ما هي إذن نوعية هذه الضغوط أو المتغيرات الطارئة والجديدة التي يتصارع معها الرجل، والتي أملت عليه ألا يجد أمامه بالأخير غير هذا الخيار أن يدعو على عجل، كأن الريح تحته، المجلسَ الوطني إلى الانعقاد، كما لو أنها آخر ورقة يلقي بها على الطاولة؟
لا يجادل الذين يجادلونه ولا يبدو أنهم يهتمون أصلا بالتعرض إلى ذكر هذه الضغوط. والمسألة كانت في كل مرة هي أن على القادة المبادرة تحت وطأة الظروف التي يواجهونها إلى اتخاذ القرارات الصعبة. لكن إرثاً من تقاليد طويلة وراسخة تمتد إلى عقود من السنين كذيل سيئ من التشكيك والرشق بالاتهامات، سرعان ما يبرز من جديد كجدال عقيم لا ينتهي، وأكاد أقول كجدال بني إسرائيل مع موسى. حين يختزل محور هذا الجدال والسجال بتحويل الخلاف او النزاع من طابعه السياسي الى أن يصبح قضيةً شخصية، الطابع الأناني المرضي لقادة أشخاص ما برحت تقف وراء قراراتهم غرائز سلطوية منحرفة تعكس رغباتهم المتفردة.
وهكذا كان دوماً أن الذين يريدون التغطية على أهدافهم السياسية يحولون المسألة إلى خصومة شخصية، وعلى ذلك تكون الدعوة الآن إلى عقد المجلس الوطني هي دافع شخصي، يتعلق بحسابات شخصية وأنانية تتعلق بالرجل، أما المصلحة الوطنية العامة فليست لها علاقة من قريب أو بعيد بذلك، والواقع ان دافعاً شخصياً وذاتياً يقف وراء هذه الخطوة. ولكن أليس الارتباط والتداخل بل التلاصق بين المصير الشخصي في هذه الحالة، بين تقرير المصير الشخصي للرجل وبين تقرير مصائرنا، هو أوضح ما يكون في هذه الظروف اذا كان ليس من حقه بل ومن دوافع الفطنة والحكمة السليمة، بل وجدارة القيادة ان يقوم وهو في هذا العمر وأمام انسداد الخيارات والبدائل الأُخرى، بإحداث هذه الترتيبات الاستباقية لخلافته أو إحداث النقلة التاريخية الكبرى لتهيئة قيادة جديدة.
إن كل ما فعله أو أقدم عليه إنما كان متسقاً مع نفسه، لقد آمن بحق بالكفاح السلمي والدبلوماسي أي بالقوة الناعمة طريقاً ووسيلة وحيدة لتحقيق إقامة الدولة الفلسطينية، وجلاء الاحتلال عن أراضي هذه الدولة، ولكنه عندما شعر بعد عشرين عاماً من هذه المفاوضات العقيمة مع عدو لا يريد هذا السلام، اشتق طريقاً التفافية أُخرى لممارسة الضغط على هذا العدو لإجباره على التسليم بذلك، وكانت هذه هي سلسلة الإنجازات الدبلوماسية الجريئة والخارقة التي حققها وصولاً إلى الاعتراف بدولة فلسطين سياسياً على المستوى الدولي، وتتويج هذا الاعتراف الإقرار العالمي برفع العلم الفلسطيني إلى جانب أعلام الأمم الأُخرى أمام مقر الأمم المتحدة.
لقد أراد تجنيب أبناء شعبه نزفاً جديداً ومتواصلاً من الدماء، من الأفضل تجنبه إزاء عدو يتصف بجنون القوة والقتل، وان السبيل الوحيد أمام هكذا عدو هو تحقيق الانتصار عليه بقوة الدهاء والحيلة وصولاً إلى تشديد الخناق عليه وعزله وهذا ما تحقق.
لقد كانت أهداف عرفات وطموحاته هي نفس أهدافه وطموحاته ولكن الأسلوب كان مختلفاً، إذ بخلاف أسلوب عرفات الماكر والمراوغ فإنه أراد إدخال "حماس" ودمجها في النظام الفلسطيني من الباب الواسع، أي من باب الانتخابات الديمقراطية والشرعية، لكن حسابات الحقل هنا أيضا لم تتناسب وحسابات البيدر أي لعبة الأمم، وما يسمى الشرعية الدولية وبقية القصة معروفة. بعد احتراب أهلي داخلي وانقسام ثم عودة إلى الحوار والمصالحة انتهينا إلى الاصطدام بالصخرة الصلبة.
آمن الرجل كأسلافه عرفات والشقيري والحاج أمين الحسيني انه لا يمكن الحكم برأسين، لأن الناس لا يمكنهم ان يعبدوا إلهين. وهكذا "فإما أن تكون هذه حكومتي والتوافق بالرضى على أنها حكومتي، وإما الوصول إلى الطريق المسدودة". والخيار واضح هنا أمام "حماس" ولم يعد بإمكانها بعد ثلاث حروب كبرى خاضتها، التنازل عن مبدأ المشاركة في حكم البلاد على قاعدة "من ينظم النصر يحكم البلاد"، والبلاد هنا هي غزة.
إذن ما العمل؟ وإذا لم يعد العرب هم العرب حتى أصاب الانحلال آخر مظهر في امتلاك مرجعية تبقي على صورة هيبتهم او تماسكهم، كان لعرفات والرجل من قبل الركون إليها، فإن السيبة والمرجعية الثلاثية الوحيدة التي تنتصب أمامه الآن هي السيبة التي تعمل رافعة اليوم لـ "حماس". ولم يعد أمامه حتى مصر حسني مبارك ليأنس بزيارته كل أسبوع.
فما الذي تبقى أمامه إذن سوى العودة إلى إصلاح وتدعيم أسس وقواعد البيت القديم، أركان البيت العتيق؟ أي منظمة التحرير المنظمة الأُم لكل الفلسطينيين. وإذا كانت الانتخابات التي أتت به هو نفسه لرئاسة وخلافة عرفات غير ممكنة، ولا حتى التوازن الإقليمي والدولي الموازي والممهد لهذه الانتخابات التي أتت به موجودة للتوافق على خليفة له على الطريقة اللبنانية، فلنجرب إذن ترتيب عملية الانتقال هذه من خلال إعادة تدعيم أركان البيت نفسه وإعادة تجديد شرعية هذه الأركان، لكيما ربما بعد ذلك يقوم بتوجيه ضربته الأخيرة من موقع القوة وإغلاق الثغرات الداخلية، كضربة الفنان بريشته الأخيرة على اللوحة. وإذا كان لا بد من المغادرة بعد ذلك فليكن.


