائقي للمخرج الاسرائيلي رامي دوتان عن مشروع الاستيطان، حيث حاول ان يفهم تاريخ بدايات المشروع الاستيطاني ومستقبله، بداياته التي بدأت - حسبما جاء بالفيلم - عندما قام حنان فورات مع زملائه فور الاحتلال بالضغط على ليفي اشكول للسماح لهم بالاستيطان في "كفر عتصيون"، وبعد الكثير من الضغط منحهم اشكول بركته دون أن يعرض الأمر على الحكومة، والحالة الثانية تمت عندما قام الحاخام موشيه لفينغر مع رفاقه بالتسلل إلى الخليل كسياح سويسريين، واستأجروا غرفًا في فندق "بارك" بالخليل كي يجروا طقوس ليل الفصح في مدينة الآباء، وبعد انتهاء الاحتفال رفضوا الخروج وأقاموا البنية الأولى لـ "كريات اربع" ولاحقًا الحاضرة اليهودية في قلب الخليل، وقد أتيح لهم الأمر - حسب المخرج - بسبب الصراع السياسي بين وزير العمل يغئال الون وبين وزير الجيش موشيه ديان على قيادة حزب "العمل"، فأيد الون المستوطنين كي يناكف ديان، ويستنتج المخرج ان قصر نظر الزعماء وجبنهم ومناوراتهم السياسية والغمز واللمز، بالإضافة لعدم اكتراث الجمهور واستسلامه أمام تصميم رجال "غوش ايمونيم" المفعمين بإحساس الرسالة كفريضة ربانية وتمسكهم بالمهمة، خلّد الاحتلال والمستوطنات وجعل الوضع لا مرد له، فإن كانت قيادات حزب "العمل" التاريخية لم تستطع أن تصمد أمام ضغوط مجموعة صغيرة من المستوطنين؛ فكيف لحكومة قيادتها من صقور المستوطنين (الكين ولفين) ورئيسها الذي أعلن في مارس 2015 "إذا انتخبت لن تقوم دولة فلسطينية"، كيف لهم ان يكونوا شركاء في تسوية سياسية؟
ويبدو انه لا بد من أن نذكر أنفسنا ونقرأ التاريخ السياسي الإسرائيلي جيدًا، لا سيما في هذا الوقت تحديدًا، حتى لا يغم علينا وتعمى بصيرتنا وننخدع بأكبر عرض مسرحي في المدينة، فالسكون السياسي والحزبي الإسرائيلي ينفجر فجأة، نتنياهو يكتشف المبادرة العربية وليبرمان يتحدث عن السلام الإقليمي والكين ولفين يحمّلان هرتسوغ مسؤولية إفشال الفرصة التاريخية، حتى كحلون - الذي على مدار أكثر من سنة نأى بنفسه عن الحديث السياسي وانغمس في الاقتصاد - أصبح على حين غرة مهتمًا كثيرًا بصنع السلام الإقليمي، مناشدًا هرتسوغ عبر أكثر من تصريح للانضمام للحكومة لإنجاح حراك السلام.
نتان ايشل، المقرب جدًا من نتنياهو، والذي عمل مديرًا لمكتبه إلى ان قدم استقالته قبل أشهر بسبب دعوى تحرش جنسي، كتب مقالًا في "هآرتس" تحت عنوان "اليسار لا يريد سلامًا"، الكثير من المعلقين الاسرائيليين قدروا ان ايشل أخذ ضوءًا أخضر من نتنياهو لنشر مقاله، وفي المقال يدعي ان نتنياهو قرر خوض غمار التسوية، وهو لذلك بحاجة إلى حزب يميني فضم ليبرمان، ويريد التخلص من بينت الذي يعارض كل تسوية، لكنه يجب أن يضمن دخول هرتسوغ للحكومة. وثمة إشاعات بأن نتنياهو لا زال يبذل جهدًا لضم هرتسوغ أو ليفني لحكومته، وهرتسوغ أعلن بالأمس انه سيفكر في أي عرض جدي، ويحيموفيتش أعلنت ان أصابع المعارضة ستكون مع الحكومة ولم تستبعد المشاركة في الحكومة في ظروف معينة. لكن المتابعين يعتقدون ان فرصة دخول "العمل" للحكومة يجب ان تتحقق قبل نهاية الشهر الجاري، أي قبل ان يعقد مؤتمر الحزب ويقرر موعدًا للتنافس على رئاسة الحزب.
الحديث عن السلام الإقليمي خلق في إسرائيل أجواءً، وكأن عملية السلام ستنطلق غدًا، وتحول نتنياهو وحكومته إلى راعي السلام الإقليمي، لكن الغريب العجيب والمدهش كيف تقوم حكومة نتنياهو بكل أطيافها برفض المبادرة الفرنسية والعمل والتحريض على إحباطها وتشبيهها بمؤامرة "سايكس بيكو" من جهة، وتعلن تشجيعها وتحمسها لمبادرة السيسي من جهة أخرى؛ إن كانت حقًا مقتنعة بالذهاب لتسوية تتيح حل الدولتين؟
كتب براك ربيد في صحيفة "هآرتس" ان نتنياهو يستخدم المبادرة المصرية كبديل للاعتراض على المبادرة الفرنسية، حيث قام بالاتصال بعدد كبير من وزراء الخارجية ورؤساء الحكومات لإقناعهم بوجهة إسرائيل نحو السلام الإقليمي ولكن عبر المبادرة المصرية الإقليمية، فهو يتسلح الآن بمبادرة عربية إقليمية لإفشال المبادرة الفرنسية. ويكمل ربيد ان نتنياهو الذي يشعر بالقلق من الحراك الدولي ومن امتناع الموقف الأمريكي عن بذل جهد كاف لصد الفرنسيين، وتخوفه من الفترة القليلة المتبقية لأوباما في البيت الأبيض؛ جعلته يلوح بالمبادرة المصرية وصب كل حماسته على الرئيس المصري السيسي، وعلى رئيس الحكومة البريطانية الأسبق توني بلير، وعلى المبادرة الإقليمية التي يدفعانها الى الأمام، كما ان هذه هي إحدى الرسائل التي رفعها نتنياهو في المكالمة الهاتفية أمس مع بعض وزراء الخارجية الغربيين "لا للمبادرة الفرنسية، نعم للمبادرة المصرية".
ورفيف هيخت كتب في "هآرتس" ان أحاديث نتنياهو وليبرمان عن السلام ما هي إلا فقاعات في الهواء تهدف إلى تخفيف الضغط الدولي على إسرائيل، "رئيس الحكومة يتعرض في الوقت الحالي لضغوط كثيرة لعدة أسباب على رأسها الضغط الدولي الشديد الذي قد يتزايد مع نهاية ولاية أوباما، وأيضًا فرصة حقيقية لتدويل الصراع بواسطة المبادرات مثل المبادرة الفرنسية. عبد الفتاح السيسي - الذي لديه مصلحته الشخصية حول تقوية مكانته الدولية - جاء لنتنياهو مثل المعجزة من السماء، كإمكانية لعملية سياسية بديلة تسمح بإهدار الوقت. مبادرة إقليمية، مؤتمر إقليمي؛ كل ما يأتي مرغوب به". ويضيف "خطوة نتنياهو هي سياسية: التصالح مع العالم من خلال الخداع، وأن إدخال هرتسوغ هو درع انساني. إذا أراد حزب العمل الانتهاء تمامًا - وكل يوم يبقى فيه هرتسوغ رئيسًا للحزب يقربنا من هذا السيناريو - عليه رفض الدخول الى حقيبة الماكياج التي يحاول نتنياهو دفعه إليها، وعليه أن يستغل الضغط الذي يتعرض له نتنياهو، لطرح المواقف. محظور تبييض نتنياهو، ليس بسبب سارة. محظور منحه الغطاء لأنه إضافة لكونه رئيسًا للحكومة تفريقي، فهو رجل أرض إسرائيل الكاملة ولا يؤمن بالاتفاق مع الفلسطينيين. ومن لم يستوعب ذلك بعد، يجب أن يتلقى العلاج كي يكف عن التجاهل والنسيان."
والأهم ان نتنياهو لم يقدم شيئًا يظهر أية نوايا جدية باتجاه السلام، وكل ما يفعله هو خلق الأجواء والتلاعب بالكلمات، لكنه بين ثنايا أقواله عن السلام أعلن بشكل لا لبس فيه ان المطلوب مفاوضات لتعديل المبادرة العربية، وربما سيطالب غدًا بتقديم العرب لما يظهر حسن نواياهم.


