لا يوجد إذن في إسرائيل اليوم، وكما بتنا نعرف، رجلُ دولة او زعيم تاريخي او حتى قوة سياسية، تمتلك الشجاعة والحكمة والبصيرة والعقل، تستجيب لنداء العقل والسلام الذي لا يزال الرئيس الفلسطيني يمده لإسرائيل، وتأخذ على عاتقها إنهاء هذا الاحتلال الذي اتخذ الفلسطينيون قرارهم انه لن يبقى. وتعرفون بدلا من ذلك ماذا نجد؟ رجلاً وحكومة منفصلين عن الواقع وعن التاريخ ما زالا يراهنان، ولست أعرف على ماذا يراهنان.
وتركنا جون كيري العزيز الأسبوع الماضي بكتفين باردتين بعد غياب طال اكثر من عام، مرتدياً ثياب الواعظ أكثر منه هيئة المخلص التي طالما حاول تقمصها في وقت سابق. وبدا كأنه في هذا الدور المتأخر وكأنه يلقي بالكرة في ملعب الطرفين، مراهنا هو الآخر وربما بطريقة خفية وماكرة على الوقت ليفعل فعلته، في انضاج الرجل العاق والمشاكس، اذا كان كيري يقرأ كما نقرأ أن جيشه الأعقل منه على الأقل في هذه النقطة الخلافية، هو أولا من أعطى الإشارة عن إفلاسه في مواجهة هذه الانتفاضة.
لا احد يستطيع ان يهرب من قدره، هكذا كان يردد ياسر عرفات. ولعلنا في هذه اللحظات لا نسمع سوى صدى هذه الكلمات نفسها على لسان الرجل خليفة عرفات، الذي يأخذ على عاتقه اليوم ركل الكرة، ولا يوجد أمامه من مجال ممكن لرميها الا الى الأمام، بعد ان قال شعبُه كلمته من انه لا عودة الى الوراء، وحين يقول الشعب فأن صوته هو صدى كلمة الله.
كما في الحياة، في التاريخ والسياسة وتجارب حركات التحرر والثورات، هنا كما يقول آينشتاين كما لو اننا نقود دراجة هوائية لا مجال للتوقف عن مواصلة السير الى الأمام. والى الأمام هنا أيها السيد الرئيس هو الى النهاية، الى الذروة القصوى حتى استنفاذ هذا القدر.
هيا نعرف اذن، ونحصي أوراقنا ولا نتردد في إلقائها او رميها على الطاولة، هيا نفتح الخريطة أمامنا ونقرأ خطوطها وتضاريسها لكي نرسم لأنفسنا الطريق التي يجب ان نسير عليها، لكيما ندرك نقاط قوتنا ونقاط ضعف العدو ونصنع الفارق.
ويتضح من القراءة الأولية لهذه الخارطة ان هناك خمسة مسارات او خطوط رئيسية ومتداعمة، يمكنها ان تشكل مجالات ممكنة للعمل بهدف تضييق الخناق على الاحتلال والتأثير على تحولات محتملة، او تحقيق اختراق في توازنات القوى داخل الطبقة السياسية في الخارطة السياسية الحزبية في إسرائيل. حتى في إبعاد هذه المعادلة الداخلية من الناحية الأيديولوجية، إذا كان التفسير الوحيد بالأخير لغلبة وصعود هذا التوازن في بعده الأيديولوجي الديني المتطرف، انما ساعد على تحققه او تمدده انحسار حدة هذا الضغط من الجانب الفلسطيني، في غضون الأعوام العشرة الماضية التي أعقبت اغتيال عرفات، وانطفاء جذوة الانتفاضة الثانية، وانتقال حدة هذه الضغوط والتصدعات داخل المعسكر الفلسطيني، وتاليا الدول المركزية في المنطقة.
وهذه المسارات يمكن إيجازها على النحو التالي :
1-ان الخط الرئيسي والمركزي الأول هو استكمال الهجوم الدبلوماسي السياسي الذي بادر إليه الرئيس مسبقاً بحكمة وذكاء منذ العام 2012، بانتزاع الاعتراف بدولة فلسطين. وان الهدف المباشر هنا هو تطوير هذا المسار وصولاً الى تأمين نظام حماية دولية للشعب الفلسطيني، باعتبار فلسطين دولة تحت الاحتلال، وهو هدف قابل للتحقق اذا كان الرابط اليوم او المفهوم المؤطر للموقف الأممي، هو العلاقة بين الإرهاب العالمي والجرح الفلسطيني، كما في آخر موقف صادر هذه المرة عن رئيس الوزراء اليوناني بعد مواقف أوروبية أخرى.
2- التعامل مع الانتفاضة الراهنة كما هو عليه الحال منذ انطلاقتها دونما محاولة تأطيرها رسميا او فصائلياً، باعتبارها التجسيد الخلاق لمجموع الذكاء الجمعي الفلسطيني، انتفاضة تتماهى او تتكيف ذاتيا لان تتحول الى نظام حياة، بوسيلة قائمة على التوتر المنخفض من الناحية العنفية، ولكن الأشد إيلاماً واقل كلفة، ولا تمس بمعايير التفوق الفلسطيني الأخلاقي.
3- إعادة سحب كل المكاسب او المزايا التي استفاد منها الاحتلال كنتيجة مباشرة او غير مباشرة لاتفاقية أوسلو، كما يشمل ذلك التهديد بنزع الشرعية عن إسرائيل نفسها، أي بسحب الاعتراف الفلسطيني منها اذا لم يقابل ذلك باعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية.
4- إعادة ترتيب وصياغة أوضاع المنظمة الداخلية بما يتلاءم والانتقال الى وضع ينطوي على الصراع والتوتر في العلاقة مع إسرائيل. وان الاستثمار هنا او الامتياز السياسي هو إعادة النقاش او الصراع الى جذوره الرئيسية، أي الى المربع الأول الذي هو الاحتلال.
5- ادراك مغزى الصراع العالمي والإقليمي الذي يدور من حولنا، باعتباره الصراع القومي السني الاكثري في تعبيره العروبي والقومي، في مواجهة التطرف الديني والتدخل الأجنبي. وان هناك اليوم تحالف وتوازن قوى وحيد يعبر عن الصبوات الجماعية لشعوب المنطقة يتمثل بالسعودية وتركيا وقطر.
ولعل المقارنة التي تستجلي هذا الوضع هي مع الانتفاضة الأولى، التي اصطدمت بمتغيرات راديكالية مشابهة لما يحدث اليوم، تمثلت بانهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين وحرب الخليج الأولى. بينما تتفاعل الانتفاضة الثالثة اليوم على النقيض من ذلك، بصعود روسيا القيصرية وانتقالها الى الهجوم والتمدد، في انقلاب مذهل لصراع القوى الدولية في الأدوار. وانحسار وتراجع التمدد والنزعة التوسعية الاميركية السابقة، ومع تراجع وانهيار العراق وسورية كممثلين لتوازن القوى الإقليمي، إحلال الدور التركي والسعودي والقطري مكانهما او بديلا عنهما، كناطق وممثل ومحاور ومقاتل على ملكية القرار الإقليمي.


