خبر : أسباب مغامرة أردوغان ومترتباتها... علي جرادات

الأربعاء 02 ديسمبر 2015 08:49 ص / بتوقيت القدس +2GMT





بادئ ذي بدء، ومنعاً لكل التباس، ليس هدف هذه العجالة تسليط الضوء على أردوغان الشخص، بل على «الأردوغانية»، بما هي مرجعية لنظام سياسي وحزب حاكم وحكومة وسياسة خارجية، تشتق أغلب تصوراتها لعلاقة السلطة بالدولة والمجتمع، ولعلاقة تركيا بالمنطقة والعالم، من نظام الملة والسلطنة العثماني، بما يعيد تركيا إلى ما قبل النقلة التاريخية التي أحدثها أتاتورك على هذا الصعيد.
هنا يكمن سر تشبث أردوغان بسياسته الاستبدادية، داخلياً، والعدوانية، خارجياً، والعسكرية لحل المسألة الكردية، والاستخدامية لعصابات «الجهادية السلفية»، («داعش» و»النصرة» و»اخواتهما»)، التي تتقاطع مصالحها مع مصالح تركيا الأردوغانية، حتى وإن اختلفتا حول وسائل تحقيق الهدف المشترك: «أسلمة المجتمع»، وحول أشكال التعبير عن المنطلق المشترك: رفض توحيد ومساواة أتباع الأديان والطوائف والمذاهب كمواطنين.
يكثف المسألة، هنا، أنه ما أن انطلق الحراك الشعبي العربي، بما فتحه من أفق لتغيير تاريخي، في صلبه تصويب علاقة الدولة بالسلطة، وإنهاء ما يوازي سلطة الدولة من سلطات دينية وطائفية ومذهبية، كسلطات تحول دون تكريس الدولة مرجعاً للسلطة، الشرط اللازم لإنهاء سيطرة سلطة الفرد أو الحزب أو الجماعة على الدولة، حتى دخلت تركيا الأردوغانية على خط هذا الحراك، ما يعني أنه بمعزل عما إذا كان حزب أردوغان الحاكم يسعى إلى «تديين ومذهبة السياسة»، أو إلى «تسييس الدين وتوظيفه والاستثمار فيه»، فإن النتيجة واحدة، وهي: عندما تستحوذ السلطة، (أي سلطة)، على كل شيء، يُقصى المجتمع، وتُنفى السياسة، ويغيب الحوار المجتمعي، وتتحول البرلمانات والانتخابات وتعدد الآراء والأحزاب والصحف والنقابات....الخ إلى ديكور لتزيين الاستبداد وزخرفة خطاب الوهم لحل معضلات المجتمع الحقيقية.
أما عندما تعطي السلطة الاستبدادية، (كما في الحالة العثمانية التي يستلهمها حزب أردوغان)، الانتماء الديني الأفضلية القانونية، وبالتالي الحقوقية، فبداهة أن تُلتهم سلطة الدولة، وتنطفئ المواطنة لمصلحة سلطات رجال الدين والطائفة والمذهب، خلافاً لعلاقة السلطة بالدولة في الدولة الحديثة التي تجسد فكرة تساوي الحقوق وتساوي الواجبات بين مواطنيها بمعزل عن انتماءاتهم الدينية والطائفية والمذهبية...الخ
إذا كان هنالك أهمية للإشارات السريعة السابقة، فهي: إن سبب إسقاط سلاح الجو التركي للقاذفة الروسية لا يتعلق بانتهاكها للمجال الجوي التركي، كما تقول رواية أردوغان وأركان حكومته، خلافاً للرواية الروسية التي تقول إن القاذفة أُسقطت في الأجواء السورية.
إذ حتى لو صدقنا الرواية التركية، هل كان انتهاك هذه القاذفة للمجال الجوي التركي، لثوانٍ أو لدقائق، سبباً كافياً لإسقاطها؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لم يتمسك أردوغان بهذه الحجة - الذريعة -، وللدقة النكتة السياسية، حيث توالت مظاهر تراجعه أمام قسوة الرد الروسي، مرة بالقول: «لم نكن نعلم أن القاذفة روسية»، ومرة بالقول: «إنني حزين لإسقاط القاذفة، وأتمنى لو أنه لم يتم إسقاطها»، ومرة بإشاعة أنه «ليس من اتخذ قرار إسقاط القاذفة»، ومرة بالتذلل لأجل الاتصال بالرئيس الروسي، بوتين، أو اللقاء به، ومرة ببلع اللسان عندما دكت القاذفات الروسية، بعنف غير مسبوق، مواقع العصابات الإرهابية عند بوابات الحدود التركية مع سورية، وحيث تتواجد الأقلية «التركمانية» السورية، أو عندما قررت القيادة الروسية تزويد قاذفاتها بصواريخ جو - جو، وجلب صواريخ «إس 300» و»إس 400»، أقوى صواريخ الدفاع الجوي في العالم، إلى سورية، أو عندما قررت معاقبة تركيا اقتصادياً، وقطع كل خطوط اتصال الجيش الروسي مع الجيش التركي، بما فيها «الخط الساخن»، ما ينطوي على رسالة شديدة الوضوح من قادة الكرملين إلى تركيا وغيرها، فحواها، سنضرب العصابات الإرهابية داخل الحدود السورية، أياً كان اسمها، وأياً كان مكان تواجدها.
يرى البعض، (محقاً)، أن قرار تركيا الأردوغانية إسقاط القاذفة الروسية كان قرارا انفعاليا خاطئاً متسرعاً وغير مدروس، كما برهنت تداعياته حتى الآن.
أما، (برأيي)، فإن هذا القرار هو، في عواقبه، قرار مغامر، بل مقامر، ولا يمكن سبر غور سبب اتخاذه، وتقدير تبعاته الكارثية على الشعب التركي، إلا من خلال الإلمام بمعطيات تؤكد وجود علاقة تفاهم ضمني بين تركيا أردوغان وعصابات «داعش» و»النصرة» و»أخواتهما»، بينما يكفي اعتماد التحليل المنطقي لتأكيد هذه العلاقة، إذ يصعب، بل يستحيل، دخول عشرات آلاف الإرهابيين التكفيريين من أربعة أركان المعمورة إلى العراق وسورية من دون سماحٍ أو تغاضٍ تركي رسمي، ولا يُعقل أن ينجحوا في تهريب النفط والغاز والقطع الأثرية من دون تسهيل من تركيا الرسمية، ما يعبِّر عما بين الطرفين من مصلحة مشتركة لمحاربة قوات «الحماية الكردية»، امتداد حزب العمال الكردستاني التركي» في سورية، فيما ثمة تصريحات كثيرة صدرت، بينها «غربية» أميركية وأوروبية رفيعة المستوى، عدا تقارير أصدرتها الأمم المتحدة، تشير، ضمناً أو صراحة إلى أن «معونات الأسلحة والذخائر المقدمة للمنظمات الإرهابية المتشددة في سورية يتم إرسالها عبر تركيا»، ما يعني أن ثمة في تركيا بنية تحتية للإرهاب، انكشف أمر علم حكومة حزب أردوغان بها، عندما أقدمت أجهزة الأمن التركية على اعتقال المئات من أنصار تنظيم «داعش» والمتعاطفين معه في مدن تركية مختلفة بعد هجوم «داعش» الانتحاري في بلدة سروج قبل شهور.
عليه، من الوهم القول إن تغييراً إستراتيجياً سيحصل على علاقة تركيا أردوغان بعصابات «الجهادية السلفية»، لمجرد ما تشنه تركيا أحيانا من غارات استعراضية على مواقع «داعش» في شمال سورية، بينما تتركز غاراتها على مواقع حزب العمال الكردستاني التركي في شمال العراق، ومواقع حليفه قوات «الحماية الكردية» في شمال سورية، مع ما يصاحب ذلك من حملات الاعتقال والملاحقة، وأحياناً الاغتيال، لأعضاء ونشطاء «حزب الشعوب الديمقراطي التركي»، (الذراع السياسية لحزب العمال)، ولأعضاء أحزاب يسارية تركية أخرى، ناهيك عن التشبث الرسمي التركي بمطلب إقامة «منطقة آمنة» في شمال سورية لتدريب وحماية ما يسمى»المقاتلين السوريين المعتدلين» الذين ينتقل سلاحهم ليد عصابتيْ «داعش» و»النصرة»، ولا يتجاوز عددهم العشرات، حسب المخابرات الأميركية، بينما تزعم المخابرات التركية أنهم بالآلاف، وأن بوسعهم محاربة «داعش» والجيش السوري معاً.
لقد كشفت مغامرة إسقاط القاذفة الروسية عقم كل رهان على دور تركي في محاربة عصابات «السلفية الجهادية»، اتصالاً بأهمية ورقة هذه العصابات بالنسبة لتركيا الأردوغانية في محاربة الأكراد.
لكن يبدو لي أن لا تسرَّع في القول: إن بين أهم مترتبات مغامرة اسقاط القاذفة الروسية هو اسقاط أحلام وطموحات تركيا أردوغان بإقامة «منطقة آمنة» في شمال سورية. بل، ولا تسرع في القول: إن بين مترتبات هذه المغامرة هو اسقاط أحلام وطموحات حزب أردوغان العثمانية الجديدة، ذلك ببساطة لأنها، أولاً، أحلام وطموحات استبدادية عدوانية وتوسعية غير واقعية وغير منطقية. وثانياً: لأن أصلها، نظام الملل والطوائف والسلطنة العثماني، قد تجاوزه العصر والتاريخ، ولن يجني إصرار حزب أردوغان على إحيائه إلا الخيبة. أما ثالثا، فلأنها، أحلام وطموحات تستند إلى الاستثمار في إرهاب عصابات» السلفية الجهادية»، التي لم تعد ضرباتها الوحشية تقتصر على منطقة «الشرط الأوسط» وشمال أفريقيا، فحسب، بل تخطتها إلى دول العالم بأسره، خصوصاً الدول «الغربية» التي رعت بقيادة أميركية، ولا تزال، لمصلحة آنية، عصابات «السلفية الجهادية»، لتجني فرنسا، مثلاً، ما جنته الولايات المتحدة، حين انقلبت عليها عصابة تنظيم «القاعدة»، في «غزوة» بن لادن لنيويورك وواشنطن ومنهاتن في 11 أيلول 2001، لكن تركيا أردوغان، من فرط أيديولوجيتها، لم تتعلم، ويبدو أنها لن تتعلم، من درس «القاعدة» و»طالبان» مع أميركا والسعودية والباكستان.
عليه، وبعيداً عن أوهام أردوغان الأيديولوجية المنفصلة عن الواقع لدرجة إحلال أفكاره محله، فإن ثمة، في ردود القيادة الروسية القاسية على مغامرة أردوغان، وفي اكتفاء واشنطن وحلف الناتو بالتضامن اللفظي معه، ما يحمل على الجزم بأن العالم قد غادر طغيان نظام القطبية الأحادية الأميركية، بل وأنه، (العالم)، يسير بثبات نحو نظام عالمي أكثر توازناً سمته تعدد الأقطاب، ما يعني أن الولايات المتحدة قائدة المثلث الرأسمالي الإمبريالي، (أميركا واليابان وأوروبا)، لم تعد شرطي العالم الذي يأمر فيطاع، رغم أنها ما زالت القطب الأقوى.
لكن يبدو أن هذا هو ما لم تأخذه تركيا الأردوغانية بعين الاعتبار، عندما أقدمت على مغامرة اسقاط القاذفة الروسية. بينما كان بوسع أردوغان، لولا فائض أيديولوجيته، أن يتعلم الدرس من ردود القيادة الروسية الحازمة الحاسمة، سواء عندما سلخت اوسيتيا الجنوبية عن جورجيا والحاقها بأوسيتيا الشمالية كحكم ذاتي في اطار الدولة الروسية، لردع الحكومة اليمينية المتصهينة عن تنفيذ التوجه الأميركي لنصب الدرع الصاروخية على عتبات روسيا، أو عندما استعادت جزيرة القرم بقرار سريع، ودعمت النزعات القومية للروس في شرق أوكرانيا، أو عندما قررت التدخل العسكري المباشر والجدي في الصراع الدائر في سورية وعليها من دون أن تنتظر إذناً من الولايات المتحدة، ولا من أي من حلفائها.