إن العودة لآليات العنف في اطار استحضار النزاعات الطائفية والعرقية والجهوية ، بالوقت الذي يعمل على حرف البوصلة في مواجهة التحديات الكبرى المفروضة من قبل الاستعمار والأطماع الخارجية ، فإنه يمنع عملية التحول التاريخي للبلدان العربية باتجاه الدولة الحديثة ، التي من المعروف أنها تستند إلى عقد اجتماعي ينظم الخلافات بصورة سلمية ويحسمها عبر أدوات مختلفة ابرزها الانتخابات من خلال التداول السلمي للسلطة والحوار وثقافة التسامح وتقبل الآخر بدلاً من أدوات الاقصاء والتهميش والعزل والعنف التي لن تساهما في اقامة انظمة متماسكة .
لقد مرت اوروبا في مرحلة الصراعات الدموية ذات الطابع الطائفي أو الاثني ولكنها أدركت وبعد سنوات من الاستنزاف الداخلي اهمية اللجوء إلى مفهوم العقد الاجتماعي الذي ابتدعه مفكري عصر التنوير وفي المقدمة منهم روسو وهوبز ثم مونتسكيو ليؤكد طبيعة نظام الحكم الذي يجب ان يكون مبنياً على الفصل بين السلطات وسيادة القانون واستقلال القضاء واحترام الحريات العامة أي في اطار تبديد سيطرة الفرد الزعيم أو الحزب الحاكم على كافة مقومات القوة وجعلها متوازنة ومتكافئة .
الاختلاف السياسي بالمجتمع ظاهرة طبيعية ولم تنتج البشرية وسيلة إلى الآن لحل تلك الخلافات بما يحافظ على وحدة النسيج السياسي والاجتماعي إلا الديمقراطية كخيار ومفهوم ووسيلة وأداة في نفس الوقت ، تلك الديمقراطية التي تبنى على قاعدة المواطنة بين الناس بغض النظر عن الدين ، الجنس، اللغة، العرق ، الاصل الاجتماعي ، وضمن مفهوم ان الجميع امام القانون سواء.
يجب ان لا تحتاج البلدان العربية وقواها المختلفة المرور بنفس التجربة التي مرت بها بلدان اوروبا حتى تدرك اهمية العودة إلى مفهوم الديمقراطية وإلى العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين المواطنين والدولة على قاعدة قانونية تضمن الحقوق والواجبات للجميع .
إن وقف الاستنزاف والتدهور في الاقليم العربي يتطلب إلى جانب الإدراك لطبيعة المخطط الاستعماري الذي تغذية العديد من القوى والتيارات التي ترفع شعارات دينية حتى تضفي القداسة على ممارساتها والتأكيد في نفس الوقت أهمية العودة إلى الاساليب الحضارية التي تنظم الخلافات على قاعدة سلمية لتحقيق الدولة الحديثة .
من الواضح ان المساعي الاستعمارية اصبحت اكثر فاعلية مؤخراً وخاصة بعد احداث الربيع العربي الذي بدأ في عام 2011 ، تحت شعارات " الخبز ، الحرية، العدالة ، الكرامة " والذي والذي كان يهدف عبر الحراكات الشعبية العربية الواسعة التي شارك بها كافة الفئات الاجتماعية إلى تحقيق الدولة الديمقراطية التي تنتمى إلى منظومة الحداثة " الحرية ، الديمقراطية ، المواطنة ، التعددية " حيث جرت تلك المساعي بهدف الالتفاف على تلك الأهداف النبيلة ، وليصبح خطر الارهاب هو الذي يتصدر الاولوية ، وحتى تتراجع إلى أدنى درجات سلم الاولويات شعارات الحرية والعدالة .
يشهد المجتمع الفلسطيني حالة الانقسام والتي لا تتشابه مع ما يحدث بالاقليم العربي ، حيث لا يوجد صراعات على اسس مذهبية أو طائفية ، بل يوجد انقسام سياسي بين حركتي فتح وحماس وجغرافي بين قطاع غزة والضفة الغربية .
أحد الاسباب الرئيسية التي وقفت امام الانقسام يتمثل بغياب ثقافة المشاركة ، وعدم الاتفاق على اسس مرجعية للنظام السياسي الفلسطيني وذلك على المستويين السياسي والاجتماعي .
فقد تشكل فهماً للسلطة بوصفها مصدر للثروة وقائمة على قاعدة السيطرة للحزب الفائز بالانتخابات، وجرت تداخلات بين الحزب الحاكم ومكونات الحكومة وذلك بدلاً من خدمة حقوق ومصالح المواطنين ولقد غاب الفهم المشترك للعقد الاجتماعي ، ولآلية إدارة السلطة التي لم يتم الاتفاق على تعريفها فهل هي سلطة أوسلو ام باتجاه انهاؤه وتجاوزه ؟ لتتحول إلى سلطة صمود تحت رعاية م.ت.م .
هناك ركائز للدولة بالأنظمة الديمقراطية الراسخة لا تتغير بتغير الحزب الحاكم سواءً فاز بالانتخابات أم لم يفز وتم التصويت للمعارضة ، مثل السياسة الخارجية والدفاعية والأنظمة الاجتماعية وبنية الدولة القائمة على سيادة القانون واستقلال القضاء ، والفصل بين السلطات والمواطنة المتساوية بين الناس .
لا يسوغ الوصول للسلطة لاي حزب سياسي تغير قواعده وركائزه ، بل يتم استثمار فرصة الوصول إلى السلطة من أجل اقناع المواطنين بصحة اختيارهم للبرنامج السياسي والاجتماعي الذي عرضه الحزب اثناء الانتخابات لتنفيذ هذا البرنامج الذي وضع المواطنين ثقتهم به .
بمعنى ان السلطة لا تستخدم كمصدر للثروة والنفوذ لصالح اعضاء الحزب الحاكم أو بهدف اجراء تغيرات في منظومته عبر مفاهيم ايديولوجية محددة على حساب مرتكزات القواعد الديمقراطية والحقوقية للنظام السياسي .
وإذا أردنا التعلم من تجارب التاريخ وتجارب الشعوب فعلينا العودة للخيار الديمقراطي بهدف استعادة الوحدة ومن اجل بناء نظام سياسي ديمقراطي تعددي تبنى به مقومات الدولة الحديثة خاصة إذا أدركنا مدى ضعف وتهميش البنى المؤسسية الفلسطينية والتي اصبحت شائخة وتحديداً مؤسسات م.ت.ف ، كما تم تعطيل عمل المجلس التشريعي ، وأصبحت آليات اتخاذ القرار سواءً السياسي أو الاقتصادي تتم بصورة فوقية وبيروقراطية دون مشاركة القوى المعنية وذات المصلحة، كما أصبح النظام السياسي يتجه نحو الفردية والفئوية بعيداً عن المؤسسات الوطنية الديمقراطية الجامعة .
لقد بات مطلوباً الشروع فوراً في حوار واسع للقيادات الرئيسية بالوطن العربي " الاسلامي ، القومي ، الديمقراطي والليبرالي " بهدف الخلوص باستنتاجات لوقف التدهور الراهن عبر الاتفاق على مرتكزات النظام السياسي وفق مفهوم العقد الاجتماعي وعلى قاعدة تضمن التعايش المشترك وتنظيم الاختلاف بالطرق السلمية وكما بات هذا الحوار مطلوباً على المستوى العربي فهو كذلك مطلوباً على المستوى الفلسطيني ايضاً.
يجب ان لا ننتظر تهاوي النظام السياسي أمام اعيينا ونحن نراقب وتنفرج ، بل يجب أن نسارع بالعمل باتجاه بلورة فاعليات ومبادرات قادرة على منع التدهور في هذا النظام عبر المدخل الوطني " وثيقة الوفاق " وعبر المدخل الديمقراطي " الانتخابات " .
لقد بات مطلوباً عقد اجتماع موسع لكافة القوى والشخصيات الفاعلة بالوطن والشتات من اجل التأثير بالراي العام وتعزيز مبدأ المشاركة وذلك بما أننا نمر في مرحلة تحرر وطني وديمقراطي وذلك عبر خطوات تبدأ بالضغط لعقد الاطار القيادي الموسع للمنظمة وتسير بتدرج باتجاه اجراء انتخابات ديمقراطية توافقية .
قد يعترض الاحتلال الانتخابات ، وهذا متوقع ، وعليه فقد يقوم بالاعتقالات للنواب وغيرهم ، ولكن الاحتلال يقوم بالاعتقالات للنواب بغض النظر عن المعركة الانتخابية فإذا قام بذلك فإنه سيشكل مصدر قوة لشعبنا الذي يريد ان يحقق حقه في تقرير المصير عبر الأداة الديمقراطية بما يساهم في تعرية الاحتلال كقوة قمعيةغاشمة ، وبما سيساهم في تحقيق الالتفاف الشعبي والتضامني الدولي مع حقوقنا الوطنية .


