خبر : مخرج التسوية: تداعيات انقلاب الموازين العسكرية بسوريا ..مركز الجزيرة للدراسات

الجمعة 26 يونيو 2015 01:41 م / بتوقيت القدس +2GMT
مخرج التسوية: تداعيات انقلاب الموازين العسكرية بسوريا ..مركز الجزيرة للدراسات




مقدمة
يشهد الوضع الميداني السوري تحولات مهمة منذ مطلع العام الجاري، فقد سيطر جيش الفتح -وهو ائتلاف مكوَّن من عدة فصائل معارضة، أهمها: أحرار الشام، وفيلق الشام، وجبهة النصرة- أواخر مارس/آذار الماضي على مركز محافظة إدلب، وهو ثاني مركز محافظة يخرج عن سيطرة النظام بعد الرقة التي سقطت بيد المعارضة في مارس/آذار 2013 قبل أن يستولي عليها "تنظيم الدولة" ويجعلها عاصمة له. كما استولت المعارضة أواخر إبريل/نيسان الماضي على مدينة جسر الشغور، وهي من أكبر مدن محافظة إدلب، وأكثرها أهمية؛ إذ تحتل موقعًا استراتيجيًّا على الطريق باتجاه الساحل السوري غربًا، وسهل الغاب-حماة جنوبًا. أمَّا في جنوب البلاد فقد سيطرت المعارضة حوالي الفترة ذاتها على مدينة بصرى الشام، معقل حزب الله في سهل حوران، وعلى معبر نصيب، آخر معابر النظام مع الأردن، كما سقط مؤخرًا اللواء 52، الذي يعد أكبر قطعات النظام العسكرية في محافظة درعا، فيما يدور قتال حول مطار الثعلة المشرف على مدينة السويداء، وفي مناطق مختلفة من حلب. في الأثناء تمكَّن تنظيم الدولة من السيطرة على مدينة تدمر، مركز البادية السورية، وشرع يهدد كل من حمص وحماة من جهة الشرق؛ ما جعل مساحة سيطرة النظام تتقلص إلى نحو ثلث أراضي الجمهورية العربية السورية، رغم أن نصف السكان ما زالوا يعيشون في مناطق سيطرته.
تتناول هذه الورقة تداعيات المكاسب الأخيرة التي حققتها المعارضة المسلحة السورية على الأرض، وتحاول تحديد أسبابها وردود أفعال الأطراف الدولية والإقليمية عليها، فضلًا عن آثارها على أطراف الصراع من السوريين (النظام والمعارضة). وتختم الورقة بمحاولة استشراف سيناريوهات تطور المسألة السورية، خاصة فيما اذا كانت التغيرات الأخيرة سوف تؤدي إلى تحريك عملية التسوية المجمدة منذ مطلع العام 2014.
تغير المشهد: انحسار النظام
جاءت التطورات الميدانية الأخيرة بعد سلسلة نكسات تعرضت لها المعارضة المسلحة السورية على امتداد العامين الماضيين، أي منذ سقوط مدينة القصير (ريف حمص) بيد قوات النظام وعناصر من حزب الله في مايو/أيار 2013، ثم إخراج المعارضة من حمص القديمة، وصولًا إلى اقتراب النظام من إحكام الحصار على الأحياء التي تسيطر عليها فصائل المعارضة في حلب، أملًا بتكرار سيناريو حمص. أمَّا سياسيًّا، فقد شكَّل اتفاق نزع السلاح الكيماوي، وقرار مجلس الأمن 2118 الذي نظَّم عملية تسليمه، مدخلًا لإعادة التعامل دوليًّا مع النظام، الذي شعر بما يكفي من ثقة لتنظيم انتخابات رئاسية من جانب واحد في يونيو/حزيران 2014، فاز بها الرئيس بشار الأسد بنحو 88 بالمئة من الأصوات. ومع صعود "تنظيم الدولة" بعد استيلائه على الموصل، وتبنيه للهجوم على مقر الصحيفة الفرنسية الساخرة شارلي إيبدو في يناير/كانون الثاني 2015، بدأ الحديث الهامس عن إمكانية إعادة تأهيل النظام يتعالى في الدوائر الغربية، إلى درجة دفعت وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى الحديث علنًا عن "حتمية التفاوض مع بشار الأسد" (1).
وسط هذه الأجواء جاءت مكاسب المعارضة، لتُدخل تغيرات على المشهدين الميداني والسياسي؛ إذ تمكنت قواتها، مستفيدة من التحسن الذي طرأ على العلاقات التركية-السعودية بعد تسلُّم الملك سلمان دفة القيادة في السعودية، وظهور مناخ سياسي جديد في المنطقة بعد القرار السعودي التدخل في اليمن، من إحداث تغيير نسبي في المعادلات الميدانية على امتداد الجغرافيا السورية. وقد جاءت هذه الإنجازات أيضًا نتيجة تشكيل غرف عمليات مشتركة، تمكنت من رفع مستوى التنسيق الميداني بين الفصائل، وإن لم تؤدِّ إلى توحيدها.
أثارت النكسات المتتالية التي لحقت بقوات النظام حالة من القلق بين خصوم الأسد كما بين حلفائه على السواء، ودفعت بالمعارضة السياسية إلى محاولة الاستثمار في المناخ الجديد لإعادة التركيز باتجاه إعادة إطلاق عملية سياسية تؤدي إلى مرحلة انتقالية تضع حدًّا لنحو أربع سنوات من الصراع الذي أهلك سوريا. أمَّا النظام فتحرك في اتجاهين، الأول: استدعاء مزيد من الدعم العسكري والمادي من إيران، والثاني: الطلب من روسيا إعادة فتح قنوات سياسية برعايتها وتحت إشرافها، وذلك استباقًا لأي تحرك دولي يمكن أن يتجاوز دوره، كما ظهر في البيان الختامي لاجتماع "التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة"، الذي عُقد في باريس مطلع يونيو/حزيران 2015، وأشار إلى عدم جدية نظام الرئيس الأسد بمحاربة تنظيم الدولة، ودعا إلى "إطلاق عملية سياسية شاملة وصادقة من أجل تطبيق مبادئ بيان جنيف" (2).
المستوى الدولي: تقارب المخاوف
دفعت المكاسب التي حققتها فصائل المعارضة المسلحة إلى استئناف الاتصالات الأميركية-الروسية والتي كانت قد انقطعت بعد فشل مؤتمر جنيف2 في فبراير/شباط 2014، وكانت واشنطن اتهمت حينها روسيا بالإخلال بالاتفاق الذي تم التوصل اليه في موسكو في يناير/كانون الثاني 2014 بين وزيري الخارجية الروسي والأميركي؛ حيث تعهد الطرفان بالضغط كلٌّ على حلفائه للتوصل إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي بالتوافق بين النظام والمعارضة، ثم جاءت تطورات الأزمة الأوكرانية وقيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014 لتقضي على كل فرص التواصل الروسي-الأميركي، إلى أن دفعت التطورات الميدانية الأخيرة إلى استعادتها.
جاء التحرك الأميركي-الروسي الجديد حول سوريا في مسعى للحيلولة دون حصول تصدع أكبر للنظام تحت ضغط المعارضة المدعومة بأجواء وسياسات إقليمية جديدة فرضتها ظروف المواجهة العربية-الإيرانية، وتململ حلفاء واشنطن من سياساتها في المنطقة، وقيامهم باتخاذ خطوات بعيدًا عن التنسيق معها، في ظلِّ توجهٍ سعودي نحو محاولة إسقاط النفوذ الإيراني في سوريا، وإخراجه من اليمن، وتحديده في العراق.
بناء عليه، وفي غمرة التراجع الميداني للنظام أمام المعارضة، وسيطرة تنظيم الدولة على تدمر، قام وزير الخارجية الأميركي جون كيري بزيارة مؤجَّلة إلى موسكو التقى خلالها الرئيس بوتين في الحادي عشر من مايو/أيار الماضي. جاءت الزيارة قبل يومين فقط من قمة كامب ديفيد الأميركية-الخليجية وبعد أيام على اجتماع كيري بنظرائه الخليجيين في باريس حيث استأثر الوضع السوري بجزء كبير من المحادثات. اتفق الطرفان: الروسي والأميركي على أن استمرار الوضع على حاله في سوريا سوف يؤدي إلى النتائج التي طالما زعما أنهما يحاولان تجنبها، وهي انهيار مؤسسات الدولة السورية، وعلى رأسها الجيش والأجهزة الأمنية، وسيطرة تنظيمات جهادية وفي مقدمتها تنظيم الدولة على مقاليد الحكم في سوريا (3).
دفع تقدم المعارضة المسلحة السورية روسيا إلى التخلي عن استراتيجية دعم النظام حتى تحقيق النصر، فأقرَّت بأن لا حلَّ عسكريًّا للصراع في سوريا، ودعت إلى العودة إلى مبادئ بيان جنيف الذي جرى التوصل إليه في يونيو/حزيران 2012، وذلك كخطوة لابُدَّ منها لمنع انهيار سوريا وسقوطها بيد الجماعات الجهادية (4). أمَّا واشنطن فقد بدا وكأنها أدركت خطورة المقاربة التي اتبعتها إزاء الصراع في سوريا، والتي تقوم على فكرة ترك النيران تأكل نفسها حتى تخمد. فمن جهة، ظهر "تنظيم الدولة" وكأنه "باق ويتمدد" رغم الضربات الجوية التي استهدفته منذ ما يقرب من عام، كما بدا من جهة أخرى وكأن واشنطن تخاطر بفقدان السيطرة على مجريات الأمور في سوريا، في ظل تململ حلفائها الإقليميين من سياساتها في المنطقة، واتجاه بعضهم إلى تبني سياسات أكثر استقلالية عن المواقف الأميركية؛ ففي قمة كامب ديفيد التي عُقدت في مايو/أيار 2015، وجمعت الرئيس الأميركي بقادة من دول مجلس التعاون الخليجي، بدت الخلافات بين الطرفين على أشدها، إلى درجة أن أربعة من بين زعماء دول الخليج، أبرزهم العاهل السعودي، تغيَّبوا عن حضور القمة التي دعا إليها الرئيس أوباما لمناقشة السياسة الأميركية والوضع في الشرق الأوسط والخليج. ورغم أن أنباء سرتْ عن غياب موقف خليجي موحَّد خلال القمة، إلا أن دول الخليج جميعًا أعربت عن قلقها من تساهل إدارة أوباما مع تنامي النفوذ الإيراني الذي يهدد بسقوط المنطقة كلها في دوامة الصراع والتطرف (5). وبالتوازي مع توجه السعودية إلى تبني سياسات أكثر هجومية في الذود عن مصالحها بعيدًا عن الرغبات الأميركية، بما في ذلك سعيها إلى تغيير المعادلات الميدانية على الأرض في سوريا قبل انعقاد قمة كامب ديفيد، بدأت فصائل المعارضة المسلحة السورية هي الأخرى تحقِّق قدرًا أكبر من الاستقلالية المالية والتسليحية، في الشمال خاصة، عن غرف العمليات التي تُشرف على تقديم الدعم لفصائل المعارضة ويتحكم الأميركيون بقراراتها، وذلك من خلال سيطرتها على مصادر دخل مهمة بما فيها المعابر الحدودية وحقول النفط والغاز والقمح والفوسفات وغيرها، وتمكُّنها أيضًا من تصنيع جزء لا يستهان به من الأسلحة الفردية والمتوسطة، فضلًا عن سيطرتها على كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر من مواقع قوات النظام المنهارة؛ ما منحها استقلالية نسبية عن المدد الخارجي الذي يتحكم الأميركان بتدفقه، وهو ما بدا جليًّا في نتائج المواجهات الأخيرة.
لهذه الأسباب، تحركت واشنطن سريعًا لاحتواء الموقف، وبعد أسبوع على زيارة كيري، وصل إلى موسكو مسؤول الملف السوري في الخارجية الأميركية دانيل روبنشتاين، ونقل إلى المسؤولين الروس تصورًا أميركيًّا لحل سياسي في سوريا لا يستبعد الأسد في مراحله الأولى، وذلك في ظل توقعات عن عودة فريق المبعوث الأممي السابق إلى سوريا، كوفي عنان، للإشراف على تطبيق بيان جنيف وفق قراءة توافقية روسية-أميركية، ما زالت بحاجة إلى دعم القوى الإقليمية (6).
تنامي الدورين الإيراني السعودي
بمقدار ما شكَّلت مكاسب المعارضة الأخيرة ترجمة لأجواء التقارب السعودي-التركي-القطري، أثارت هذه الانتصارات حالة من القلق في طهران. وكانت أنباء تواترت عن قيام وزير الدفاع السوري، فهد جاسم الفريج، أثناء زيارته الطارئة إلى إيران، بعد سقوط مدينتي إدلب وجسر الشغور مطلع شهر مايو/أيار الماضي، بطلب تفعيل معاهدة الدفاع المشترك التي تم التوصل إليها عام 2006، والتي تشمل بندًا ينص على أن أي "هجوم على سوريا يعد بمثابة هجوم على إيران"؛ ما يتيح إرسال قوات إيرانية إلى سوريا في حال طلبت الأخيرة ذلك (7).
ولم يتأخر الرد الإيراني على طلب النظام السوري؛ إذ قامت طهران بإرسال بضعة آلاف من قوات الحرس الثوري والميليشيات الأجنبية التابعة لها للمساعدة في الدفاع عن معقل النظام في الساحل والعاصمة دمشق، ومحاولة قلب المعادلات الميدانية في الجنوب السوري، في محاولة للإمساك بورقة الصراع مع إسرائيل، والتي تعد ذات أهمية خاصة بالنسبة لموقع إيران ونفوذها الإقليمي. لكن إيران التي سارعت لمنع حصول ما يشبه "تأثير الدومينو" لمواقع سيطرتها في سوريا، بدأت تدرك من جهة أخرى أن انتصار النظام وقدرته على العودة للإمساك بالبلد كما كانت عليه الحال قبل مارس/آذار 2011 قد أصبح مستبعدًا جدًّا بعد سلسلة النكسات الأخيرة؛ ما حدا بها إلى التفكير بطريقة لحماية استثماراتها السورية من أي طارئ؛ فمن جهة وافقت إيران على نجدة الأسد، لكنها طلبت في المقابل الحصول على ضمانات سيادية من الدولة السورية على شكل عقارات وأراضٍ وموانئ ومطارات وثروات طبيعية متنوعة لضمان سداد الأموال التي قدمتها للنظام السوري طوال فترة الأزمة على شكل قروض ميسرة أو خطوط ائتمان (8). وقد طلبت إيران ذلك بعد أن انحسرت سيطرة النظام عن الجزء المنتِج من سوريا (حقول النفط والغاز والقمح الواقعة في الشرق والشمال الشرقي والبادية السورية)، وباتت سيطرته تقتصر على الجزء المستهلِك (الشريط الغربي من البلاد)؛ ما زاد من حجم الأعباء الاقتصادية المترتبة على إيران والتي ما زال يتعين عليها التوصل إلى اتفاق دائم حول برنامجها النووي قابل للتحقق من تنفيذه قبل رفع العقوبات الاقتصادية عنها(9).
تنظيم الصفوف
وضعت التغيرات الميدانية الأخيرة النظام في موقف صعب؛ إذ بدأت الثقة بقدرته على الصمود بين حلفائه تتضعضع، كما أخذت قاعدة دعمه تتململ نتيجة الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها منذ سقوط مطار الطبقة بيد تنظيم الدولة في سبتمبر/أيلول 2014، واتضاح عجز النظام على تحقيق انتصار عسكري شامل. وفضلًا عن طلب النجدة من إيران لاحتواء مفاعيل التراجعات الأخيرة، لجأ النظام إلى حليفه الروسي أيضًا ليس فقط لتأمين دعم عسكري، وهو ما طلبه وزير الداخلية إبراهيم الشعار عندما زار موسكو في شهر مايو/أيار الماضي، بل لطلب المساعدة أيضًا في عقد نسخة ثالثة من "منتدى موسكو" التشاوري مع ممثلين من المعارضة، كما كشف نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف (10). ومن خلال هذا الطلب يسعى النظام إلى معرفة حدود التوافق الروسي-الأميركي على حلِّ الأزمة السورية، من جهة. ومن جهة أخرى، سوف يقوم على الأرجح بطرح بعض الأفكار (تنازلات محدودة) يقبل بها جزء من "المعارضة" -التي يقلقها تنامي قدرات فصائل المعارضة المسلحة أكثر مما يقلقها استمرار النظام- وذلك لتأهيله إقليميًّا ودوليًّا، باعتباره حامي الأقليات والأقدر -بحكم خبرته الطويلة- على التعامل مع الجهاديين.
أمَّا المعارضة السياسية فقد سارعت إلى الاستثمار في النكسات الأخيرة التي تعرض لها النظام، فراحت تعقد المؤتمرات والاجتماعات أملًا في التغلب على انقساماتها وتأكيد دورها في رسم مستقبل سوريا. وفيما قاطع الائتلاف مشاورات جنيف التي يُجريها المبعوث الأممي، ستيفان دي مستورا، باعتبار أن مساعيه تهدف إلى تشتيت المعارضة، والتزامًا بقرار الفصائل العسكرية بالمقاطعة، تم عقد اجتماع في عينتاب في 25 إبريل/نيسان الماضي جمع لأول مرة زعماء أهم الفصائل المسلحة على الأرض مع قادة من الائتلاف الوطني, جرى خلاله الاتفاق على العناوين الرئيسة لأي حلٍّ سياسي، خصوصًا رفض بقاء نظام الأسد. لكن تعقيدات كثيرة ما زالت تعترض سبيل التوصل إلى اتفاق لإنتاج ممثل سياسي حقيقي للمعارضة السورية يرتكز إلى قوة عسكرية على الأرض؛ فقد فشلت المحادثات التي عُقدت مؤخرًا في عمان بين وفد «الائتلاف الوطني» ومسؤولين في «الجبهة الجنوبية» في التوصل إلى اتفاق لإدماج الفصائل المقاتلة في الائتلاف الوطني في إطار عملية توسعة وإعادة هيكلة لمواجهة متطلبات المرحلة القادمة. ويُتوقع أن يكون إنشاء جسم سياسي، يمثِّل مِن بين ما يمثل القوى العسكرية على الأرض، أحد أهداف الدعوة إلى عقد مؤتمر موسع للمعارضة السورية في الرياض هذا الصيف؛ اذ تسعى السعودية، ومن ورائها قطر وتركيا، إلى جمع أطياف المعارضة السورية للخروج برؤية موحَّدة لإنهاء الصراع، والاتفاق على محددات المرحلة الانتقالية ومستقبل البلد، بما فيها نظام الحكم ووضع الأقليات وغيرها من المسائل التي ينبغي على المعارضة تقديم رؤى بشأنها، حتى ينشأ بديل مقنع لكل من نظام الأسد و"تنظيم الدولة"، وبما يدفع باتجاه تسريع حلِّ الأزمة.
سيناريوهات المرحلة المقبلة
في ظل المكاسب الميدانية التي حققتها المعارضة المسلحة السورية في الفترة الأخيرة والحراك السياسي الذي استتبع ذلك، تبدو المسألة السورية أمام أحد السيناريوهات الثلاثة التالية:
سيناريو الحل التوافقي: ويُترجم هذا السيناريو بنشوء تفاهم دولي (روسي-أميركي) للدفع باتجاه قراءة توافقية لتطبيق بيان جنيف. هذا التفاهم سوف يحتاج بالطبع إلى تعاون أطرف الصراع الإقليميين سواء من أصدقاء المعارضة (السعودية وتركيا وقطر) أو حلفاء النظام (إيران) للضغط على أطراف الصراع السوريين للقبول بمثل هذا الحل. وفي حال توافر عناصر هذا السيناريو، سوف نشهد على الأرجح استئناف مسيرة جنيف بنسخة ثالثة يشارك فيها الإيرانيون هذه المرة، بدفع من المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا، أو مَن يخلفه. هذا السيناريو سوف يكون مدفوعًا بحسابات عقلانية لمختلف اللاعبين الخارجيين في الأزمة السورية ونابع بالدرجة الأولى من مخاوف من انزلاق سوريا نحو الفوضى وتحولها إلى بؤرة إقليمية لإنتاج التطرف و"الإرهاب". وقد تفيد النكسات الأخيرة التي تعرَّض لها النظام في دفع إيران المستنزفة بفعل تورطها في مواجهات على امتداد الإقليم إلى الركون إلى حلٍّ سياسي يحفظ لها جزءًا من مصالحها في سوريا الموحدة، بعد أن يكون الاتفاق حول برنامجها النووي قد أمَّن لها اعترافًا دوليًّا -أميركيًّا تحديدًا- بشرعية نظامها، وإدماجه في المنظومة الإقليمية بعد أن تمت إعادة تأهيله. في هذه الحالة سوف يتم الدفع باتجاه تشكيل حكومة من النظام والمعارضة تحفظ ما تبقى من مؤسسات الدولة السورية (وتشمل إعادة هيكلة أجهزة الأمن والجيش تحديدًا واستيعاب فصائل المعارضة المعتدلة ضمنها)، والتوجه نحو محاربة تنظيم الدولة وربما غيره من الجماعات الجهادية ذات التوجهات الأممية. وقد زادت أسهم هذا السيناريو مؤخرًا بعدما تسرب عن مناقشة قمة الدول الصناعية السبع الكبرى التي عُقدت في بافاريا الألمانية في الثامن من يونيو/حزيران الجاري لإمكانية دفع الرئيس الأسد إلى اللجوء إلى روسيا في إطار تفاهم مع موسكو تمهيدًا لمواجهة تمدد تنظيم الدولة في سوريا (11)، وكذلك تنامي الاتصالات السعودية-الروسية إثر قيام وزير الدفاع السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بإجراء محادثات في موسكو مع الرئيس بوتين تحضيرًا لزيارة مرتقبة للملك سلمان، كل ذلك تزامنًا مع تقارير عديدة تتحدث عن حصول تقارب روسي-أميركي بشأن الأزمة السورية (12). لكن العقبتين الرئيسيتين أمام هذا السيناريو، هما: الصراع السعودي-الإيراني، وارتباط جبهة النصرة، أحد مكونات المعارضة السورية المسلحة، مع القاعدة. فمن الصعب أن تتوصل السعودية وإيران إلى اتفاق يقتصر على سوريا دون أن يتفقا على باقي الخلافات التي ترتبط بالصراع السوري ارتباطا وثيقا، مثل وضع حزب الله في لبنان، وموقع السنة العرب في النظام العراقي. وكذلك لا يمكن أن تنفصل جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة دون أن تصاب باضطراب في بنيتها المشكلة من عدد مؤثر من العناصر الأجنبية، وقد يصيبها هذا التحول إن حدث بتشققات قد تقضي عليها.
سيناربو الحفاظ على الوضع القائم (الستاتيسكو): ويعني استمرار الصراع وفق وتيرته الحالية وبالشكل الذي يؤدي إلى الاستمرار في منع الحسم العسكري، بالتوازي مع غياب الإرادة الدولية والإقليمية للدفع باتجاه حلٍّ سياسي، مع استمرار الصراع بين الأطراف الخارجية في حرب وكالة على الأرض السورية. هذا السيناريو يقوم على الحفاظ على موازين القوى على الأرض دون تغيير كبير؛ ففي الوقت الذي يندفع فيه حلفاء المعارضة نحو زيادة دعمهم لتحقيق اختراق ميداني بهدف الضغط على النظام للقبول بحل سياسي، يقوم حلفاء النظام بزيادة قدرات الصمود لديه لصدِّ أية محاولة لإحداث تغيير دراماتيكي في موازين القوى تتم ترجمته إلى تنازلات سياسية. هذا الأمر سوف يؤدي فعليًّا إلى تقسيم سوريا إلى كانتونات موزعة بين سيطرة النظام، وتنظيم الدولة، والقوى الكردية، وبقية فصائل المعارضة. وتبدو حظوظ تحقق هذا السيناريو مرتكزة على عوامل لا يمكن أن تستمر؛ فالحفاظ على موازين القوى الراهنة سواء بين القوى السورية أو القوى الخارجية المنخرطة في النزاع غير ممكن لأن تطورات الأوضاع تشير إلى أن موارد الأطراف محدودة ولا يمكن تجديدها بلا نهاية، كما يتبين في عجز النظام السوري عن تعويض خسائره من القوات المقاتلة لأن رهانه على الأقليات جعل قاعدته الاجتماعية ضيقة ولا يمكن أن تمده بمقاتلين لفترات غير محدودة. ثم إن استمرار الأوضاع يعطي فرصًا للاعبين جدد للانخراط في الصراع وينتقلون من هامش الصراع إلى مركزه بل وقد يتضح أنهم المستفيد الرئيسي من الصراع، كما حدث مع توسع تنظيم الدولة في المناطق التي لم يعد النظام السوري قادرًا على حكمها، وتهديده حاليًا لدمشق نفسها.
سيناريو سيادة الفوضى: ويعني استمرار التفسخ البطيء للنظام ومعه مؤسسات الدولة السورية نتيجة الإنهاك العسكري والاستنزاف المادي المستمر منذ أكثر من أربع سنوات، وصولًا إلى نقطة الانهيار، وقد تحصل تصدعات كبيرة داخل النظام بسبب تداعي المعنويات بفعل الضربات المتتالية لفصائل المعارضة خاصة إذا تم استهداف المناطق التي تُعد حاضنة طبيعية له في ريف حماة أو الساحل، أو نتيجة سقوط مدن كبرى بحجم حلب ودير الزور والحسكة ودرعا والقنيطرة وحماة، وهي جميعًا مراكز محافظات غدت محاصرة بالكامل أو شبه محاصرة نتيجة سيطرة تنظيم الدولة على معظم البادية السورية وتقدم فصائل المعارضة في ريف حماة الشمالي بعد سيطرتها شبه الكاملة على محافظة إدلب وتقدمها باتجاه دمشق شمالًا من درعا والقنيطرة. هذا السيناريو سوف يؤدي إلى دخول سوريا في حالة الفوضى الكاملة وسوف يسمح بسيطرة تنظيم الدولة على الجزء الأكبر من البلاد (علمًا بأنه يسيطر حاليًا أو يتحكم بنصف مساحة سوريا)، وهو ما يتفق جميع أطراف الصراع الخارجية حتى الآن على الحيلولة دون وقوعه. وحظوظ هذا السيناريو متدنية لأن اللاعب الوحيد تقريبًا الذي يدفع نحو التفسخ هو تنظيم الدولة، ولا يمكنه أن يحقق مبتغاه لأنه يواجه قوى كثيرة داخل سوريا، هي: النظام والمعارضة السورية المسلحة، وخارج سوريا هي القوى الدولية مجتمعة، وإن تفاوتت درجة رغبتها في القضاء عليه.
خاتمة
لعله من نافل القول الإشارة إلى أن السيناريو الأول –أي: الحل التوافقي- يشكِّل البديل الأفضل لكل أطراف الصراع من دون استثناء، فهو من جهة يحفظ سوريا موحدة ويحول دون وقوعها في دوامة الفوضى والتطرف، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات على السوريين ودول الجوار الإقليمي والأمن الدولي. لكن الوصول إلى هذا الخيار ما كان ليتم لولا التطورات الميدانية الأخيرة؛ إذ أدَّت سلسلة المكاسب الأخيرة التي حققتها المعارضة المسلحة السورية إلى إثارة مخاوف كل من واشنطن وموسكو من إمكانية انهيار النظام السوري قبل أن يتشكَّل بديل ملائم يحل محله، ما حدا إلى استئناف الجهود لتحريك العملية السياسية المجمدة منذ فشل مؤتمر جنيف2 في فبراير/شباط 2014، كما أوصلت هذه التطورات الميدانية النظام وحلفاءه إلى النقطة التي باتوا مدركين معها لعدم إمكانية حسم الأمور عسكريًّا لصالحهم وهو النهج الذي ظلًّ متبعًا منذ تحول الثورة السورية إلى العمل المسلح.
كل ذلك يدفع للقول بأنه ما زال بإمكان المعارضة المسلحة السورية، التي بدت في الآونة الأخيرة وكأنها تفصيل صغير في لعبة مصالح إقليمية ودولية كبيرة، أن تفرض تعديلات على الأجندات الإقليمية والدولية، وهي قادرة أيضًا على تعديل حسابات النظام وحلفائه من خلال العمل الميداني، لكن هذا وحده لا يكفي؛ إذ ستبقى انتصارات المعارضة المسلحة مجرد تطور ميداني معزول وغير ذي دلالة إذا لم تتم ترجمته إلى نتائج سياسية تؤدي إلى حلٍّ يحفظ وحدة سوريا وترابها ويعيد بناءها؛ وهذا يتطلب إنشاء جسم سياسي ناضج يمثِّل القوى العسكرية على الأرض وينظِّم العلاقة معها، بحيث تخضع هذه له وتغدو تحت إمرته. بدون ذلك لن يكون ممكنًا التوصل إلى إنتاج بديل للنظام يمنع الفوضى في حال سقوطه، أو مفاوض ذي مصداقية في حال الذهاب باتجاه حلٍّ سياسي.
_____________________________
هوامش
1. انظر: كيري يدعو لمفاوضة الأسد، والائتلاف يشترط رحيله، الجزيرة نت، 15 مارس/آذار 2015، الرابط: http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/3/15/%D9%83%D9%8A%D8%B1%D9%8A-%D9%8A%D8%AF%D8%B9%D9%88-%D9%84%D9%85%D9%81%D8%A7%D9%88%D8%B6%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%A6%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%81-%D9%8A%D8%B4%D8%AA%D8%B1%D8%B7-%D8%B1%D8%AD%D9%8A%D9%84%D9%87
2. دول التحالف الدولي ضد "تنظيم الدولة" تدعو لإطلاق عملية سياسية سريعًا بسورية، السورية نت، 2 يونيو/حزيران 2015، https://www.alsouria.net/content/%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%84%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A-%D8%B6%D8%AF-%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%AA%D8%AF%D8%B9%D9%88-%D9%84%D8%A5%D8%B7%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%B9%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D8%A7%D9%8B-%D8%A8%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9
3. صحيفة الشرق الأوسط، مصادر: اختلاف حول مصير الأسد واتفاق على وحدة الدولة في مشاورات دي مستورا، 11 يونيو/حزيران 2015،
http://aawsat.com/home/article/381836/%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D8%B1-%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%81-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B4%D8%A7%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AF%D9%8A-%D9%85%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1%D8%A7
4. Moscow changing tack on relationship with Assad: sources, Asharq Al-Awsat, May 31, 2015,
http://www.aawsat.net/2015/05/article55343744/moscow-changing-tack-on-relationship-with-assad-sources
5. Obama Opens Troubled Talks With Gulf Allies, Wall Street Journal, 13, May ,2015,
http://www.wsj.com/articles/obama-meets-with-saudi-delegation-ahead-of-u-s-arab-summit-1431534462
6. صحيفة الشرق الأوسط، مصادر: اختلاف حول مصير الأسد ... مصدر سابق.
7. Assad begs Iran for more help to save Syria from Isis scourge, Sunday Times, 7 June 2015, http://www.thesundaytimes.co.uk/sto/news/world_news/Middle_East/article1565580.ece
8. إيران تطلب «ضمانات سيادية» لمواصلة دعم النظام، الحياة، 3 فبراير/شباط 2015، http://alhayat.com/Articles/7162986/%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D8%B7%D9%84%D8%A8--%D8%B6%D9%85%D8%A7%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9--%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B5%D9%84%D8%A9-%D8%AF%D8%B9%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85
9. Majid Rafizadeh, Bashar al-Assad: a costly card for Iran? alarabiya.net, 11 April, 2014. http://english.alarabiya.net/en/views/news/middle-east/2014/04/11/Bashar-al-Assad-a-costly-card-for-Iran-.html
10. الأسد يستنجد بموسكو سياسيًّا، العربي الجديد، 6 يونيو/حزيران 2015، http://www.alaraby.co.uk/politics/2015/6/5/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF-%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%86%D8%AC%D8%AF-%D8%A8%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%83%D9%88-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A7
11. Oliver Wright, G7 summit: President Assad could face exile in Russia and the West's plan to tackle Isis in Syria, The Independent, June 8, 2015, http://www.independent.co.uk/news/world/middle-east/g7-summit-president-assad-could-face-exile-in-russia-and-the-wests-plan-to-tackle-isis-in-syria-10305824.html
12. Moscow changing tack on relationship with Assad: sources, Asharq Al-Awsat, May 31, 2015,
http://www.aawsat.net/2015/05/article55343744/moscow-changing-tack-on-relationship-with-assad-sources