أن يحظي القائد الشهيد أبو علي مصطفى، وهو العامل ابن القرية، بمكانة مرموقة، فصائلياً وشعبيا، وأن يضطلع، مبكراً، بمواقع قيادية متقدمة، حزبياً ووطنياً وقومياً، ذلك يعني أنه قائد عصامي بخصال استثنائية، جعلته يتملك مواصفات القائد الذي يتقدم الصفوف بروحية فكرية جمعية مقاومة للانغلاق، بوصلتها حس شعبي شفاف، وفهم متميز لطبيعة الصراع وقوانينه. هذا هو سر أن يكون أبو علي واحداً بين قادة فلسطينيين كبار تصدوا لاستحقاقات ما بعد النكبة، وأشعلوا شرارات الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة التي تغلغلت في أوساط الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وصولاً إلى قفزتها النوعية الكبرى، انتفاضة كانون 87، حيث اشتعل الجيشان الشعبي في الأراضي المحتلة، تعبيراً عن إرادة الشعب الفلسطيني بقواه المنظّمة، وعن قدرته على تحدّي الاحتلال، عندما كسر حاجز الخوف، وحوَّل انفجاراته العفوية المحلية، بسرعة مذهلة، إلى انتفاضة شعبية عارمة، بقيادةٍ مركزيّة وشعار سياسي ناظم: "الحرية والاستقلال"، ما أفضى إلى توسيع وإدامة الاشتباك الانتفاضي حتى صار نمط حياة، لكن الاستثمار المتسرع في أوسلو قطع السياق.
هنا، لأن أبو علي لم يكن قائداً عدمياً، بل قائد عركه الكفاح، وعلمه بُعد النظر والحرص الوطني، فإنه، وقبيل استشهاده، وفي انتباهة مبكرة لتدارك تبعات الخلل البنيوي لأوسلو، يقول: "حتى الحركات الوطنية التي قادت الكثير من الشعوب فاوضت، لكن متى؟ وكيف؟ وبماذا؟ هذا هو المهم، لقد اختارت لحظة قوتها بالتفاوض، بينما اختارت القيادة الرسمية الفلسطينية لحظة ضعف وتركت كل الاسلحة، وبذلك اوصلتنا الى بؤس الاتفاقات، بل أبأسها، بعد ان جردت نفسها من كل الاسلحة وفي مقدمتها الانتفاضة الشعبية".
لكن، لأن أبو علي القائد المعروف بشجاعة النقد داخلياً، لم ينحرف عن طريق الوحدة الوطنية، الركيزة الأساس لإدارة الصراع والانتصار فيه، فإنه، قبيل رحيله شهيداً، وفي دعوة متقدمة لضمان عدم تحويل الخلافات السياسية حول أوسلو إلى احتراب دموي وانقسامات مستعصية، يقول: "رغم الجحيم الذي مثله التناقض في السياسة مع السلطة والقيادة الرسمية، حافظنا، وعلينا أن نحافظ الآن ومستقبلاً، على إدارته بمشروعية العمل السياسي والجماهيري، وبحكمة ومسؤولية ووعي مشترك. فنحن لسنا بديلاً عن الاجماع الوطني، بل جزء من حالة وطنية عامة شعبية معارضة موجودة في الوطن والشتات، دورنا فيها ومن خلالها يقوم على مبدأ التعاضد في حماية المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني والنضال من أجل أهدافه العليا".
وأكثر لأن أبو علي قائد وطني قومي تقدمي يعي كما ينبغي أهمية التجسير بين الحزبي والوطني والقومي والدولي، من دون مغالاة في تقدير أهمية كل طرف من اطراف هذه المعادلة التي يتشابك فيها النضال الوطني الفلسطيني ويشتبك أحياناً، فإنه، قبيل ارتقائه شهيداً، وفي مبادرة مبكرة لوقف تآكل شرعية ومكانة وهيبة ودور منظمة التحرير الفلسطينية، ولضمان بقائها الكيان السياسي والمعنوي الحافظ للهوية الوطنية الكفاحية، والإطار الوطني الجامع، والجبهة الوطنية، والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والقائد لنضالاته، في الوطن والشتات، يقول: "ندعو إلى تشكيل مجلس وطني جديد، أي هيئة تشريعية واحدة موحدة للشعب الفلسطيني، في الوطن والشتات، تتشكل بالانتخاب الديمقراطي حيث أمكن، وبالتوافق حيث تعذر، فالحاجة إلى هذه المؤسسة اصبحت ملحة، وهي من مقومات انتزاع حقوقنا في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة. هناك حاجة لتشكيل هذه الهيئة، بحيث تكون ذات اختصاص، ولا يكون اساس العضوية فيها، التمثيل الفصائلي، بل الكفاءة، ويمكن لأي فصيل أن يسمي أو يقترح من يراه مناسبا ليكون عضوا في هذه الهيئة شرط ان لا تكون حيثية عضويته فيها بسبب انتمائه لفصيل بقدر ما هي حاصل حالة مساهمة واغناء وخبرة".
وأبعد، فلتصويب ما طرأ من فهم مغلوط على علاقة "الداخل" بـ"الخارج"، يقول أبو علي بعد عودته لأرض الوطن، حيث بدأ يتلمس الواقع الجديد، ويكتشف الحاجة إلى معالجة معادلة الوطن والشتات: "أقول حقيقة وبدون رتوش إنني في الخارج لم أكن أفهم كل ما يحصل في الداخل. وجودي في الداخل عزز معرفتي بالتفاصيل كاملة، كنت أعرف لكن معرفتي كانت ناقصة، لذا يجب الانتباه وعدم فقدان البوصلة كي نصل الى نقطة توازن في كيف يفهم الداخل الخارج وبالعكس". وللتنبيه والتحذير من تبعات غياب الديمقراطية في المؤسسة الفلسطينية وتفشي مظاهر الفساد فيها، بما يجعلها في واد غير وادي الحالة الشعبية المقاومة، يقول أبو علي:"هي انتفاضة الأقصى التي تسببت في سقوط حكومة باراك، لكنها لم تسقط وزيراً فلسطينياً فاسداً واحدا". ولإعطاء الجيل الجديد من الشباب دوره من دون تطير أو تهيب من كل مظاهر اللامبالاة أو الاستنكاف الشبابي في لحظة معينة، يقيم أبو علي شباب الارض المحتلة بعد عودته القصيرة، بشكل ايجابي، بالقول: "أهم ما تغير هو أن هناك جيلاً جديداً لم نعرفه نحن بالمعنى الشخصي، كنا نسمع عنه فيما مضى من خلال دوره النضالي، خصوصا في زمن الانتفاضة الشعبية الكبرى المجيدة، وهذا الجيل اصبح بعد 32 عاما هو الاكثرية".
إننا أمام رؤية مستقبلية ثاقبة ومتكاملة، ما زالت صالحة لمعالجة مأزق الحالة الوطنية الراهنة. ولا عجب. فأبو علي بين مجموعة قادة وطنيين شهداء استثنائيين، عركتهم الميادين، فأمسكوا بزمامها، وقادوا النضال الوطني الفلسطيني الدفاعي التحرري لعقود في مواجهة عدو يحترف الحروب والتطهير العرقي ويغلق باب التسويات، فحتى باب ما يسمى "حل الدولتين"، بات مغلقاً بمطلب الاعتراف بـ"الدولة اليهودية" التي باتت خارج الممكن التاريخي اتصالاً بمعطيات سياسية وحقائق موضوعية، أهمها: أن نحو 6 مليون فلسطيني يعيشون الآن في فلسطين التاريخية ، وأن قرابة 6 مليون لاجئ اقتلعوا في عملية تطهير عرقي بشعة عام 48 ونزوح قهري عام 67، ما انفكو يتمسكون بحقهم في العودة الذي عمدوه بكفاحهم الوطني وتضحياتهم ودمائهم رافضين التوطين وجحيم التشرد، بينما لم يستقدم المشروع الصهيوني إلى فلسطين سوى نحو 6 مليون يهودي، (ثلث يهود العالم تقريباً). هذا ناهيك عن أنه لا إمكانية لـ"الدولة اليهودية"، لا في عموم فلسطين، ولا حتى في "مناطق 48" التي يتشابك المجتمع الفلسطيني فيها مع التجمع الاستيطاني اليهودي في الاقتصاد والخدمات وسوق العمل وخطوط المواصلات والثروة المائية تحت سيطرة العنصرية الصهيونية بسياساتها وممارساتها التوسعية العدوانية، ما يجعل الخارطة السكانية هنا تشبه الخارطة السكانية في جنوب افريقيا قبل سقوط نظام الأربرتهايد، ذلك فضلاً عن التشابك القائم من موقع الإلحالق بين الاقتصاد الإسرائيلي واقتصاد قطاع غزة والضفة التي قام الاحتلال بتشظية سوقها وربط شمالها وجنوبها ووسطها كل على حدة بالإقتصاد الإسرائيلي، سيما الأيدي العاملة والتجارة وطرق المواصلات والموانيء، بينما تم ضم القدس وسلخها عن الضفة، عدا التشابك الذي احدثه جدار التوسع والضم العنصري الذي يقع وراءه 40% من مساحة الضفة بما تحويه من قرى، فيما معظم شبكات المياه والكهرباء والشوارع الرئيسة في الضفة شبكات مشتركة تستخدمها التجمعات السكانية الفلسطينية والتجمعات الاستيطانية اليهودية، فيما 80% من مياه الضفة بات تحت سيطرة الاحتلال لتلبية 40% من حاجة إسرائيل المائية.
هنا، كأننا نعود لسؤال المأزق الوطني الذي قدم القائد الشهيد أبو علي، قبل 14 عاماً، رؤية مبكرة ثاقبة لمعالجته في مهده. إنه سؤال ما العمل؟ إزاء واقع أن لا امكانية واقعية لاقامة دولة فلسطينية على حدود 67 إلا برحيل الاحتلال بمظاهره السياسية والعسكرية والاقتصادية والاستيطانية، وهو ما يرفضه، بدعم أميركي، قادة الاحتلال، على اختلاف أحزابهم، وإزاء واقع أن لا إمكانية تاريخية لـ"دولة يهودية" صافية إلا بإبادة الشعب الفلسطيني وإقصائه من المكان والزمان بالمزيد من مجازر التطهير العرقي التي فشل ما ارتكب منها حتى الآن في أن يحول الفلسطينين إلى "غبار الأرض"، حيث انبثقوا من تحت رماد النكبة واكتسبوا هوية وطنية كفاحية في سبيل قضية عادلة، بينما فشلت اتفاقات (كامب ديفيد ووادي عربة)، في تطبيع علاقات إسرائيل مع الشعبين المصري والأردني، عدا أن الشعب الفلسطيني لم يُسقط راية النضال ضد احتلال استيطاني إقصائي لم ينجح في شطب وجوده وما يستولده من ارادة مقاومة تتطلع نحو اهداف اصيلة وجوهرية. فمساعي "الأسرلة" للتجمع الفلسطيني في 48 والتفكيك للتجمع الفلسطيني في 67 والتوطين للاجئين، تصطدم بعناصر الهوية والذاكرة التاريخية والحلم المشترك وموجات النضال التي لا تتوقف. ما يعني أنه محض خداع مواصلة الادعاء بأن الشعب الفلسطيني الذي شتته الغزو الصهيوني، ويوحده سياق تاريخي مديد، ليس بنية واحدة. هنا ثمة عنصرية صهيونية سياسية ايدولوجية تجثم على صدر فلسطين شعباً ووطناً، لكنها لم تقوَ، ولن تقوى، على الغاء حقائق الحياة، ولم تنتج، ولن تنتج، غير تأبيد الصراع وتأجيجه وإعادة انتاجه، ذلك لإنها ترفض الإعتراف بما حل بالشعب الفلسطيني من نكبة كان القائد الشهيد أبو علي بين قادة وطنيين شهداء استثنائيين تصدوا لاستحقاقاتها.


