من يأتي لزيارة قطاع غزة في هذه الأيام سيدرك فور وصوله، أن القطاع لم يعد يصلح للعيش الآدمي لأسباب كثيرة تتصل بتداعيات الاحتلال الإسرائيلي على هذه الجغرافية الصغيرة المكتنزة بأهلها، فضلاً عن الانقسام الفلسطيني الذي يحبط كل شيء.
هذه المقدمة مردودة على تقرير حديث صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" الذي حذر من أن قطاع غزة قد لا يصلح أن يكون مكاناً صالحاً للحياة في غضون خمسة أعوام، مع تدني الكثير من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية في غزة.
"الأونكتاد" أرجع سوء الأحوال في غزة إلى الحصار والعدوانات الإسرائيلية على القطاع، خصوصاً الأخير منها الذي أدى صيف العام الماضي إلى إفقار الفلسطينيين وتشرد الآلاف منهم بسبب التدمير المباشر للمنازل والبنى الأساسية الفوقية والتحتية على تواضعها، الأمر الذي أدى إلى نقص في المرافق عطّل حياة الناس بشكل كبير.
ونتيجة للحصار الدولي المفروض على القطاع بعد فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية عام 2006 وسيطرتها على القطاع منتصف العام 2007، أدى كل ذلك إلى إضعاف الاقتصاد الفلسطيني الذي يتنفس ويعيش يوماً بيوم على المعونات والدعم الدولي.
في تقريره يخبرنا "أونكتاد" أن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن العدوان الإسرائيلي على غزة العام الماضي بلغت ثلاثة أضعاف إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لغزة، مع العلم أن ناتجها المحلي وصل عام 2014 حوالي 2.2 مليار دولار، مقابل 3 مليار للعام 2013.
معنى ذلك أن الخسائر الفلسطينية من وراء العدوان الإسرائيلي بلغت ما يزيد على 6 مليار دولار، وهذا الرقم الفلكي لم يجد إلى يومنا هذا من يمتصه أو يستوعب جزءاً كبيراً منه، وبالتالي فإنه مُرحّل عملياً على جميع المتضررين والمنكوبين الفلسطينيين الذين قصفت منازلهم ومصانعهم وغير ذلك.
التقرير يذكر أيضاً أن 72% من سكان القطاع يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأن توقف الصادرات الزراعية على سبيل المثال ليس مرده للعدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، بل للحصار الدولي المفروض على هذه المنطقة منذ حوالي 9 أعوام.
بسبب الحصار الدولي امتنعت دول كثيرة عن تقديم المساعدات على تنوعها لقطاع غزة بعد سيطرة حركة "حماس" على مقاليد الحكم هناك، وهذا أثر بشكل كبير على موازنة السلطة الفلسطينية وعلى الاقتصاد الفلسطيني، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تعثر حركة الصادرات والعدوانات الإسرائيلية المتكررة التي استهدفت حلاقة غزة حتى باتت خالية تقريباً من أي غطاء نباتي زراعي.
بخصوص تعثر الصادرات الزراعية الفلسطينية وتدني حركتها، فقد بدأ هذا المسلسل بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، وزادت التوغلات الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية من المناطق المحاذية للشريط الحدودي من الشمال إلى الشمال الشرقي والغربي، حتى يغدو القطاع "أصلعاً" ومنطقة أمنية مكشوفة لدى الاحتلال.
أما عن المياه في غزة، فحدث ولا حرج، فهي مستهدفة أيضاً وكل الصرف الصحي الذي كان يخرج من المستوطنات التي أخلاها الاحتلال في أيلول 2005، كان يجد طريقه إما في بحر غزة أو في باطن الأرض حيث الموقع الاستراتيجي للمياه الجوفية.
الخزان الجوفي اليوم بات متضرراً بفعل السحب والطلب الفلسطيني عليه، ويمثل المصدر الرئيسي لاستهلاك الفلسطينيين من المياه، مع الاستدراك إلى أن جغرافية القطاع صغيرة وتتمتع بكثافة عالية من السكان، وهذا كله سينعكس سلباً في المستقبل القريب على الموارد المائية والأراضي الزراعية أو المستصلح منها للزراعة، لحساب التمدد السكاني.
وأكثر ما يعاينه الفلسطينيون في هذه الأيام ويؤكد على أن القطاع لا يصلح بالفعل للعيش الآدمي، هو الانقطاع الكهربائي عن السكان لساعات طويلة جداً، وبالرغم من استطالة هذه المأساة التي تفاقمت مع العدوانات الإسرائيلية والانقسام الفلسطيني الداخلي، إلا أن الفلسطينيين غير قادرين على التكيف مع مصدر يشكل عصب الحياة في أي دولة نامية كانت أم متطورة.
أضف إلى ذلك أن كل عام يمر على قطاع غزة، يزداد الحال سوءاً والبطالة في استشراء والخدمات في تردٍ ملحوظ وخطير، وكل هذا يضعف الحالة الفلسطينية بالعموم، لأن التشاؤم والإحباط يولدان تصورات مشوهة لا تخدم القضية الفلسطينية أبداً.
على أن قدر الانقسام الداخلي الذي وقع في العام 2007 أسهم بشكل متسارع في إضعاف المناعة الفلسطينية، وفي تخلف الاقتصاد وإفقار الناس في غزة، ولأنه غابت عن أبجديات السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها إلى يومنا هذا مبدأ الثواب والعقاب وصلاحية المراقبة الوظيفية والعصا لمن عصا، فقد توسع الفساد إلى درجة أنه أثر على جملة الخدمات التي تقدم للناس.
هذه العوامل كلها بالإضافة إلى الانقسام الداخلي الذي يتغذى على النعرات الفصائلية والمصالح الضيقة، أدت وتؤدي إلى استنزاف الطبقات الاجتماعية المتوسطة وميسورة الحال، وتحولها بمفاعيل هذا الانقسام والعدوانات الإسرائيلية إلى طبقات فقيرة يتمول الكثير منها على المعونات المقدمة من المنظمات الدولية وغير الحكومية ومختلف فصائل العمل الوطني.
والحمدلله أن غزة لم تخصخص كلها وبقي قطاعا التعليم والصحة في حدود إدارة الحكومة ووكالة الغوث الدولية، وإلا كنا أمام كارثة عميقة جداً، في الوقت الذي تعاني فيه "الأونروا" من أزمة تمويل دولي للقيام بواجباتها تجاه مدارسها وباقي المهام الأخرى.
بعد كل ما قيل، والحديث هنا للأحوال المعيشية والإنسانية وليس لصمود وصبر الناس على مقارعة الاحتلال والتجذر في الهوية، هل تصلح غزة حالياً للعيش الآدمي؟ مع انقطاع كهربائي متواصل وشح المياه وتلوثها وبطالة متفاقمة وعجز سياسي فلسطيني وشلل للحياة الاقتصادية وضعف في العرض والطلب؟
إذا ظل الحال على ما هو عليه في ظل تيبس الإرادة السياسية لدى فرقاء النزاع الداخلي وتواصل العدوانات الإسرائيلية، فإن قطاع غزة الذي لا يصلح حالياً للعيش الآدمي، سينتهي به المطاف خلال الخمسة أعوام التي حددها "أونكتاد" لاحتمال عدم العيش فيه إلى نضوب خزانه البشري.
أي أننا سننتهي عند مهلة تلك السنوات إلى معايشة هجرة طوعية فلسطينية خارج قطاع غزة لأسباب منشأها دولي وإسرائيلي وفلسطيني، فحين يقرر الغرب مواصلة حصاره على القطاع فإنه يتحمل مسؤولية في ذلك، وإسرائيل أقل ما يقال عنها بأنها عدو وتعمل لمصلحتها، أما أصحاب النزاع فهم بانقسامهم هذا يخدمون المصالح الإسرائيلية ويستعجلون تصفية القضية الفلسطينية.
Hokal79@hotmail.com


