قد لا تكون النخب العربية هي الوحيدة في العالم التي تستخدم نظرية المؤامرة لتفسير ظواهر اجتماعية وسياسية، ولكنها بالتأكيد في مقدمة من يجعلون منها مصدرهم الأساس لكل تحليلاتهم وتخيلاتهم.
نظرية المؤامرة تجيب على كل التساؤلات وتفسر جميع الظواهر، وهي لا تحتاج أكثر من الادعاء بأن "الغرب" يريد للعالم العربي أن يكون أسيراً للحروب والنزاعات الطائفية والتخلف والفقر حتى تبقى المنطقة العربية تحت سيطرته.
ضمن هذا المعطى الفكري فإن الربيع العربي، وبسبب ما جرى ويجري في سورية تحديداً، هو مؤامرة "غربية" هدفها نشر الفوضى في العالم العربي عبر تدمير الجيوش، وتغذية الصراعات الطائفية والإثنية والأيديولوجية.
وإذا سألتهم ما هي مصلحة "الغرب" في نشر الفوضى، فإن الجواب الحاضر هو من أجل تكريس تفوق إسرائيل في المنطقة أو لاستحضار تدخل خارجي بهدف وضع اليد على ثروات العرب.
لنظرية المؤامرة عند النخب العربية تاريخ فيما يتعلق بنشر الفوضى، فإن قصتهم تبدأ من الحديث عن احتلال العراق العام 2003، ولكن النظرية بالتأكيد سابقة لذلك بكثير وقد تم استحضارها لتفسير سبب عدم قدرة العرب على الانتصار على دولة صغيرة، تحتل أراضيهم منذ خمسة عقود أو أكثر.
العرب لا يحاربون إسرائيل، هم يدعون، بل أميركا والغرب الذي يدعمها بالمال والسلاح، ويكفي أن تذكر اسم أميركا حتى تفسر كل شيء.
قوة نظرية المؤامرة تكمن في أنها لا تجلد الذات، لذلك هي مريحة لأصحابها كونها تلقى بالمسئولية على الغير وعلى "الغرب" تحديداً، حيث من السهل إقناع الناس بذلك دون جهد فعلي يذكر.
جماهير النخب القومية واليسارية تقول منذ عشرات السنيين بأن إسرائيل قاعدة متقدمة للاستعمار الغربي في المنطقة وأن أنظمة الحكم "الرجعية" هي أدوات بيد الغرب.
جماهير النخب الإسلامية تستمع هي أيضاً لأسطوانة تصب في نفس الاتجاه: الغرب يكره الإسلام والمسلمين وهو من دمر الخلافة الإسلامية حتى يبقى المسلمون ضعفاء أذلاء.
ليس في نيتي تبرئة الغرب أو دحض هذه الادعاءات وأكثر من ذلك سأقوم بالتسليم بصحتها رغم أن قناعتي بأن الجزء الأكبر منها غير حقيقي، وفي المقابل سأحاجج بأن هذه الادعاءات لا تفسر شيئاً.
هي لا تستطيع أن تفسر لنا لماذا تحول ربيع الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية إلى شتاء قارس ودموي، وهي لا تفسر لماذا بقيت أنظمة الاستبداد مكانها منذ حصلت الدول العربية على استقلالها قبل ستة عقود. وهي لا تفسر لماذا تمكنت دولة صغيرة من تكريس احتلالها لأراضي عربية كل هذا الزمن، وهي لا تفسر لماذا لم يتمكن العراق من النهوض بعد الانسحاب الامريكي منه.
نظرية المؤامرة لا تفسر كل ذلك لسبب بسيط وهو أن التاريخ يعطينا أمثلة عديدة تتعارض مع هذا التفسير الساذج لما يحدث في العالم العربي.
كيف يمكن الادعاء بأن دعم أميركا لإسرائيل هو الذي يمكنها من الاستمرار في احتلال أراضي العرب إذا كانت أميركا نفسها قد هزمت في أكثر من حرب، أو لم تهزم في فيتنام، أو لم تفشل في العراق وفي أفغانستان، كيف إذاً يمكن لدولة صغيرة بكل المقاييس وموجودة في محيط كاره لها، أن تنتصر على محيطها كل هذه السنيين؟ هل تكفي مساعدة أميركا لها للانتصار؟
المعادلة ليست عصية على الفهم، أميركا وجدت في فيتنام من يحاربها لهذا هُزِمَت، إسرائيل لم تجد من يحاربها لهذا انتصرت، دعم أميركا والغرب عموما لإسرائيل هو عامل إضافي يرفع تكلفة الانتصار في المعركة، ولكنه لا يمنع الانتصار عندما توجد قوى عربية راغبة بخوض الصراع وتمتلك إرادة لخوضه، أو لم تهزم إسرائيل في لبنان العام 2000؟ أو لم تفشل على الأقل في حروبها على لبنان وغزة بعد ذلك؟
أصحاب نظرية المؤامرة لديهم ردود على كل ذلك، هي أنظمة الاستبداد التي تدعمها أميركا من يحمي إسرائيل من غضب العرب.
هؤلاء لا يقولون لماذا لم تتحرك الشعوب العربية سابقاً لتغير أنظمتها، والأسوأ أنهم يقولون عندما تحركت هذه الشعوب، أنها فعلت ذلك بسبب مؤامرة خارجية.
هم لا يقولون مثلاً، بأن النظام السوري "المقاوم"- وهو على عداء مع أميركا والغرب - قد قاوم من خلال "حزب الله" و"حماس" ولكنه نفسه لم يقاوم واكتفى بالاحتفاظ بحق الرد على الاعتداءات الإسرائيلية عليه منذ أربعة عقود.
هذا نظام لا تنطبق عليه مقولة أنه مدعوم من أميركا ويأتمر بأمرها، ورغم ذلك لم يقاوم، هم لا يقولون أيضاً، بأن السادات قد انتقل طواعية للمعسكر الآخر وأن أحداً لم يغصبه على ذلك، وهم لا يفسرون لنا لماذا تأخرت ثورات الشعوب العربية ثلاثة عقود عن مثيلاتها في أميركا الجنوبية وعقدين عن أوروبا الشرقية.
هل كانت أنظمة الاستبداد في العالم العربي أكثر دموية منها في تلك البلدان؟ ربما بعضها ولكن ليس جميعها بالتأكيد.
في أميركا اللاتينية كانت هنالك أنظمة مجرمة قتلت من شعوبها عشرات الآلاف لكن شعوبها أسقطتها.
دعم أمريكا لأنظمة الاستبداد يفسر جزء بسيط من لغز بقاء أنظمة الاستبداد لفترة طويلة في الحكم في العالم العربي، وهو قطعاً لا يفسر سبب قوة الثورة المضادة التي أجهزت على الربيع المصري واليمني والبحريني والسوري والليبي.
أميركا لم تتدخل في تونس، وطالبت الجيش المصري بعدم التدخل ضد المحتجين، وشاركت في إسقاط القذافي، وكل ذلك موثق يمكن العودة إليه.
دعونا أيضاً نتذكر بأن أميركا قد دمرت اليابان كلياً في الحرب العالمية الثانية مستخدمة القنابل النووية. لكن أين اليابان وأين العراق؟ اليابان اليوم تعتبر ثالث قوة اقتصادية عالمية رغم عدم وجود البترول فيها، أما العراق فقد خسر ثلث مساحته لعصابات مسلحة بعد خروج القوات الأميركية منه.
هذه حقائق تجعل من نظرية المؤامرة مجرد سخافات لا تصمد أمام حقائق التاريخ.


