خبر : هل تسللت "العلمنة" إلى الحركات الإسلامية؟

الجمعة 15 يناير 2016 11:17 ص / بتوقيت القدس +2GMT
هل تسللت "العلمنة" إلى الحركات الإسلامية؟



لا تفتأ إكراهات الواقع تلجئ اتجاهات وحركات إسلامية إلى تكييف مشاريعها وبرامجها بما يجعلها متوافقة مع دساتير الدولة القومية الحديثة، وخاضعة لقوانينها النافذة، لأن تلك الاتجاهات اختارت العمل العلني ضمن الأطر المتاحة دستوريا وقانونيا.

عملية التكيف مع شروط الأنظمة القائمة ومواصفات العمل المسموح به في قوانينها، تتطلب عقولا قادرة على اجتراح صيغ توائم بين ما تراه تلك الحركات ثوابت ومحددات رئيسة لمشروعها، وبين شروط الواقع وإكراهاته، صيغ تمكنها من التكيف مع القائم، من غير أن تذوب فيه وهي التي ما قامت إلا لإصلاحه وتغييره.

التعاطي مع تلك المعادلة الصعبة أفرز مواقف متباينة في أوساط تلك الحركات، بين ما يمكن قبوله والخضوع لنظامه، وبين ما يجب الاحتراز منه والتحفظ عليه، ولأن غالب الأنظمة السياسية في عالمنا الإسلامي أنظمة علمانية، فإن التحدي الأكبر الذي واجه تلك الحركات تمثل في كيفية التعاطي مع الأنظمة العلمانية في مختلف تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

عبر مسيرتها الرامية إلى إيجاد صيغ توفيقية بين النظام العلماني بدساتيره وقوانينه النافذة وبين ثوابتها وأصولها الحاكمة، تعرضت تلك الحركات لموجات من النقد الشديد والقاسي، من قبل شخصيات علمية ودعوية، واتجاهات إسلامية، توصف بتبنيها لأجندات أصولية متشددة، كان أشد ألوان ذلك النقد اتهام تلك الحركات بوقوعها في براثن العلمانية (الآثمة).

تضمن كتاب "العلمانية من الداخل" للداعية المغربي الدكتور البشير عصام المراكشي، الصادر عن مركز تفكر للبحوث والدراسات سنة 2015، اتهامات واضحة لتلك الحركات "بتمرغها في حمأة العلمانية" بدرجات متفاوتة، فكان عنوانه الفرعي "رصد تسرب التأصيلات العلمانية إلى فكر التيارات الإسلامية المعاصرة" معبرا عن ذلك المعنى.

ما هي العلمانية المتسللة؟

ما هو مفهوم العلمانية الذي استند إليه المراكشي في معايرة واقع الحركات الإسلامية عليه؟ بعد سرده لتعريفات معروفة ومتداولة للعلمانية جعلتها مضاهية للدين، حدد المؤلف مفهوم العلمانية الذي بنى عليه انتقاده، فهي "نزع القيم الدينية الإسلامية عن الممارسة السياسية بمعناها الشامل للاقتصاد والاجتماع والثقافة".

وما قصده المراكشي بالعلمنة التي تسللت إلى الحركات الإسلامية، هو ذلك القدر من العلمانية الذي "سرى إلى أفكار بعض الإسلاميين وتأصيلاتهم في هذه المجالات كلها، ولكن دون أن تصل إلى درجة العلمانية الشاملة". ووفقا للكاتب، فإن تأثر العالم الإسلامي بالعلمانية أثر على مدى حضور المرجعية الإسلامية والتي تراوحت تحت وقع انتشار العلمانية وشيوعها إلى تنحية الشريعة جزئيا (التجريئ)، أو تنحيتها كليا (التنصل).

في معرض تحديده لمبررات وجود الحركات الإسلامية في أصل نشأتها، تساءل المراكشي: "لم وجدت الحركات الإسلامية؟ وما الذي يميزها عن غيرها من التيارات الفكرية والسياسية؟"، ليجيب بشكل مباشر: "الغاية التي من أجلها قامت هذه الحركات الإسلامية، هي: تطبيق الشريعة الإسلامية، وإقامة دولة الإسلام على أرض الواقع".

أما عن "المرجعية التي تميزت التيارات الإسلامية بتبنيها في الأصل، فهي المرجعية الإسلامية، أو قل: هي الشريعة، بأحكامها الكلية والجزئية"، طبقا للمراكشي الذي أكد أنه "لا يمكن لمنتسب لهذه الحركة أن يقلل من شأن هذه المرجعية، فإن التيار الإسلامي لو فرط في مرجعيته الإسلامية، فما الذي يميزه عن غيره، وما فائدة وجوده في معترك السياسية أصلا؟".

العلمنة وجدل المرجعية

وبناء على ما سبق بيانه، فإن المراكشي خصص بابا كاملا "لمناقشة مدى التزام الحركة الإسلامية بهذه المرجعية، ومظاهر التزامها بمرجعية أخرى مناقضة، هي المرجعية العلمانية". ويتضح لقارئ الكتاب أن فكرة الكتاب المركزية تتمثل في كشف النقاب عن مستوى تراجع المرجعية الإسلامية - بدرجاتها المتفاوتة ـ لدى تلك الحركات، وفي الوقت نفسه إثبات جنوحها إلى مرجعية أخرى مناقضة لها ألا وهي المرجعية العلمانية.

ما هي صور الانفصام عن المرجعية الإسلامية؟ حددها الكتاب بصورتين متفاوتتين في الخطورة، مع اتحادهما في استدعاء المرجعية العلمانية، وإحلالها في الموضع الذي ينبغي أن تكون فيه الشريعة، والشريعة وحدها.. الصورة الأولى: تنحية المرجعية الإسلامية جزئيا، وهو ما أسماه "التجزيئ"، والثانية: تنحية المرجعية الإسلامية كليا، وهو ما أسماه "التنصل".

حينما ينتقل قارئ الكتاب ليطالع أمثلة صور انفصام الحركات الإسلامية عن مرجعيتها الإسلامية، يجد نفسه أمام حالات لا تعبر بصورة واضحة وكافية عما أراده الكاتب، فمن تلك الحالات انطلاق المؤلف مما أسماه "أبجديات العلمانية" والتي تعني "التفريق بين الالتزام الفردي بأحكام الدين، والتزام المجتمع والدولة بها؛ أو بعبارة أخرى: بين الدين القلبي الإيماني على صعيد الفرد خصوصا، وبين الدين في صيغته العملية المهيمنة على حياة المجتمع والدولة..".

بنى المراكشي على تلك الأبجدية من أبجديات العلمانية استخلاصه بأنه "قد تسرب هذا الفصل العلماني الشهير بين الأمرين بقبول الأول، ورفض الثاني إلى كثير من دعاة الإسلام، والتيارات الإسلامية العاملة مع رفضهم النظري للعلمانية. فما صحة هذا البناء الاستدلالي؟ وما مدى دقة تلك النتيجة؟

إن التفريق بين الأمرين اللذين ذكرهما المؤلف، ليس من صنيع الحركات الإسلامية ولا من قرارتها، حتى تلام على فعله، بل هو من إنتاج النظام العلماني ذاته، فكيف تلام الحركات على أمر لا يد لها فيه، ثم يتم إلحاقها في الحكم بالعلمانية، ولقارئ الكتاب أن يتساءل: من هي تلك الحركات التي تقبل بالتدين القلبي الإيماني الفردي، وترفض الدين في صيغته العملية المهيمنة على حياة المجتمع والدولة؟

من تلك التيارات الإسلامية التي ذكرها الكاتب باعتبارها فرقت بين الأحكام الفردية والجماعية "بعض التيارات السلفية خصوصا، فصار بعض مشايخ هذا التيار – مع إنكارهم العلمانية، وعدم انتسابهم إليها – لا يستنكفون عن التصريح بأن مهمتهم الدعوة إلى تصحيح عقيدة الأفراد وعباداتهم، وعدم الخوض في قضايا المجتمع والسياسية".. ليتساءل بعد ذلك: "أليس هذا تسللا علمانيا خفيا؟".

من حق مشايخ التيارات السلفية مناقشة الكاتب في حكمه عليهم، وسؤاله عن مدى انطباق ذلك التوصيف عليهم، فهم إنما يفعلون ذلك، ويسلكون تلك المسالك، بناء على فهمهم للدين، وترتيبهم للأولويات، فيشتغلون بما يرونه أولى من غيره، فتصحيح العقائد أولا، وترسيخ التوحيد هو المطلب الأول عندهم، ولا علاقة لذلك كله بما تقوله العلمانية وتروج له.

وكذلك سيجادله أتباع التيارات الإسلامية الأخرى الذين وصف اشتغالهم بإصلاح القلوب، وتزكية النفوس، والتركيز على التخلق بالأخلاق الفاضلة، مع ابتعادهم عن الشأن السياسي، بأنه لون من ألوان التأثر بالعلمانية، أنهم إنما يفعلون ذلك انطلاقا من فهمهم للدين، ورؤيتهم أن هذه القضايا تحتل الصدارة في إصلاح المسلم الفرد، وإقامة المجتمع الإسلامي، فلماذا يُدرج عملهم ضمن دوائر التأثر بالعلمنة؟

تكاد جل الأمثلة والشواهد التي ساقها الكتاب للتدليل على دعوى تنحية الحركات الإسلامية للمرجعية بصفة جزئية، لا ترقى لمستوى إثبات ما ادعاه الكاتب، فأمثلته في أغلبها غير دقيقة ولا متماسكة في بنيتها الاستدلالية، ويمكن لمخالفيه الاعتراض عليها، ونقضها بحجج متينة، وأدلة قوية.

صور "التنصل" من المرجعية الإسلامية

في هذا المقام يتهم المؤلف حركات إسلامية بانسلاخها من مرجعيتها الإسلامية، بحيث يصبح السياسي (الإسلامي) "كائنا منضبطا في القوالب العلمانية الجاهزة، متجردا من كل خلفية فكرية شرعية"، موضحا أنه يعني بالتنصل في هذا السياق "تنحية المرجعية الإسلامية خلال الممارسة السياسية، ويتخذ ذلك مراتب متفاوتة الخطورة، تمتد حتى تصل إلى حالة الذين يزيلون هذه المرجعية مطلقا من خطابهم".

ولبيان حالة "التماهي بين الخطاب السياسي لهؤلاء وبين الخطاب العلماني المهيمن" كما يراها المؤلف، نقل عن عبد الله بوانو، رئيس الفريق البرلماني لحزب العدالة والتنمية المغربي قوله: "لا بد من التمايز في المجالات والرموز والخطاب.. لأنه ليس مطلوبا مني أنا باعتباري سياسيا استحضار الآيات في ممارستي السياسية، بقدر ما أنا مطالب بتطبيق القانون والتشريع".

ووفقا للمراكشي فإن "المسالك الخطيرة لهذه الصورة تتجلى في اتجاهين اثنين: أولهما: عدم الإفصاح عن المرجعية الإسلامية، والاكتفاء بفهم الناس وتصنيفهم، المأخوذ من بعض الإشارات والقرائن. والثاني: تغليف المرجعية الإسلامية بمقولات علمانية مائعة، يتستر الناشط الإسلامي وراءها، ويحتمي بها من النقد الفكري أو البطش المادي". واصفا الأول بأنه ستر للحق، والثاني بالتلبيس على الخلق.

انتقد المؤلف تلك الحركات الإسلامية الممارسة للعمل السياسي بأنها لا تفصح عن مرجعيتها الإسلامية بوضوح، معتبرا ذلك في بعض صوره تنصلا من المرجعية الإسلامية، ما يطرح سؤالا إشكاليا: هل مجرد الإفصاح عن المرجعية الإسلامية بوضوح يكسب تلك الحركات صفة "الإسلامية" في ممارستها السياسية؟

ألا يمكننا العثور على حركات إسلامية أعلنت عن مرجعيتها الإسلامية بقدر كبير من التشدد، كحزب النور المصري؟ لكنه مع إعلانه لتلك المرجعية بكل وضوح، تلبس بممارسات سياسية منكرة ومسترذلة، فهل معيار التقييم هو مجرد الإعلان والإفصاح كما يطالب المؤلف؟

ولا يستريب أحد أن الحركات الإسلامية حينما لا تعلن عن مرجعتيها الإسلامية بشكل واضح، فإنما تكون تحت هواجس الواقع وإكراهاته وضغوطه، وبطش الأنظمة البوليسية وجبروتها ما يجبر تلك الحركات على سلوك تلك المسالك، بحثا لها عن موطأ قدم لها هنا أو هناك، تحمي به نفسها من القمع والاضطهاد والملاحقة القانونية والبوليسية الباطشة.

مظاهر الاختراق العلماني وآفاق العلاج

أكد المراكشي في معرض شرحه وبيانه لتسلل العلمانية إلى داخل الأمة الإسلامية، أن آخر "المعاقل التي كانت مستعصية على التأثر إلى عهد قريب" على التأثر بالعلمنة قد تم اختراقها، ويعني بها الحركة الإسلامية، مبديا قلقه الشديد "من حجم التغلغل العميق للمنطق العلماني" بين بعض أبناء هذه الحركة، رغم استمرار بعض المظاهر الإسلامية الظاهرة.

وبين المؤلف أن لهذا "التغلغل مستويات متراكبة، بعضها أعمق من بعضها الآخر، تبدأ من الاختراق المعرفي العميق، وتنتهي بالاختراق الأخلاقي السطحي الظاهر، وتمر عبر مستوى تلفيقي يتبنى عملية التبرير الشرعي للفكرة العلمانية المخترقة".

واهتم الكتاب بشكل مركز بنموذج الداعية طارق رمضان، المصري الأصل، والمقيم في أوروبا، معتبرا نموذجه يقدم (علمانية صريحة بثوب إسلامي)، وركز في نقده على جملة من الأفكار والمقولات التي يدعو إليها رمضان، كخطئه في تعريف العلمانية والديمقراطية، ومفهوم الهوية المتعددة (الإسلام الغربي)، وتسويته بين الإسلام وغيره، وتوفيقه بين الوطنية والدين، ومناداته بتجديد أصول الفقه.

كما انتقد الكتاب مسالك بعض الحركات الإسلامية، وتمييعها لأحكام الشريعة في قضايا الجهاد والعلاقات بين الدول، ورأيها بإلغاء جهاد الطلب، وعدم تحريرها وضبطها لجملة من المفاهيم كالحرية والمساواة، وتركيزها على تاريخية النص، والمقاصد الكلية للشريعة، ونزع القداسة عن الديني، معتبرا ذلك كله من مظاهر الاختراق العلماني، وتسلل العلمانية إلى الداخل الإسلامي.

في نهاية الكتاب وتحت عنوان "آفاق العلاج"، يدعو الكاتب الحركات الإسلامية إلى أن "تحقق لأبنائها نوعَ عزلة تحميهم من أثر العلمانية، وتحفظ عليهم دينهم من الانحراف والتميع.."، مبينا أنه يريد بذلك ما أسماه المفكر سيد قطب بـ"العزلة الشعورية"، وكذلك حذر تلك الحركات "من الانفتاح الفكري غير المنضبط"، داعيا تلك الحركات إلى الاهتمام بالعلم الشرعي وتعليمه، وضرورة المحافظة على صفتها ومرجعيتها الإسلامية.

لن تستطيع الحركات الإسلامية الممارسة للعمل السياسي، النأي بنفسها عن تداعيات ضغوط الواقع وإكراهاته المختلفة، والتي قد تندرج في دائرة الضرورة والاضطرار كما يصنفها فقهاء تلك الحركات، في الوقت الذي يصفها آخرون باختراقات علمانية تسللت إلى معاقل تلك الحركات، كما فعل المؤلف المراكشي في كتابه هذا، لكن معطيات الفكر والواقع تشير إلى أن نموذج الدولة الحديثة لا يصلح محلا لتطبيق الشريعة، وإقامة الدولة الإسلامية التي تتوق إلى إقامتها تلك الحركات.