بدت إسرائيل منحازة وبوضوح لروسيا ضد تركيا في قصة إسقاط طائرة السوخوي على الحدود التركية السورية الأسبوع الماضي، والأمر لم يقتصر على الإعلام المتجنّد كالعادة المتشفّي والسعيد بورطة أردوغان مع بوتين حسب التعبيرات الدارجة، وإنما تعدّاه إلى التصريحات الرسمية المتعاطفة مع موسكو، والكاشفة في السياق عن طبيعة التفاهمات الروسية الإسرائيلية، وحتى عن التحالفات الجديدة في المنطقة التي تحاول إسرائيل كعادتها، وبانتهازية فائقة تحقيق أكبر فائدة ممكنة منها.
التصعيد الإسرائيلي ضد تركيا لم يبدأ في الحقيقة مع قصة إسقاط طائرة السوخوي، وإنما انطلق قبل ذلك مع تفجيرات باريس الشهر الماضي، التي أقحمت تل أبيب نفسها فيها لنفاق أوروبا، ووضع نفسها في صلب المعركة العالمية ضد الإرهاب بما في ذلك المقاومة الفلسطينية طبعاً، والتصعيد ضد تركيا فضح كما كتبنا هنا الأسبوع الماضي عزوف إسرائيل عن محاولة التقارب والصلح مع تركيا الجديدة، التي تضع القضية الفلسطينية كمكوّن أساسي من مكونات العلاقة بين الجانبين، إضافة طبعاً إلى قناعة تل أبيب أن بإمكانها الاستفادة من التدخّل أو الاحتلال الروسي لسورية، من أجل تحقيق مصالحها مجاناً، ودون الأضطرار لدفع أي ثمن أو أثمان اسراتيجية لتركيا لا سورياً ولا فلسطينياً.
هذا المنحى أي التصعيد ضد تركيا، والإيحاء بالتوقف عن السعي لتطبيع العلاقة معها، والاعتماد في مقابل على الحلف الجديد مع موسكو تبدي بشكل واضح بل فظّ أكثر مع قصة إسقاط االمقاتلات التركية لطائرة السوخوي الروسية على الحدود التركية مع سورية الثلاثاء قبل الماضي.
بدت معظم التعليقات الإسرائيلية، شبيهة بإعلام الحشد الشعبي الإقليمي معادية ومتشفية بتركيا، التى ورطت نفسها في صراع مع الدبّ الروسي حسب اللغة المستخدمة التى وصلت الى حد المراهنة على بوتين كي ينتقم من أردوغان، ويحقق ما عجزت عنه إسرائيل تجاه الزعيم التركي الذي يشيطنه الإعلام الإسرائيلي، كما بعض التصريحات الإسرائيلية الرسمية، ويصوره كخصم عنيد للدولة العبرية، ليس سياسياً وإنما فكرياً أيضاً.
مقابل هذا الانتقاد لأردوغان كالت الصحافة الإسرائيلية المديح لبوتين، التى اقتبست عن رئيس الموساد السابق أفارايم هليفى وصفه للرئيس الروسى بضابط المخابرات الممتاز والمحارب العنيد ضد الإرهاب - يقصدون الإسلامى طبعاً - مع الانتباه إلى الإعجاب الكبير الذي يكنه كل من أفيغدور ليبرمان وأهود باراك للزعيم الروسي الذي وصل إلى حد اعتباره القدوة والأمثولة في محاربة الإرهاب، وملاحقة الإرهابين حتى المرحاض، كما يحلو لباراك القول ناقلاً عن بوتين ومتغزّلاً به.
رسمياً؛ وإضافة إلى التصريح المتبجح والمنافق لأحد قادة سلاح الطيران، والذي قال فيه أن إسرائيل ما كانت أبداً لتسقط طائرة روسية حتى لو اخترقت أجواءها، وهو ما حصل بالفعل، على أي حال كان، لافتاً كلام المسؤول السياسي الأمني لوزارة الدفاع الجنرال عاموس جلعاد - المنصب الذي لا مثيل له في العالم - الذي قال مساء السبت 28 نوفمبر في المركز الثقافي ببئر السبع أن الطائرات الروسية تستخدم الأجواء الإسرائيلية في عملياتها ضمن تفاهم يسمح أيضاً لإسرائيل باستخدام الأجواء السورية للقيام بعملياتها ضد حزب الله.
الصورة اكتملت مع تصريح وبالأحرى تصريحين لوزير الدفاع موشيه يعلون قال في أولهما الأحد 29 نوفمبر أن طائرات روسية اخترقت المجال الجوي الإسرائيلي، حيث تم التعاطي مع الأمر بمرونة وأريحية. وفي ثانيهما وهو الأهم الثاني - كما نقلت الإذاعة الإسرائيلية الاثنين 30 نوفمبر- قال يعلون أن نشر صواريخ أس أس 400 لن ينال من حرية حركة الحركة للطائرات الإسرائيلية في الأجواء السورية، وذلك ضمن تفاهم سياسي أمني تم التوصل بين الجانبين.
التصريحات السابقة ترسم فى الحقيقة صورة المشهد أو التفاهم الإسرائيلي الروسي، وتفسر لماذا ابتعدت وتبتعد تل أبيب عن أنقرة، بينما اقتربت وتقترب من موسكو.
روسيا، وعلى عكس تركيا لا تضع القضية الفلسطينية كعامل من عوامل العلاقة بين الجانبين، وفي حرب غزة الأخيرة مثلاً بدت اللهجة الروسية الرسمية متفهمة لما تقوم به إسرائيل في دفاعها عن نفسها في مواجهة الإرهاب، وضمنياً سعت موسكو للقول أن ما تمارسه في أوكرانيا يتساوق مع ما تمارسه تل أبيب في غزة.
هذا طبعاً بعكس الموقف التركي الرسمي، وحتى الشارع التركي الذي يعتبر أن الشعب الفلسطيني هو الأحب إليه، وهذا أحد القواسم المشتركة الرئيسية، ربما بين تركيا الجديدة، وتركيا القديمة، علماً أن هذه الأخيرة صوّتت ضد قرار تقسيم فلسطين في العام 1947، وخفضت مستوى العلاقة مع إسرائيل مرتين على خلفية القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، كما أن الطفرة في العلاقات بين الجانبين في التسعينات كانت نتاج مباشر لاتفاق أوسلو الذي أوحى أو أعطى الانطباع خاصة بعد قيام السلطة أن عربة الحل باتت على السكة، وأن العداء قد انتهى أو في طريقه للانتهاء بين العرب وإسرائيل.
أما تجاه الملف السوري فبدا التناغم الإسرائيلي مع الموقف التركي القائل بضرورة إسقاط نظام بشار الأسد، مؤقت تكتيكي وانتهازي، علماً أن تل أبيب لا تمانع بقاء نظام الأسد طالما أن هذا يتماشى أو يحقق مصالحها بعكس تركيا التي ترى أن مصالحها بسورية موحدة ديموقراطية، ونافذة لها للانفتاح على محيطها العربي والإسلامي لا يمكن أن تتحقق سياسياً وأخلاقياً، طالما بقى الأسد في السلطة.
مع روسيا كان التفاهم الإسرائيلي إذن أسهل وبدون ثمن أو أثمان جدية، وإذا ما أرادت روسيا الاحتفاظ بنظام الأسد كحامي لمصالحها في سورية المدمرة والمقسمة، فلا بأس إسرائيلياً في ذلك طالما أنه لا ينال أو يؤثر سلباً على المصالح الإسرائيلية والخطوط الحمر الرئيسية التي وضعتها تل أبيب.
هذه الخطوط الحمر تتضمن عدم القيام بعمليات ضد إسرائيل أو فتح جبهة جديدة ضدها انطلاقاً من هضبة الجولان، وعدم نقل أي أسلحة نوعية أو كأسرة للتوازن إلى حزب الله مع حق إسرائيل بالقيام بما تراه مناسباً للدفاع عن تلك الخطوط الحمر ومصالحها بشكل عام.
موسكو تفهمت الموقف الإسرائيلي، ووافقت كما قال جلعاد ويعلون علناً على الحفاظ على المصالح الإسرائيلية في سورية، بما في ذلك حركة الطائرات في الأجواء وتنفيذ غارات ضد أهداف تابعة لحزب الله وحتى للنظام نفسه، خاصة مع التماهي الكبير بين الجانبين في السنوات الأخيرة.
بدت المفارقة أو السوريالية ربما في دخول تل أبيب الفظ والمباشر على معادلة أن السماء لروسيا والأرض لإيران والميليشيات الأفغانية العراقية واللبنانية التابعة لها، وبموافقة روسية طبعاً بحيث باتت المعادلة المحدثة أن السماء لروسيا وإسرائيل والأرض لإيران وحلفائها مع أحقية تل أبيب في ضرب هؤلاء متى رأت ذلك متناسباً مع مصالحها وخطوطها الحمر.
للمفارقة أيضاً سعت تل أبيب وبشكل غير مباشر للاستفادة من المعادلة المماثلة في العراق، حيث السماء للأمريكيين والأرض للإيرانيين والميليشيات التابعة لها، كما قال علناً أيضاً الجنرال قاسم سليماني، وحصلت تل أبيب على ثمن، بل وأثمان لتلك المعادلة ليس فقط عبر المضي قدماً في تدمير العراق، وإعادته سنوات وعقود للوراء، وإنما عبر سلة عسكرية وأمنية واقتصادية تعويضية كبرى بحجة أن تلك المعادلة كانت إحدى البنود الضمنية أو غير العلنية للتفاهم النووي الأمريكي الإيراني.
سعت اسرائيل للاستفادة من الانكفاء الامريكى عن المنطقة الذى تم اساسا بالتفاهم مع الحشد الشعبى الاقليمى او حلف الاقليات المذهبى الذى تقوده طهران، بينما تسعى الان جاهدة للاستفادة من الاحتلال الروسى الفظ لسورية، بالتفاهم مع حلف الاقليات نفسه ، علما ان تل ابيب مولعة تاريخيا بالتحالف مع الاقليات سواء اكان ذلك مع سعد حداد وجيش لبنان الجنوبى فى لبنان ،او مع الملا برزانى والاكراد فى العراق ، وحتى مع قبائل الدينكا فى جنوب السودان وهذ سبب اضافى ربما لابتعادها المضطرد عن استنبول التى تتموضع شيئا فشيئا فى قلب الاكثرية الاسلامية الممتتدة من ماليزيا حتى طنجة .
• كاتب فلسطيني - رئيس تحرير نشرة المشهد التركي الالكترونية


