خبر : عندما تفوز حضارة الإغريق على العولمة المتوحشة ... مهند عبد الحميد

الثلاثاء 07 يوليو 2015 09:06 ص / بتوقيت القدس +2GMT



عندما قال الشعب اليوناني لا لإملاءات «الترويكا»، كان أميناً على تراثه  الحضاري الثقافي الذي ترك بصماته على الحضارة الإنسانية برمتها في قديم الزمان. 
اليونان هذا البلد الجميل الذي قدم الإلياذة والأوديسة وأعمال اسخيلوس وسوفوكليس، وأخرج فلاسفة أمثال سقراط وأرسطو وأفلاطون، ها هو اليوم ينتصر للقيم الإنسانية التي صنعتها حضارة الإغريق التي اغتنت بها الشعوب وأغنتها.
يتقاطع بعض العرب مع إنجاز الشعب اليوناني المعنوي الكبير اليوم وينتصرون له، بمثل ما تقاطع أجدادهم بالأمس مع حضارة الإغريق  وانتصروا لها وحافظوا عليها وارتقوا بها على يد ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم. 
ذلك هو المغزى الكبير للحضارات الإنسانية، التي تستولد ديناميات تطورها من كل عناصر القوة والإنجاز في الماضي.
إذا كانت الحضارة تتلخص في الانتصار لحرية الإنسان ومنظومة قيم العدالة، كما جسدها الشعب اليوناني وهو يرفض إملاءات الترويكا. فإن تضامن شعوب العالم مع اليونان المتمردة على الظلم والتجويع والقهر ما هو إلا انحياز لعولمة إنسانية حرة. 
مقابل ذلك فإن الاحتكارات والجشع والتجويع والقهر والنهب وغطرسة القوة كما جسدتها سياسة الترويكا المدعومة من الكبار ما هي إلا تجسيد لعولمة متوحشة مهددة للسلم العالمي.
أراد الاتحاد الأوروبي أن يكسر إرادة الشعب اليوناني، بإملاء شروط مؤلمة، وفرض سياسات تقشفية صارمة، كزيادة ضريبة القيمة المضافة على قطاعات السياحة وعلى الطاقة والسلع الكمالية والغذائية، وتخفيض حاد في الأجور، وحرمان العاملين من جميع العلاوات والإضافات السابقة على أجورهم وتخفيض معاشات التقاعد التي خفضت سابقا بنسبة 25% وتجميدها، والمطالبة بتحقيق فائض بنسبة 3.5%من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2018. 
وطلب الاتحاد الأوروبي من اليونان ببيع عدد من جزرها السياحية لكي تسدد ديونها. 
يذكر أن فرنسا وألمانيا وضعت شروطا لتقديم القروض وهي: إعفاء 150 ألف موظف قطاع عام من مناصبهم، ورفع سن التقاعد إلى 67 عاماً، وخفض الإنفاق على السلاح، وحولت فائدة القروض من 1% إلى 6%.  
الشروط تعني، تخلي الدولة عن دعم المجتمع لصالح الشركات الاحتكارية «الطغمة المالية»، وارتفاع البطالة ومعدلات الفقر، بل كانت نتائج التزام الحكومة اليونانية اليمينية السابقة بشروط الترويكا كارثية، فقد ارتفعت ديون اليونان إلى 340 مليار يورو بمعدل 175% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد . واصبح ثلث السكان تحت خط الفقر . وارتفعت نسبة البطالة إلى 50% يوجد 1.5 مليون عاطل عن العمل، ونصف مليون موظف لم يتقاضوا أجورهم منذ عدة أشهر. 
ورغم ذلك فإن «الترويكا» تواصل الضغط غير عابئة بالوضع الذي يزداد تفاقما، ولم تتوقف عند رفض الشعب اليوناني للحكومة اليمينية وأحزابها التي وافقت على الشروط القاسية، ونزع الثقة منها، ومنح تفويضاً شعبياً كبيراً لحزب «سيريزا»  اليساري، الذي رفض الشروط التعجيزية التي ساهمت بوضعها رئيسة الحكومة الألمانية أنجيلا ميركل، ووعد بتخفيض الديون وإلغاء بعض الضرائب، ورفع الحد الأدنى للأجور.  
الترويكا صعدت من شروطها وضغوطها من أجل دفع حكومة اليسار لقبول شروط مخالفة لبرنامجها التي حصلت على تفويض شعبي عليه.
أرادت الترويكا إغلاق الطريق أمام نموذج يساري تمرد على سياساتها، ويمكن له أن يعمم في بلدان أوروبية أخرى كإسبانيا والبرتغال وإيرلندا وقبرص، ومن أجل إسقاط هذا النموذج تمسكت بحزمة الإجراءات والشروط. 
رفض 61% من الشعب اليوناني خطة الدائنين المذلة، كان ذلك رداً حازماً على التهديدات والضغوط والتخويف والحرب النفسية التي تعرض لها الشعب اليوناني واستهدفت قبوله للخطة. 
كانت النتيجة عكسية فأسقط بيد الدائنين، قبل الاستفتاء قالت حكومتا بلجيكا وألمانيا: لا نريد مكافأة حكومة يسارية متمردة على القواعد التي وضعها الاتحاد الأوروبي، وجاءت نتيجة الاستفتاء « كسر فزاعة خروج اليونان من اليورو»، ومكافأة الشعب لحكومته اليسارية التي أخلصت لشعبها، وضمت جهوده إلى جهودها في الدفاع عن البلد. كانت النتيجة تجديد التفويض الشعبي ليسار شجاع وواقعي وملتزم بمصالح الشعب. 
والنتيجة الأهم تهافت السياسات العقابية الرجعية التي ضربت عرض الحائط بمصالح السواد الأعظم من اليونانيين لصالح الشركات الاحتكارية ورأس المال المعولم، ومن غير المستبعد أن تنتقل التجربة إلى بلدان وشعوب أوروبية أخرى سبق وأن قبلت بشروط التقشف، نتيجة أخرى تأتي على النقيض- في حال حدوثها - من رغبة  الترويكا.
وماذا بعد، هل تجرؤ الترويكا على إخراج اليونان من اليورو؟ هذا الموقف الذي تتبناه ألمانيا وبلجيكا ويستهدفان من ورائه تخويف دول أخرى كأسبانيا والبرتغال وإيرلندا وقبرص وثنيها عن معارضة السياسة المالية للاتحاد. غير أن خروج اليونان من اليورو، سيؤدي إلى إعلان اليونان حالة الإفلاس وفي هذه الحالة فإن ديون اليونان ستسقط ما يؤدي إلى خسارة فادحة للدائنين.  
ومن المتوقع أن يؤدي انسحاب اليونان إلى فوضى في النظام البنكي الأوروبي وسيقلص قدرة البنوك الأوروبية على الإقراض، ما يؤدي إلى كساد اقتصادي، كما أن الثقة باليورو ستهتز سيما وأن دول الخليج العربي تتعامل مع اليورو في حساباتها بنسبة كبيرة، وستفقد الكثير من ودائع دول الخليج في أوروبا قيمتها. 
يذكر أن قيمة اليورو تراجعت أمام الدولار فور خروج نتيجة الاستفتاء. وسينعكس الفشل الاقتصادي الأوروبي في اليونان على مكانة الاتحاد الأوروبي الدولية، كما أن فشله في حل مشكلات أعضائه سيخلخل ثقتهم بمشروع الاتحاد.
إذا كانت الترويكا لا تملك حلاً لازمة اليونان الاقتصادية، فإن البحث عن حلول من خارج الاتحاد يصبح مشروعاً ومبرراً برغم الصعوبات والتعقيدات.  
ثمة احتمال بأن تتوجه الحكومة اليونانية اليسارية إلى روسيا والصين وبعض دول أمريكا اللاتينية في محاولة لإبرام اتفاقات تخفف من حدة الأزمة، ومن المتوقع أن تستجيب الحكومة لمطالب الحزب اليساري الداعية إلى نزع سيطرة الترويكا على البنوك، وتأميم القطاع المصرفي، وإنشاء مصرف حكومي موحد، ووضع الحسابات الضخمة للشركات الكبرى تحت سيطرة الدولة والمجتمع. 
ويبقى سؤال، هل ستقود النتائج والاحتمالات إلى تراجع الاتحاد الأوروبي عن شروطه؟ وفي الأقل هل ثمة إمكانية للحل الوسط؟ احتمال له حظ اكبر بعد الاستفتاء. في كل الأحوال سواء تراجعت الترويكا أم لا، فإن الشعب اليوناني بقيادة اليسار الجديد الذي تمرد على اليمين داخل اليونان وعلى الترويكا من خارجه، حفر مجرى جديدا للنضال ضد العولمة المتوحشة واحتكاراتها وجشعها. 

Mohanned_t@yahoo.com