أخيراً، دخلت تركيا الحرب السورية! سلاحها الجوي ينفّذ غارات في عمق الاراضي السورية. والقرار برغم وصول شظايا الحرب السورية منذ بداياتها اطراف الجغرافيا التركية. ففي العام 2012، اسقطت المقاتلات السورية طائرة استطلاع تركية. لم ترد انقرة حينها واعتبرته خطأ ارتكبه سلاح الجو التركي. وفي العام 2014 اخترقت طائرة «ميغ 29» سورية الاجواء التركية ثم انسحبت بعد مواجهة الطائرات الحربية التركية لها من دون أن يعطى لها الامر باسقاطها. ومنذ العام 2012، تطلب انقرة إقامة منطقة عازلة او منطقة آمنة او منطقة حظر جوي... ولم تُفلح. والسبب بسيط: لم يكن لديها الضوء الاخضر الاميركي. أما اليوم، فالمعطيات تبدّلت. الضوء الاخضر الاميركي واضح. وقد اعطيت اشارته منذ نحو ثلاثة اسابيع حين قام وزير الدفاع الاميركي بزيارة لأنقرة استغرقت يومين، ناقش خلالها مع كبار المسؤولين الاتراك الترتيبات السياسية والعسكرية لدخول تركيا الصراع المسلّح في سوريا. فما الذي تبدّل؟ وما هي اهداف تركيا في سوريا؟ والاهم، ما هي اهداف الولايات المتحدة وراء هذا التدخّل؟
السبب الاول لدخول تركيا الحرب في سوريا هو نجاح اكراد سوريا في السيطرة على مناطقهم في سوريا والخشية من اعلانهم كياناً سياسياً، في ظل تقسيم فعلي للجغرافيا السورية، وهو ما يشكّل خطراً استراتيجياً للامن القومي التركي. علماً ان تركيا كانت قد اعلنت منذ بدء الازمة السورية، على لسان رجب طيب اردوغان الذي كان رئيساً للوزراء، ان ما يدور في سوريا يشكّل جزءا من الامن القومي التركي. والمقصود حينها اكراد سوريا المنتشرين على طول الحدود السورية – التركية، وهم على اتصال مباشر مع اكراد تركيا.
وما يضاعف الخطر الكردي بالنسبة لأنقرة اليوم، عودة «حزب العمال الكردستاني»، المصنّف ارهابياً من قبل تركيا، بقوة الى الساحة السورية. ومعروف ان هذا الحزب خاض حرباً طويلة ضد تركيا بين عامي 1984 و 1998 بدعم من نظام حافظ الاسد. وهو صاحب مشروع اقامة دولة كردية على ارض كردستان التاريخية، ما يشكّل تهديداً لوحدة الاراضي التركية. ولم تخفِ انقرة هدف غاراتها الجوية: محاربة ارهاب «داعش» و «حزب العمال الكردستاني». وفي الواقع، فإن الهدف الاساسي محاربة «الكردستاني» الذي يُعد اخطر من «داعش»، بحسب مصدر ديبلوماسي تركي. وبالفعل، فإن هجمات تركيا على «الكردستاني» تبقى حتى الآن أقوى من هجماتها على «داعش»، بحسب وكالة رويترز. ويجب التذكير هنا بأن تركيا تحسّبت لخطر «حزب العمال الكردستاني»، فأخرت في العام 2014 وصول الامدادات الى مدينة كوباني (عين العرب) التي كانت محاصرة من مقاتلي «داعش» على امل سقوط المدينة وحصر الوجود الكردي في منطقة الحسكة البعيدة في الجنوب – الشرقي. لكن نجاح مقاتلين أكراد مدعومين بغطاء «الناتو» الجوي في فك الطوق عن المدينة غيّر المعادلة. وما زاد من القلق التركي في المرحلة الاخيرة هو تحقيق الاكراد انتصارات على «داعش» في الحسكة وغيرها من المناطق وزيادة قوتهم العسكرية تنظيماً وتدريباً وتسلّحاً.
السبب الثاني لدخول اردوغان الحرب في سوريا داخلي. فهو يريد تحويل الانظار عن الخسارة المدوّية التي مُني بها في الانتخابات النيابية الاخيرة وخسارة فرصة تعديل دستوري ليصبح رئيساً فعلياً لتركيا بصلاحيات واسعة، خاصة ان الصوت الكردي شكّل عاملاً اساسياً في تلك الخسارة. فغالبية الاكراد صوّتوا لحزب «الشعوب الديموقراطي» الذي حصل على 80 مقعداً في البرلمان، اي ما نسبته 13 في المئة. لذلك، فإن جزءاً من الحرب اليوم ضد «الكردستاني» هو انتقام لتلك الانتخابات وإخضاع للصوت الكردي. ما يؤشّر على ذلك هو الاتهامات التي وجّهها نائب رئيس الوزراء التركي والمكلّف ملف المفاوضات مع الاكراد، لحزب «الشعوب الديموقراطي»، «بدعم الإرهاب واستغلال دخوله البرلمان لتصعيد العنف، وتثبيت أقدام الكردستاني على الأرض»! كما فتح مدعي عام الجمهورية تحقيقاً أولياً في اتهام زعيم حزب «الشعوب الديمقراطي» صلاح الدين دميرطاش بدعم الإرهاب. وهي خطوة من شأنها ان تصبح سيفاً مصلتاً على رؤوس نواب الحزب. لم لا والرئيس اردوغان يحكم سيطرته على الجيش واجهزة المخابرات والقضاء؟
الهدف الثالث يتمثل بدحض الاتهامات التي وُجّهت لتركيا بدعم تنظيم «داعش» وغض الطرف عن انتقال المقاتلين القادمين من اوروبا للانخراط في صفوفه. وتجدر الاشارة هنا الى ان تركيا هي الدولة الوحيدة التي استطاعت تحرير رهائنها الذين اختطفهم «داعش» عند سيطرته على الموصل. كما عَبَر العديد من مقاتلي «داعش»، بخاصة الاوروبيين، من اراضيها.
أما الهدف الرابع فأميركي. لقد تزامن اعطاء الضوء الاخضر الاميركي لدخول تركيا الحرب في سوريا مع توقيع الاتفاق النووي. فهل بدأت واشنطن معركة وضع حد للنفوذ الايراني في المنطقة انطلاقاً من سوريا بالتعاون مع حليفتها تركيا التي لها مصلحة في ذلك؟ يجب الانتظار للاجابة على مثل هذا السؤال. ولكن الاكيد ان هناك تقاطع مصالح كبيرا بين الولايات المتحدة وتركيا لتحجيم النفوذ الايراني قبل ان تستعيد ايران «عافيتها» الاقتصادية والمالية. فإيران اليوم هي لاعب اساسي على الساحتين السورية والعراقية المحاذيتين لتركيا. وهي اول من زوّد اقليم كردستان بالسلاح لمواجهة «داعش». أما في سوريا، فإذا كان الدعم السياسي الروسي يمنع السقوط الحقيقي لنظام الاسد في المحافل الدولية، فإن وحدات الحرس الثوري الايراني و «حزب الله» هي التي تمنع هذا السقوط في ارض المعركة. كما ان المساعدات المالية والعينية الايرانية منعت اقتصاد النظام من الانهيار. ومن شأن رفع العقوبات الاقتصادية في نهاية العام زيادة الدعم المالي والعسكري لبشار الاسد. وكان مرشد الثورة السيّد علي خامنئي قد اعلن عن استمرار ايران في دعم حلفائها في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن والبحرين.
لا شك ان دخول القوات التركية الحرب السورية من البوابة الكردية سيبدّل في جيوسياسة الصراع. ولكن هل ستتمكّن الغارات الجوية وحدها من تحقيق اهداف المعركة؟ وهل تستطيع قوات المعارضة السورية «المعتدلة» والمشرذمة من تأمين المنطقة العازلة؟ ام ان القوات التركية البرية ستضطر إلى دخول الاراضي السوية لتأمين الحدود؟ وما سيكون عليه موقف الدول العربية الداعمة للمعارضة السورية؟
الظاهر ان تركيا انغمست عملياً في وحول الصراع السوري الطويل، ما يزيد من تعقيد ازمات المنطقة حيث يتصارع العديد من القوى الاقليمية والدولية.
عن السفير


