(1)
لعل مقولة "لا يصنع السلام إلا من امتلك القدرة على الحرب والمقدرة على المواجهة في ميادين القتال"، قد كان دالاً على هذه المقولة ما عَنْون به الكاتب الصهيوني "ألون بن دافيد" مقالته المنشورة في جريدة "معاريف" السبت, 20 يونيو، بقوله: "حماس تستمر في إنتاج الصواريخ لكنها مستعدة أكثر من أي وقت لوضع الجهاد جانبًا".. وأورد قائلاً: لم تتوقف حماس عن إنتاج الصواريخ أو حفر الأنفاق.. لكن الأمر الأخير الذي تريده الآن هو مواجهة أخرى مع (إسرائيل)".
نعم، لقد تداولت وسائل الإعلام المختلفة بشكل مكثف في الأيام الماضية موضوع دراسة حماس اقتراح وقف إطلاق النار بعيد المدى في القطاع، وهو ما يُؤشر على تغيرات دراماتيكية قد تحدث في القطاع على أكثر من صعيد.
أبرز تلك التغيرات فك الحصار عن الشعب الفلسطيني بغزة والشروع في ميادين الإعمار وعودة انعتاق القطاع من ديكتاتورية الجغرافيا نحو العالم عبر ميناء بحري عائم على شواطئه.
وفي المقابل, باتت دولة الكيان تحرص أكثر من أي وقت مضى على توفير نوع من الهدوء لمستوطني الجنوب لبضع سنوات، والكشف عن مصير مفقوديها بعد الحرب الأخيرة التي خلفت في الذاكرة الصهيونية صورة كانت شديدة الإيلام وهي الهجرة الجماعية لمستوطنات الجنوب بشكل يذكرهم بما ينتظرهم على هذه الأرض التي تنفي خبثها طال الزمن أم قَصُر!.
(2)
وقد كانت قطر هي نجم المسرح السياسي في تدعيم هذا الاقتراح، ولم تكن بعيدة عنها تركيا رغم انشغالها في ترتيباتها الداخلية بعد انتخاباتها البرلمانية الأخيرة وما أوجدته من تغيرات تفرض حكومة ائتلافية أو العودة لانتخابات مبكرة.
وكانت حاضرة كذلك في جو هذا الحراك المملكة العربية السعودية في ظل التغير الجذري في الرؤية الاستراتيجية للواقع الإقليمي وتداعياته المستمرة ولا سيما في الجبهة اليمنية وكذلك الجبهة السورية.
وبرز بوضوح الموقف المصري حيث التغير المفاجئ في آليات العمل في معبر رفح سواء على صعيد حركة الأفراد ومرور آلاف العالقين من كلا الاتجاهين، أو البضائع بإدخال كميات من مواد الإعمار.
في حين كان الموقف الأردني متوجساً خِيفةً من تلك التحركات التي تشعر وكأنها تجاوزتها كثيراً.
ولكنَّ الغريب في ظل هذا الحراك الجاد انعدام الموقف لرئاسة السلطة في المقاطعة والارتباك الواضح في التصريحات التي خرجت عن مسؤوليها, فمرةً ترحب -كما جاء على لسان المستشار لرئيس السلطة نبيل أبو ردينة- ومرات كثيرة تُثير غمامة من التخوفات والتشكيكات، وغير ما صاحب تلك الحالة من التيه والضعف في موقف السلطة جرَّاء تعطيلها القسري لحكومة التوافق الوطني، فإذا بالمقاطعة تنزع على غير هدى لتحل الحكومة بشكل اعتباطي، وكأن أمر الحكومة متعلق قبلي يخص تنظيمًا بمفرده.
فما بين مرحب ومتخوف ومتشكك, اندفن الموقف الفعلي لرئاسة المقاطعة فكانت غائبة بصورة تشعرك بأن الشعب الفلسطيني الذي سطر أروع مثل في الصمود والتحدي والمواجهة ليس إلا أمة من بلاد (الواق واق)!.
(3)
نعم، لقد حدث تحول مفاجئ في العلاقات بين مصر وحماس بفعل الحراك القطري المشكور؛ ليزيل حالة الارتياب من حماس التي وقفت خلفها -كما أسلفت- أدوات كثيرة مأجورة لخدمة مصالح دول وكيانات ترى في المقاومة الفلسطينية تهديدًا مباشرًا لأدوارها السياسية المشبوهة في المنطقة.
كل هذه التحولات التي قد تأتي تباعاً لتحدث حراكاً نوعياً كانت بعد محاولات يائسة من جهات أمنية كانت أبرزها وأوضحها (مخابرات السلطة في المقاطعة), فإذا بها تدفع بعناصر موتورة تحت أسماء وهمية لتنظيمات مصنفة إرهابية؛ لتحدث موجات من التفجيرات تؤدي في أغلبها إلى قتل في المدنيين وترويع للآمنين.
كل ذلك؛ بهدف إشعار الأطراف بأنَّ غزة غارقة في مستنقع من الإرهاب المنظم وأنها خارجة عن السيطرة، وأن حماس والمقاومة الفلسطينية هي أعجز عن أن تلتزم أو تُلزم بفترة هدنة وتهدئة، وأنها بذلك تكون فاقدة للأهلية التي تخول لها إبرام أي التزامات في مقابل انتزاع استحقاقات ضرورية ومصيرية ووطنية والتي أبرزها تحرير الأسرى في سجون ومعتقلات العدو الصهيوني.
ولكنَّ ذلك المكر السيِّئ قد كشف حقيقة ما كانت لتظهر بهذا الوضوح والتمييز لولا تلك المحاولات المجنونة بتفجير الأسواق وقتل الآمنين.. هذه الحقيقة هي قوة منظومة الأجهزة الأمنية العاملة في قطاع غزة (الرسمية والحركية)، وقدرتها على السيطرة التامة على الحالة الأمنية، وسرعتها في الإمساك بكل العابثين والمدفوعين والكشف عن الجهات الدافعة والممولة في سرعة مدهشة أذهلت المراقبين.
وهذا ما عزز القناعة بأن الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة في غزة, عندهم كامل الأهلية في البت بكل أمانة ومسؤولية في قضاياهم المصيرية، الأمر الذي دفع لتسريع إتمام التفاهمات التي انطلقت مسيرتها في ظل الحرب الأخيرة من خلال إجماع فلسطيني وبمشاركة وفد موحد من كل القوى الوطنية، ولكن قبل أن تنفض يدها قوى منها انتظرت أن يغرق القطاع في الدم والفوضى!.
(4)
لم يكن بعيدًا عن هذا المشهد وتلك التحركات, الحراك الجاد من أطرافٍ دولية وأخرى إقليمية لخلافة "أبو مازن" في رئاساته المتعددة التي لم يعد لكثير منها أي قيمة سياسية أو اعتبارية، بعد أن أفرغ ما تبقى من محتوى فيها ضعف "أبو مازن" وعجزه الذي غلفه بعنادٍ ملفت.
ويبقى السؤال, من سيخلف عباس في ظل واقع سياسي جديد سيكون للشعب الفلسطيني في غزة وفصائله المقاومة قول القطع وكلمة الفصل؟!
كاتب من غزة


