خبر : هل يوجد يسار فلسطيني؟ محمد ياغي

الجمعة 31 يوليو 2015 03:40 م / بتوقيت القدس +2GMT





لم تكن هذه المتلازمة بين «فتح» و»حماس» تشكل المشهد الفلسطيني تاريخياً. بعد نكبة العام 1948 واحتلال ما تبقى من فلسطين العام 1967، كان اليسار هو المكون الثاني للحركة الوطنية الفلسطينية والخيار الأول لقطاع واسع من النخبة الفلسطينية.
حتى «فتح» نفسها كانت قيادتها منقسمة ما بين «يمين» راغب في التسوية وفي علاقات قوية مع الأنظمة العربية وبين «يسار» رافض للتسوية ومنحاز لعلاقات أقوى مع الشعوب العربية.
والحقيقة أن هذه الحال في الساحة الفلسطينية كانت الاستثناء؛ لأن اليسار في العالم العربي كان القوة الأقرب لنبض الشارع وكان القوة الوحيدة التي تقف في خندق معارضة أنظمة القهر.
كان الإسلاميون بما فيهم الجزء الفلسطيني مُنشغلين بتحالفات مع أنظمة الاستبداد لتعزيز مواقعهم على حساب الحركات القومية واليسارية، معتبرين أنها تشكل خطراً على «الإسلام» أكبر بكثير من خطر دولة الاحتلال ومن الأنظمة العربية التي كان شاغلها الوحيد هو كيفية الاحتفاظ بالسلطة، وكان يحركهم عداؤهم للنظام الناصري ومصالحهم التي ارتبطت مع دول النفط العربي.
في الممارسة، لم يكن الفارق كبيراً بين إسلاميي فلسطين والإسلاميين العرب، فإسلاميو فلسطين انشغلوا في مهاجمة اليسار باعتباره عدوهم الأول.
الذاكرة لا تزال حية، وأذكر مثلاً هجوم الطلبة الإسلاميين على الأساتذة اليساريين في جامعتي النجاح وبيرزيت بالجنازير في بداية الثمانينيات، ودعايتهم بين الناس أن أفراد اليسار هم «ملاحدة» و»مرض» على الناس الابتعاد عنهم حماية لدينهم.
وأذكر قصة طريفة نشرها الإسلاميون بين طلاب المدارس في قرية ما، كنت شاهداً عليها أن مشروع الكنتين الطلابي، الذي كان أحد جماعات اليسار قائماً عليه، يتضمن وضع مسحوق في ساندويتشات الفلافل للطلاب يحولهم من «الإسلام» للشيوعية.
كانت عيون الإسلاميين بمن فيهم الفلسطينيون على أفغانستان كأنها قبلتهم الأولى، وكانت محور صراعهم مع اليسار العربي والفلسطيني.
لكن أن نتذكر ذلك اليوم شيء، وأن ندعي بأن سقوط اليسار العربي والفلسطيني المدوي ابتداء من تسعينيات القرن الماضي هو بسبب دعاية الإسلاميين المضادة هو شيء آخر مختلف تماماً.
لحظة صعود الإسلاميين كقوة تخشاها معظم الأنظمة العربية كانت في نفس الوقت لحظة انهيار المعسكر الاشتراكي عالمياً، وانتقال «اليسار» العربي للتحالف مع أنظمة الاستبداد إلا القلة القليلة.
في مصر تحول حزب التجمع اليساري إلى بوق للسلطة هدفه مهاجمة الإسلاميين.
وفي تونس كانت حركة التجديد (الحزب الشيوعي التونسي التاريخي) ومعها أطياف أخرى من اليسار أكثر قسوة في دعايتها ضد الإسلاميين من نظام بن علي.
وفي اليمن انهارت الدولة «الاشتراكية» الجنوبية واقتسمت السلطة مع عدوها الشمالي.
وفي سورية دخل الشيوعيون في تحالف مع حزب البعث الحاكم دورهم فيه التطبيل للحزب القائد.
وفي الجزائر شجع اليسار الحرب الأهلية للخلاص من الإسلاميين.
وفي الأردن دخلت «أفواج» اليسار لعبة الانتخابات بشروط وضعتها الحكومة من خلال حوار وطني كانوا هم فيه مجرد ديكور.
كان سقوط اليسار العربي متوقعاً، بلا رؤية مختلفة عن الاتحاد السوفيتي الستاليني، وبلا أفكار حول منظومة العدالة الاجتماعية والنظام السياسي البديل لأنظمة القهر مُستمدة من التراث الإنساني بما فيه التراث العربي الإسلامي، لم يكن ممكناً لهذا اليسار أن يستقطب الناس حوله وأن يكون البديل للتيار الإسلامي.
دكتاتورية الخليفة أقرب للناس من ديكتاتورية البروليتاريا.. لكن الديمقراطية التي يكون فيها الناس سادة أنفسهم ومستقبلهم، أقرب لهم من الاثنتين، لكن غياب الرؤية الديمقراطية لدى اليسار العربي جعلته منحازاً لأنظمة الاستبداد أو لنقل إنه منحاز لليبراليته وليس منحازاً لقيمه بشأن العدالة الاجتماعية.
في الحالة الفلسطينية كان الوضع مشابهاً، لحظة صعود الإسلاميين كانت تلك اللحظة التي فقد فيها اليسار الفلسطيني تميزه عن «فتح»، كانت لحظة قبول اليسار الفلسطيني اتفاق أوسلو.
صحيح أن الجبهتين الشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي انتقدوا الاتفاق وقالوا له «لا»، لكنها كانت «اللا» الخجولة، غير المسموعة التي لم تحمل معها أي برنامج بديل للاتفاق.
وفي الممارسة، كانت «النعم» هي سيدة الموقف ابتداءً من السعي للحصول على وظائف في السلطة إلى الجلوس كشهود في اجتماعات اللجنة التنفيذية وتكرار معزوفة «الرفض» لسياسات قادة «فتح»، لكنه الرفض الذي يعطي المشروعية لأوسلو، لقد كانوا، مثل اليسار العربي، ديكوراً لإعطاء الشرعية لخيارات فاشلة.
لكن الأهم من البقاء في مؤسسات المنظمة والسعي للحصول على «الغنائم» التي جاءت مع أوسلو، كان فشل اليسار وعجزه عن طرح بديل لمشروع «فتح»، لمشروع أوسلو، هو النقطة الفاصلة في ظهور ثنائية «فتح» و»حماس».
على عكس «حماس» التي رفضت الاتفاق وسعت إلى الإطاحة به عبر التمسك بالعمل العسكري، وأحياناً بالمغالاة فيه - العمليات الانتحارية التي استهدفت مدنيين - بهدف إفشال اتفاق أوسلو، لم يكن لدى اليسار أي مشروع أو برنامج سياسي لتسويقه للناس عندما أصبح واضحاً للجميع أن مشروع «فتح» قد وصل إلى نهايته فاشلاً.
لذلك لم يكن ممكناً أن يشكل اليسار الفلسطيني بديلاً لحركة «فتح» وكان من الطبيعي وفي ظل غياب البرنامج البديل أن ينقسم الشعب الفلسطيني بين مؤيد لأوسلو أو بالأحرى لتنظيم «فتح» وبين معارض ومؤيد لحركة «حماس» التي كان لديها برنامج واضح قائم على فكرة استمرار المقاومة.
في ظل بقاء «فتح» في مشروع أوسلو، لم يكن أمام المؤيد لمشروع المقاومة خيارات حقيقية: إما أن ينحاز لحركة «حماس» وإما يعتكف لخلافه الأيديولوجي معها.
لم يكن «اليسار» الفلسطيني على قائمة خياراته لعدم امتلاك هذا اليسار برنامجاً للمقاومة أو حتى برنامج بديل لأوسلو، وبغياب البرنامج اختفت المبادرة، وباختفاء الأخيرة، اختفى اليسار كقوة مؤثرة وفاعلة.
اليوم- مثل البارحة والليلة التي قبلها- لا يزال اليسار الفلسطيني يعاني من عقدة غياب البرنامج البديل ومشروعه الوحيد هو أن يشكل «جاهة» للصلح بين «فتح» و»حماس» وإذا قرر أن يكون لديه دور أكبر فهو أن يشجع حزب الله وأن يقف مع النظام السوري في وجه التكفيريين، لكن «الجاهة» و»التشجيع» لا يعكسان أكثر من رغبة في الإعلان أن اليسار لم يمت بعد، علماً أن رائحته تدلل على تحلل جسده.