مهما قيل عن فبركة وتزوير وتآمر حول ما قامت به ويكيليكس، فقد غرق الإعلاميون بين عشية وضحاها في بحر من المعلومات الخاص بسياسات المملكة العربية السعودية.
كان الإعلاميون قبل الثورة الرقمية، يبحثون عن معارفهم من مصدر مسؤول غالباً ما يرفض ذكر اسمه، أو يعكفون على قراءة مذكرات منشقين عن هذا النظام أو ذلك الحزب، أو تلك الوكالة كما فعل المنشق إدوارد سنودن الخبير في وكالة الأمن القومي الأميركي، عندما كشف بالوثائق تجسس الوكالة على 35 زعيماً بينهم أوروبيون، وعن اختراق عشرات الملايين من أجهزة وشبكات كومبيوتر شملت سفارات دول أجنبية، وكان الإعلاميون والباحثون ينتظرون الإفراج عن الأرشيفات وما بداخلها من معلومات بعد انتهاء المدة المقررة التي قد تصل إلى 50 سنة فما أكثر أو أقل قليلاً.
منذ ثورة المعلومات والاتصالات أصبح الإعلاميون أمام وفرة من المعلومات، ومنذ شروع ويكيليكس في العام 2010 بالقرصنة والسطو على المعلومات غرق الإعلاميون والرأي العام في بحر من المعلومات التي تتناول كل المجالات في مدى زمني قصير وراهن.
كانت البداية عام 2010 مع جوليان أسانج رئيس ويكيليكس حين قام بتسريب الكم الضخم من الوثائق الأميركية، التي كشفت التدخلات والإملاءات الأميركية في طول وعرض العالم، ثم خرج إدوارد سنودن قبل عامين 2013 ليسرق الأضواء من أسانج، عندما كشف عن أكبر عملية تجسس أميركية على الدول والزعماء والشركات والأفراد، لكن أسانج مدير مؤسسة الويكيليكس عاد وخطف الأضواء بإعلانه قبل أيام الحصول على نصف مليون وثيقة سعودية، وبشروعه في نشر 60 ألف منها على أن تنشر الوثائق الأخرى في الأسابيع القادمة.
كانت ردود الفعل على سطو الويكيليكس الجديد متبايناً، هناك من رأى في عملية التسريب الكبيرة مؤامرة تستهدف المملكة التي بدأت تتمرد على السياسة الأميركية بإبرام اتفاقات شراء السلاح من روسيا، والتوقيع على برنامج لاستخدام الطاقة النووية سلمياً، وهناك من شكك في صحة الوثائق واعتبرها مدسوسة و مزورة، واعتبر كشفها في هذا التوقيت، إنما يستهدف تقوية وترجيح مكانة إيران الإقليمية كحليف أول للغرب على مكانة المملكة السعودية.
مع أن وزارة الخارجية السعودية أعلنت أن ما تم تسريبه من وثائق لا يخرج عن إطار السياسة المعلنة لوزارة الخارجية.
دول إقليمية وقوى سياسية في العديد من الدول العربية استخدمت الوثائق التي تدين معارضيها فقط، وسلطت الأضواء على الدعم المالي الذي استخدم في بناء الولاءات واعتماد السياسات، وكثيرون التزموا الصمت.
من الطبيعي أن تكون ردود الفعل متباينة، وأن يكون لكشف الوثائق استخدامات لها صلة بالصراع الإقليمي، وبعلاقات السيطرة والنفوذ والتحالف، كما أن التزوير والتلاعب غير مستبعدين في هذا النوع من الحروب.
لذا فإن أي تعامل موضوعي مع الوثائق لن يكون في موقع ثنائية الرفض والقبول، وإن زاوية النظر في قراءة الوثائق ستستند إلى معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان والاستقلال والتحرر باعتبارها نقيضاً للاستبداد والقمع والدكتاتورية والتبعية والفساد، ومن أبرز القضايا التي من المهم طرحها:
الموقف من الأنظمة
الوثيقة الأبرز كانت «استعداد دول الخليج دفع 10 مليارات دولار مقابل إطلاق سراح الرئيس المخلوع حسني مبارك»، «وممارسة الضغط الهائل على الحكومة المصرية الجديدة في عهد الرئيس المخلوع محمد مرسي كي لا تقدمه للمحاكمة»، وتكشف الوثائق «أن جماعة الإخوان وافقت على إطلاق سراح مبارك مقابل الحصول على الأموال»، وسبق للقيادي في جماعة الإخوان خيرت الشاطر أن أعلن في العام 2012 أن السعودية عرضت مليارات الدولارات مقابل الإفراج عن مبارك».
وكشفت وثيقة أخرى حول تونس: تتحدث عن وساطة سياسية سعودية لتحقيق مصالحة بين «حكومة الجبالي» والرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وأن حكومة الجبالي تفكر في إيجاد طريقة لاحتواء حزب الرئيس المخلوع».
وتكشف وثائق أخرى عن دور الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح الذي كانت تدعمه السعودية في إعطاء الضوء الأخضر لتنظيم القاعدة لاحتلال أجزاء من جنوب اليمن «زنجبار»، ووثيقة أخرى تتحدث عن دفع قطر مبلغ 250 مليون دولار لمنع إجراء الانتخابات في اليمن.
المواقف السابقة - إن صحت - فإنها تدافع ليس فقط عن رموز الأنظمة المستبدة وحسب، بل تدافع عن بقاء الأنظمة الديكتاتورية والتابعة التي رفضتها شعوبها بشكل صريح لا لبس فيه، وتصطف ضد الرغبة الشعبية في تغيير الأنظمة المستبدة.
هذا يطرح سؤالاً آخر حول طبيعة الدعم الذي تقدمه دول البترودولار للمعارضة في سورية والعراق وليبيا، وأي نوع من المعارضة يتلقى الدعم، ولماذا احتلت المعارضة الأصولية المسلحة المشهد وتراجعت وانزوت المعارضة السلمية الديمقراطية إلى هامش المشهد.
هذا السؤال برسم المعارضات السياسية - المستأنسة من قبل دول البترودولار- التي ساهمت في تمييع الاستقطاب وخلط الأوراق بين أصدقاء وحلفاء الشعوب المنتفضة، وبين أصدقاء وحلفاء الأنظمة المستبدة، بين الثورة وقواها الحية وبين الثورة المضادة وقواها الرجعية والظلامية.
النفوذ الإعلامي
النفوذ الإعلامي الكبير كان من المواضيع الحاضرة باستمرار في العديد من الوثائق، ذلك أن الإعلام هو أداة السيطرة والنفوذ، وهنا تطول لائحة الفضائيات والصحف ومراكز الإعلام التي تتلقى الدعم مقابل تبني السياسات السعودية، وتضم اللائحة لبنان، تونس، العراق، مصر، واليمن، وإعلام المعارضة السورية في الخارج، ولفيف من الإعلاميين والصحافيين والمثقفين الذين يعملون في إمبراطوريات الإعلام السعودية، ولا تكتفي المملكة بنشر النفوذ عبر الإعلام الموالي، ونشر الثقافة المحافظة عبر العديد من المسلسلات التلفزيونية مثل «باب الحارة» بل إنها تضيق الخناق وتحاصر الإعلام المعارض وناقدي سياسة المملكة، بما في ذلك النقد الموضوعي ومن موقع مستقل، كما تشير الوثائق.
ومن الأمثلة على ذلك المعارضة التي لقيها فيلم «ملك الرمال» للمخرج السوري « نجدت أنزور.
ويلاحظ أن معارضة السياسة السعودية إعلامياً، بما في ذلك تناول الوثائق المسربة هي من أضعف أنواع المعارضات، باستثناء معارضة المحور الإيراني، فإن غالبية وسائل الإعلام العربية تلتزم الصمت إزاء سياسات المملكة، وإذا كان من قيمة لسطو الويكيليكس على وثائق المملكة فهي تتلخص في بداية نقد المسكوت عنه، انطلاقاً من مصلحة شعوب المنطقة فقط لا غير.
Mohanned_t@yahoo.com


