أشغلت قضية الشاب بائع الذرة الذي قرر أن يضع حداً لحياته بعد ملاحقات البلدية له في لقمة عيشه، لا نعرف ما هو الشعور الذي سبق لحظة القرار لكنه بالتأكيد شعور الاستسلام والموت والبكاء طويلاً وهو يرى أطفاله يتحرقون جوعاً وبؤساً، لم يستطع الشاب أن يستمر فقرر شكل النهاية ليلقي بجسده في وجوهنا جميعاً ويضعنا وحكام غزة أمام حساب الضمير.
بالرغم من التعاطف الشديد مع الشاب إلا أن بلدية غزة لم تخالف القانون وهي تحاول القيام بواجبها وفقاً لمهماتها الطبيعية وإن كانت هناك مقارنة ما بين الاستزلام على بائع الذرة والاستسلام أمام حيتان رأس المال واعطائهم الحق بإغلاق أرصفة وشواطيء عامة أمام الناس بعضها تم تطويع البلدية بالمال وأخرى تم تطويعها بمصالح الحزب السياسي وعناصره واستثماراته.
لكن لغة الاستهتار التي علق بها مسئول في حركة حماس بعد قصة أبو عاصي معتبراً أن كل القضية مجرد محاولة البحث عن دور بطولة في رواية تاريخية متطوعاً ليشرح الفرق بين أبو عاصي وبين البوعزيزي الذي أشعل بعود ثقابه تونس والمنطقة العربية وهنا المسألة ليست في ايجاد الفروق العشرة بين الحادثتين والتي يعرفها الجميع بل تقزيم مأساة الموت حد التقليد أو الروايات دون النظر لجذور الأزمة الحقيقية هي لغة مثيرة لليأس.
عشرات آلاف من الخريجين وربما أكثر تجرهم عربة الحياة على شوارع غزة الخشنة والمليئة بالحفر، عشرات آلاف من الشباب والعائلات تموت يومياً بلا حرق أو سم والآلاف لديهم رغبة لاتخاذ قرار كما فعل أبو عاصي لكنهم لم يفعلوا يموتون بصمت دون أن يسمع عنهم أي مسئول، أسر كثيرة تحتضن فقرها وبؤسها ويأسها وتنام على دموعها وهمومها ومن الشباب من يفكر بالرحيل والهروب ومنهم من ينتظر رحمة علها تأتي من السماء، لقد كتب عن تلك المآسي والروايات التي تعشش في بيوت تسترها الجدران في كل بيت بطل رواية للحزن يا سيدي وفي كل بيت ضحية أو ضحايا حكمكم يا سيدي والمأساة تتسع والمجتمع شبع انهياراً وانكساراً وحرقاً فقد تسممت الأجساد لأن جرعات القهر والذل التي تلقاها كل آباء الأسر والشباب الذين لم يبدأوا الحياة ليكون أقصى حلمهم مغادرتها كانت أكبر من كل السموم.
إن الهجوم على البلدية ورئيسها هو حرف للقضية وتحجيمها وجرها إلى سياق بعيداً عن الحل، فأبو عاصي وغيره يبحثون عن حياة كريمة كما باقي البشر فقد اجتهد ووفر لنفسه فرصة العودة بقليل من المال لكن المأساة هي مأساة سياسية أزمة نظام حكم تخص حركة حماس واستمرار حكمها لغزة فمنذ ذلك التاريخ أغلقت غزة وإنهار الاقتصاد وانعدمت فرص العمل وألقي بالكثير في الشارع من آباء اصطفوا على طوابير البطالة امتهنوا حراسة الجدران إلى أطفال التسول الذين يملؤون غزة.
كانت هناك مناشدات كثيرة ومطالبات للحركة بأن تفكر أن تتوقف أمام التجربة وأمام انهيار شعب وحصار وكهرباء ومعابر تصر على أن تكون فيها رغم رؤيتها للمأساة ولكنها لم تحرك ساكناً مع وعد برفع الحصار منذ الشهر الأول لسيطرتها على غزة وها نحن ندخل السنة التاسعة بوضع أكثر عجزاً ونبحث عن الحل لدى أطراف دولية من توني بلير أو غيره برغم بساطة المعادلة أن كل الذي تطالبه الحركة من بلير كان متحققاً وربما كان أبو عاصي لديه ما يعمل به بعيداً عن البلدية وقوانينها.
لسنا بحاجة إلى أن يحترق بيت حتى نعرف أن هناك أزمة لنوفر للأب فرصة عمل بعد احتراق أبناءه، ولسنا بحاجة إلى أن ينتحر آخر حتى نحل مشكلته الفردية ولسنا بحاجة إلى انذارات فردية وحلول فردية تحل أزمة لرب أسرة وتترك مئة ألف آخر يطحنهم الفقر والجوع، من حق أطفالنا أن يعيشوا هم وأمهاتهم وآبائهم بكرامة، من ضع نفسه مسئولاً عليه أن يكون مسئول عن تعثر أية دابة وقد تعثرت كل الدواب يا سيدي فارحموها...!!!
Atallah.akram@hotmail.com


