من يتابع المواقف السياسية والمهمات الوطنية المطروحة راهنا، سيجد محاولات باهتة لبرمجة فعاليات «الغضب والمواجهة والاحتجاج» من خلال تنظيم إضراب ومسيرات تذهب الى نقاط التماس والحواجز حول المدن والمخيمات. وثمة دعوات لتشكيل قيادة وطنية موحدة «للانتفاضة الثالثة»، علما أنه جرت استعارة إطار «القوى الوطنية والإسلامية» في الحراك الحالي وكان قد استخدم صوريا في الانتفاضة الثانية. أمامنا قوى سياسية تريد عمل اي شيء - غير مدروس - للحاق بالحركة العفوية والسير في ذيلها مهما كان الثمن وبمعزل عن التخطيط وبناء مقومات، وأمامنا قوى واتجاهات أخرى تخشى من تصاعد الحراك القائم، وتفضل استمرار الأحوال على ما هي عليه كبديل لفوضى مرشحة للإطاحة بالأخضر واليابس، وكلاهما لا يفيدان الحراك الراهن بل يشكلان عبئا عليه، فالحراك القائم رد طبيعي ومسعى جدي للخروج من مسار قاد الى تعميق الاحتلال وفرض نظام الفصل العنصري (الابارتهايد)، وهو حراك في الاتجاه الصحيح بالرغم من العفوية والأخطاء، ومن الضروري دعمه والانتقال به الى مسار آخر لإنهاء الاحتلال.
الملاحظ انه لم يتم تحديد هدف موحد للمنتفضين قابل للتحقيق خلال مدة زمنية (1- 5) سنوات، هدف الخلاص من الاحتلال، ذلك الاحتلال الذي قاد ويقود وسيظل يقود الى انفجارات ومقاومة شعبية لا تعرف الهوادة.
هذا الهدف ليس اكتشافا كونه مستوحى من عملية النهب والقهر والإذلال الكولونيالية المتواصلة. الخلاص من الاحتلال كهدف مركزي قابل للتحقيق يأتي في مواجهة السياسة الإسرائيلية - النظرية والتطبيقية - التي تزعم بأن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي غير قابل للحل أبدا، وما يعنيه ذلك من «احتلال كولونيالي مستدام»، «صراع غير قابل للحل» موقف إسرائيلي تبنته إدارة اوباما وبمستوى اقل الاتحاد الأوروبي والرباعية الدولية من خلال شطب القضية الفلسطينية من الأجندة الدولية والإقليمية ووضعها على هامش الاهتمام. هذا الموقف العدمي لم يتغير بعد اندلاع هبة شبابية متصاعدة، فقد حرص البعض على إدانة عمليات الطعن الفلسطينية، وحرصوا جميعا على «إنهاء العنف» وعودة الأمور الى نصابها، والعودة الى المفاوضات، مع «التكرم» بالحفاظ على الوضع في المسجد الأقصى كما كان عليه، ولم يتحدثوا عن الأسباب التي قادت الى «العنف» وفي مقدمتها الوعود التي قدموها للشعب الفلسطيني وتراجعوا عنها.
قد يقولون إن هدف إنهاء الاحتلال مفروغ منه ومعروف للقاصي والداني، وما يهم هو مواجهة الاحتلال التي تقود الى إنهائه، إن هذا يعني التحاق التنظيمات التي تعبر عن الوعي - افتراضا – بعفوية الشبان والشابات الثورية، والالتحاق بالعفوية يلغي أحد أهم مبررات وجود تنظيمات سياسية، فهي المسؤولة عن قيادة النضال وترشيد المناضلين واختيار أساليب النضال الملائمة هجوما ودفاعا، ورؤية عناصر القوة وعناصر الضعف وبناء ميزان القوى والتحالفات، ووضع الأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة. ان تفسير اندلاع هبة او انتفاضة عفوية يعني انفصال المبادرين عن التنظيمات، وفي العادة عندما تفلت فئات اجتماعية واسعة من النضال المنظم، فإن التنظيمات سرعان ما تبادر الى استقطابها وترشيد تمردها، ما يحدث الآن هو: التحاق التنظيمات السياسية بالحركة العفوية.
قد تكون شبهة الالتحاق بالعفوية الثورية محض ادعاء. دعونا ندقق في الفعاليات. اليوم الثلاثاء، يوم التصعيد والغضب الشعبي العارم والتوجه الى بوابة قلنديا تعبيرا عن حقنا في الوصول الى مدينة القدس، يوم الجمعة يوم للغضب الشعبي العارم مسيرات نحو حاجز «بيت ايل» ومواجهات. التأكيد على حقنا في القدس ودعم المدينة، فعاليتان يقوم بهما الشبان والشابات من غير معاناة التجمع بعيدا والسير الى الموقع المستهدف. السؤال، هل هذا النوع من الفعاليات يؤذي الاحتلال؟ الجواب نحن الذين نخسر من طرف واحد في الموقعين سابقا ولن تتغير جدوى الفعاليات القادمة ما لم نغير نحن من أساليبنا ومن مجموعة الأهداف.
ويتحدث البيان عن وحدة الدم على ارض المواجهة في مواجهة الانقسام، مع ان الهبة الراهنة تستدعي الاتفاق على برنامج مشترك يتضمن الهدف المركزي ومتفرعاته استجابة للمصلحة الوطنية العليا، وأهدافا أخرى تضمن السلم الأهلي والعلاقات الديمقراطية. مطلوب الرد على المقولة الإسرائيلية: «الصراع الفلسطيني لا حل له» الذي يعني تصفية القضية الفلسطينية، بتقديم الحل الذي ينهي الاحتلال ويمكن الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره بدعم شعوب العالم والقوى المناهضة للاحتلال والعنصرية والحرب والهيمنة. إن هذا يطرح سؤالا: هل توافق قوى الإسلام السياسي على إقامة دولة في حدود الرابع من حزيران العام 67 وعلى قرارات الشرعية الدولية المتعلقة باللاجئين وبتقرير المصير كهدف مشترك يتوحد عليه الشعب وقواه السياسية، أم أنها ستشارك بالنضال وبوحدة الدم على أساس أن فلسطين التاريخية أرض وقف إسلامي، هدف يتقاطع موضوعيا مع «مقولة إن الصراع غير قابل للحل». هل تقبل قوى الإسلام السياسي بالقانون الدولي «اتفاقيات جنيف الرابعة»، و»شرعة حقوق الإنسان» والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، التي تعتبر من اهم أسلحة الشعب الفلسطيني التي ستضيف قوة دول وشعوب ومنظمات عالمية الى قوة الشعب الفلسطيني.
إذا لم تكن القوى الوطنية مستقيلة العقل سياسيا، لبادرت الى وضع الأهداف المشتركة النابعة والمتفقة مع المصلحة الوطنية بدلا من مناشداتها العقيمة والمستجدية للوحدة، وحينئذ سيصبح معيار الوطنية والوحدة والنضال واضحا لا لبس فيه، ويصبح الاستقطاب على أساس الوطنية والديمقراطية المحددة، وفي هذه الحالة فإن الشعب سينبذ ويعزل الانقساميين.
الحماس للمواجهة والانخراط والانتقال الى طور انتفاضة شعبية عارمة، موقف وطني سليم إذا ارتبط بإجراء حساب من نوع آخر، إذا وضع برمجة للانتقال من مسار أوسلو ونتائجه المأساوية الى مسار التحرر الوطني والاستقلال، إذا أجاب عن كيفية الخروج من شبكة علاقات مسار أوسلو، بدءا بالخروج من تبعية الاقتصاد (يوجد ألف مصنع إسرائيلي ضمن المناطق الصناعية في الضفة يعمل بها 30 ألف عامل و20 ألف عامل في المستعمرات و100 ألف عامل داخل إسرائيل)، والخروج من تبعية ميزانية السلطة - 160 ألف موظف للدول المانحة. كيف يتم تفكيك هذا القيد الذي يشكل كابحا لتحررنا، بالتأكيد لا يتم بالتجاهل كما تفعل بيانات القوى الوطنية والإسلامية، ولا بالاستمرار في علاقات التبعية باعتبارها أمرا واقعا. كان لدعم الانتفاضة الثانية المسلحة ثمن سياسي باهظ هو الخضوع المذل لشروط المانحين، وكان ثمن دعم الثورات العربية دمارا شاملا للشعوب العربية. تجربتان تطرحان سؤال كيف سنخوض النضال بالاعتماد أساسا على الذات وعلى الدعم غير المشروط وهو قليل جدا. أسهل شيء هو الذهاب الى المواجهة؟ التحدي في شق طريق حرية جديد.
Mohanned_t@yahoo.com


