بعد محرقة عائلة دوابشة؛ سارع الكل الاسرائيلي تقريبًا، بما في ذلك بعض رؤساء المجالس الاستيطانية و"البيت اليهودي"، إلى إدانة الجريمة واستنكارها ببالغ الشدة وببالغ السطحية أيضًا، هدف الاستنكار كان امتصاص واحتواء الموجة الهجومية على المشروع الاستيطاني وكل المشروع الاحتلالي، وحتى لا تتحول المحرقة إلى حدث مكون ومؤسس لمرحلة جديدة في الصراع على الصعيد الاسرائيلي الفلسطيني والاسرائيلي الإسرائيلي، وحتى لا تتحول الى منعطف يؤدي الى قيام حملة شعبية إسرائيلية بإجراء حساب عسير مع المشروع الاستيطاني ومع مشروع اليمين الليكودي، وبهذا المعنى فقد رأى اليمين في جريمة المحرقة طعنة موجهه لصدر المشروع الاستيطاني، فهي تكشف عن وحشية المشروع وأهدافه ووحشية المستوطنين، وتكشف علاقة الحماية التي يوفرها لهم الجيش والأجهزة الأمنية، وتضع الدعم والاسناد الحكومي للاستيطان في وضع غير مريح للحكومة.
بيد أن كل المنتقدين والمنددين بالجريمة اهتموا جيدًا بألا تذهب تنديداتهم أبعد وأكثر عمقًا من مهمة امتصاص موجة الحدث، فكانت سطحية، تناولت الجريمة كجناية وحشية لمجموعة من المنحرفين أو الهاذين أو مسممي العقول، وكانت مجرد فرقعات إعلامية وتصريحات في الهواء دون أي التزام أو استحقاق، وسرعان ما انتقلوا الى مرحلة التبريد والتبرير، وقريبًا ستختفي محرقة دوما من العناوين ومن الجدال الجماهيري في إسرائيل، وستعود الأمور الى ما كانت عليه سابقًا من ممارسات واعتداءات يومية من قبل قطعان المستوطنين والجيش وقوات الأمن، اعتداءات لا توثقها سجلات توثيق العنف والإرهاب لدى أجهزة الأمن ولا تبالي بها حكومة نتنياهو، إلى أن تأتي الجريمة التالية، لأن أحدًا في إسرائيل لا ينوي بجد ربط الجرائم بالاستيطان وبالمشروع الاحتلالي، واستمرار تزويد المشروع الاستيطاني بالأكسجين اللازم لبقائه ونموه وتمدده، وهو الغاية والهدف الأكبر لحكومات إسرائيل، لفرض سياسة الأمر الواقع وقتل وإنهاء مشروع الدولة الفلسطينية.
وكل ما قيل وسيقال إسرائيليًا عن الجريمة سيبقى مجرد كلام لذر الرماد في العيون، ولن يتحول إلى فعل حقيقي، سواء على مستوى حماية الفلسطينيين وملاحقة المجرمين وحواضنهم ومحرضيهم ومرسليهم، لا على المستوى السياسي (استمرار تدفق الأموال والرعاية الحكومية والدعم السياسي للاستيطان) ولا على المستوى القانوني بتعريف العصابات الإرهابية كتنظيم إرهابي، وتفعيل مواد قانونية قادرة على تمكين الأمن وإطلاق يده في جمع المعلومات واعتقالهم واستجوابهم وتقديمهم للمحاكمة، والعكس هو الصحيح، وهو الذي يشكل وسيظل يشكل سياسة استراتيجية لحكومات إسرائيل تجاه المشروع الاستيطاني "فهم ملح البلاد وخيرة أبنائها".
والأخطر من ذلك ان ثمة تساؤلات حقيقية يطرحها بعض الإسرائيليون حول قدرة أي حكومة - مهما كانت قاعدتها البرلمانية - لو أرادت ليس تفكيك الكتل الاستيطانية، بل لجم وتحجيم المشروع الاستيطاني، ويبدو ان رأيًا يسود أكثر فأكثر داخل إسرائيل ان المشروع الاستيطاني بات واقعًا أقوى من قدرة أي حكومة، وبات للمستوطنين قدرة كافية على إفشال أي مخططات حكومية قد تتبلور بهذا الاتجاه، ويقول آخرون انهم تعلموا من تجربة إخلاء "غوش قطيف" وأن كل أعمال العنف التي يمارسها المستوطنين هي أعمال ممنهجة ومنظمة ومدعومة من قبل مجالس المستوطنات وزعامات المستوطنين، وهدفها الأساسي ردع الجيش والحكومة، وإرهابهم من الإقدام على خطوات صغيرة تضطرهم إليها محاكم إسرائيل؛ الأمر الذي يجبر الجيش والحكومة على التفاوض والرضوخ لابتزازاتهم، ونموذج "بيت ايل" خير نموذج أخير على ذلك، حيث أمر نتنياهو - سواء مضطرًا أو برغبته - بتعويض المستوطنين ببناء ثلاثمائة وحدة استيطانية عوضًا عن هدم ثلاث بيوت بنيت على أراضٍ مملوكة للفلسطينيين أمرت المحكمة بهدمها.
يقول ديسكين، رئيس "الشاباك" السابق، انه في الضفة تبنى دولة يهودا، أي دولة المستوطنين "ان الدولة اليهودية تتنامى على المدى الطويل، وإن لديها معايير ونظم وقيم ومقاربات مختلفة للديمقراطية"، ويضيف "انه في السنوات الأخيرة أحدث هؤلاء المتطرفون باسم دولتهم فوضى أيديولوجية، وعملوا على مناهضة الدولة، ومارسوا العنف والعنصرية، ولم يجدوا سوى التسامح القانوني من قبل دولة إسرائيل"، وأوضح أن "المتطرفين اليمنيين يحاولون تطبيق فكرة دولتين لشعبين على طريقتهم، وذلك من خلال إقامة دولة يهودا بحكم الواقع إلى جانب إسرائيل"، مشيرًا إلى أن "القيادة السياسية في إسرائيل لم يكن لديها الإرادة والمصلحة للتعامل مع هذا الواقع"، وانتقد ضعف نظام الحكم في إسرائيل على مواجهة المستوطنين، وأن المستوطنين المتطرفين يحظون بدعم أحزاب إسرائيلية وجهات سياسية رسمية، سواء بدعمها أو بالتسامح معها.
وفي هذا السياق أيضًا؛ دعا امنون ابراموفيتش، كبير معلقي القناة التلفزيونية الثانية، الى الانفصال عن دولة يهودا حتى تتمكن إسرائيل من التحرر من أغلال المستوطنين ومن خطر إغراقها طالما التصقت بها ودافعت عنها، وهنا ابراموفيتش يعتقد ان دولة المستوطنين الآخذة بالتشكل في الضفة، والتي لا تنصاع للقوانين والقيم الإسرائيلية، تشكل عبئًا قيميًا وسياسيًا وماليًا وأمنيًا وأخلاقيًا على دولة إسرائيل. أما بوعز هندل، وهو أحد قيادات المفدال والحزب التقليدي للمستوطنين، فكتب محذرًا من خراب الهيكل الثالث، ويقصد به إسرائيل، على أيدي من وصفهم بالمتزمتين، مثلما تسبب المتزمتون بخراب الهيكل الثاني، حسبما يقول هندل.
أي وبحسب الاسرائيليين أنفسهم، فإن المشروع الاستيطاني تحول الى وحش عنيف وخطير وقوي جدًا، بحيث ان أيًا من الحكومات الاسرائيلية لن تستطيع وقفه أو التصدي له في حال لم تشكل المواجهة مع المستوطنين بالنسبة لها خيارًا وجوديًا، أي انها ستبقى في حال امتلاكها - كما هو اليوم - هامش المناورة والوقت والحرية، وستبقى تفضل خيار التهرب من المواجهة؛ بل والاستقامة مع المشروع الاستيطاني طالما أمكنها ذلك.
الأمر الذي يعيد الكرة ومفتاح التغيير الحقيقي إلينا نحن الفلسطينيون، فلم نعد نملك المزيد من الوقت والمزيد من الأرض، فالصراع على الأرض وعلى الكينونة الوطنية الفلسطينية يصل مراحله الأخيرة، وهو في غير صالحنا، فإن لم نسارع الى لملمة أوراقنا وتوحيد صفوفنا وطاقاتنا وترشيد عزمنا واستثمار كل أدواتنا سنؤكل مرة أخرى كما أكلنا عام 48، ونكبتنا الجديدة نكبة ضياع ما تبقى لنا من وطن هي في الطور الأخير من التشكل والنضوج.