عندما رفع أبو مازن فقط ، إصبع واحد عن صمام الأمان بكلمات ليست كالكلمات من على منبر الأمم المتحدة.. إنفجرت الضفة ، و ردت بقوة على أستفزازات و إنتهاكات الصهاينة للمسجد الأقصى .. سواء أنكرنا أو لم ننكر ، قبلنا أو لم نقبل ، هذا ما حصل ..وسواء إعتبرني البعض من المطبلين أو المزمرين ، يس هو المهم ، لكن القراءة الموضوعية للمشهد ، و النأي بأنفسنا عن الإنجرار وراء الدفقات العاطفية ، و النزق و الرعونة في التحليل هي الأهم ..
نعم ، أنا و أنتم نعرف أن هناك تحشيدا مستمرا ، سواء من قوى وطنية رافضة للوضع القائم ، أو من قوى "إسلامية" لها تطلعات و أحلام مختلفة ، أو من قوى " الشينجن " و اليوروبيع العربي .. منذ سنوات ، تريد أن تشعل الأوضاع في الضفة ، تريد أن تنتفض الضفة ، بحجة ضرب الإحتلال و رفض الإستيطان ، و بنية إسقاط السلطة ، و تحطيم المشروع الوطني ، و إنهاك حركة فتح ..ووضعت الخطط ، و أنشأت الخلايا ، و حركت كل ما تملك من إعلام و تواصل ، وحقن الأدرنالين ، و الفتن ، وبثت و تبث الإشاعات وتحركت و تتحرك جماعات و أفراد .. ولكنها لم تستطع أن تحرك شيئا ، ولم تؤثر بشكل يلاحظ بالعين المجردة .. بينما و بمجرد إنتهاء ابو مازن من خطابه إندلعت هبة جماهيرية فلسطينية وضعت إسرائيل في حالة من الإرتباك و التخبط ، و عرّت حكومة بيبي نتنياهو الكولونيالية المتطرفة أمام الرأي العام العالمي .. بل ، ورغم تشابك و تزاحم الأخبار الواردة من الشرق الأوسط بكل مآسي سورية و ليبيا و اليمن ، تصدر الخبر الفلسطيني عناوين الأخبار و إهماماتها .. وكانت النتيجة هذا الكم الضخم من الإتصالات و الضغوطات ، و الطلبات ، من القيادة الفلسطينية لتهدئة الأوضاع ، و إرسال بيبي نتنياهو بشكل مباشر أو غير مباشر ، للقيادة الفلسطينية رسائل بلسانين ، بدأها بالتهديد ، فلم يلق لا هو و لا لرسائله بالاً ، وكأن لسان حال القيادة يرد على تهديداته " أعلى ما في خيلك .. إركب " ..وهنا بدأ بيبي يرسل رسائله باللسان الثاني ، و شاركه في ذلك عديد من الأطراف العربية و الدولية ، سنسحب قواتنا ، و نوقف الرد بالرصاص ، في مقابل تهدأة الأمور ، بل و سنعود للتفاوض ، و جاءت ردود متفرقة ، للقيادة و للرئيس ، تضمنت إشارات ، بأن المفاوضات يمكن أن تعود ، بوقف الإعتداءات على الأقصى الشريف ، و أن ينسى الإسرائيليون و للأبد قصة التقسيم ، جغرافيا كان أم زمنيا ، فوق الأرض كان أو تحتها ، علنا و سرا .. و أن يفرجوا عن أسرانا ، و أن يبدأوا من ناحيتهم في تطبيق كل الإتفاقات التي قاموا هم من جانبهم بتمزيقها و ضرب عرض الحائط بها ..
يبدو حتى الآن ، ان الرئيس محمود عباس ، كالمايسترو ، يعزف ، و يقود فرقة من المفترض ، أن يكون كل أعضائها ، أولا و قبل كل شئ ، منضبطين ، و عينهم على إشاراته ، صعودا أو هبوطا ، لينضبط الإيقاع ، و ثانيا : لابد أن يكونوا عازفين مهرة ، مدربين ، عارفين بكل اسرار اللحن و أدوات و آلات العزف ، و أساليب نقله المباشر و غير المباشر عبر وسائل الإعلام ، و درجة إرتفاع و ضخامة الصوت أو هدوءه أو صمته أحيانا و إلا صار النغم نشازا ، و إختلط الحابل بالنابل ، و ثار جمهور المستمعين و المشاهدين ، و حملوا التبعة و المسئولية و الملامة كلها للمايسترو .. بسبب أخطاء أو جهل أو رعونة عازفيه .. و الواضح ، أيضا حتى الآن ، أن الرئيس المايسترو ، رجل إستراتيجي ، يفكر بهدوء ، و ينظر إلى بعد أكبر مما يقف عنده بصر بعض العميان أو قصيري النظر ..
فمثلا عندما يطلع عازف ما في توقيت ما و " يفقع " تصريحا نشازا ، يربك باقي العازفين ، و يعطي إيحاءً بأن الرئيس مايسترو .. بدون جوقة ، بدون فريق قادر و مستعد ..
ينقض المحللون على عزف الجوقة المرتبكة ، و يضعوا لحنهم على مكبرات الصوت ، و يجعلونه عنوانا للنقد ، و رمزا للتخبط و مثالا صارخا للعجز .. و أداة جديدة ترتكز عليها كل سحجات و رقصات الراقصين المتربصين .. رغم أنهم ، ما زالوا يكررون نفس الرقصة ، و الحجل الأعرج ، و يستخدمون نفس الأبواق و يكررون نفس الكلمات ، المليئة بالتقلب و بالتذبذب و الباطنية ، و يحشون رؤوس الجماهير تبناً و قشاً ، ثم يتركونهم يعلكون الهواء ، وهم مستمرون و يواصلون " الكفاح" بكل هذا التدليس و هذه الأساليب التي ملت منها الأذن ، و ضاقت بها الأنفس .. هم يرون في أنفسهم أنهم هم قادة الشعب ، و أنهم هم من يحرك الثوار و الجماهير ، يحركونهم بتظاهرات في شوارع المدن و القرى و المخيمات ، وخطوط التماس تنتهي بتحرير القدس في أحلامهم بعد أن يعودوا جميعا إلا من رحمه الله فخلصه من الحياة و من العيش النكد ، في ظل قيادات و أحزاب ترى في نفسها سيدة للشعب لا خادمة ، منزهة عن الأخطاء معصومة و ممثلة لإرادة الله على الأرض ، فهم لا يعترفون بعباس رئيسا ، و لا قائدا للشعب ، و يطالبونه أن يطلق العنان للشعب بالثورة المسلحة و الكفاح على خطوط التماس .. وهنا يقعون و يوقعوننا في إلتباس عجيب غريب ، فلماذا إذن عليه هو أن يطلب من الجماهير ما دام لا يقود ولا تعترف به الجماهير ، لماذا لا ينصاع الشعب لتوجيهاتهم هم ما داموا هم ضمير و قلب الشعب و هم القادة ؟؟ ولماذا تطالبونه ما دمتم لا ترونه قائدا ؟؟ هذه الصورة المعقدة ، المتشابكة هي الكارثة الحقيقية التي نعاني منها في فلسطين .. هذا " الكذب على الذات و على الآخرين" هو الداء الذي لم نجد له الدواء حتى الآن .. و الإشكال أن شبابا يقعون فريسة هذه النوعيات من الجماعات و الأحزاب ، أصحاب الرايات الملونة و المزركشة ، شعارات الحق التي يراد بها باطل ..


