مقدمة
ازدادت وتيرة التحالفات بين الفصائل المقاتلة لنظام الأسد في سوريا منذ تشكيل جيش الفتح في 24 مارس/آذار الراهن؛ وذلك على مستوى الفصائل الثورية المحلية والفصائل الجهادية، واستعادت الثورة السورية المسلحة المبادرة بعد مرحلة طويلة شغلت فيها موقع ردِّ الفعل، وخسرت أثناءها في الجبهة الشمالية والشرقية والوسطى مناطق واسعة لصالح نظام الأسد والميليشيات الشيعية المتحالفة معه ولصالح تنظيم الدولة.
أدَّت عوامل عدة ذاتية وموضوعية إلى هذه "الصحوة العسكرية" بعد ركود مستمر، خاصة في الشمال السوري، أما في الجنوب فتشغل معادلة مختلفة واقع التحالفات ومستقبل الجبهة الجنوبية، وتبدو الحرب السورية مقبلة على تغيرات مهمة في المرحلة القادمة، على المستوى الجيو-عسكري، وعلى مستوى التحالفات القائمة.
تتناول هذه الورقة التحالفات العسكرية الأخيرة في الشمال السوري، من حيث عوامل نشوئها وتأثيراتها ومآلاتها ضمن المشهد السوري العام.
التحالفات الأخيرة في الشمال السوري
1- إدلب وحماة والساحل
تشكَّلت غرفة عمليات جيش الفتح في 24 مارس/آذار الراهن بهدف السيطرة على مدينة إدلب واستكمال تحرير المحافظة، ويمكن تقسيم القوى المشكِّلة للغرفة إلى:
كتلة ثورية إسلامية: حركة أحرار الشام الإسلامية، وفيلق الشام.
كتلة سلفية جهادية: جبهة النصرة، وجند الأقصى.
فصائل أصغر متوزعة بينهما: أجناد الشام، وجيش السنة، ولواء الحق(1).
في 28 من مارس/آذار 2015م أعلن جيش الفتح السيطرة على مدينة إدلب، بعد ثلاثة أيام فقط من إعلان المعركة التي كانت أهميتها السياسية والمعنوية أهمَّ من تأثيراتها العسكرية؛ حيث كانت تحصينات النظام العسكرية على محور (معسكر القرميد- جسر الشغور)، وعلى محور (جسر الشغور- جورين)، إضافة إلى محور (سهل الغاب)، تحمي المدخل نحو الساحل السوري، وعمقًا آمنًا للانطلاق نحو معركة حماة.
كانت هذه المحاور الثلاثة الاستراتيجية هي المرحلة الثانية التي أُعلنت في 22 من إبريل/نيسان 2015، حين بدأت ثلاث معارك متزامنة يمكن اعتبارها معًا معركة واحدة هي الأضخم في تاريخ الثورة السورية المسلحة؛ وذلك من حيث الإعداد العسكري والامتداد الجغرافي والتأثير الاستراتيجي.
حيث أعلن جيش الفتح بدء معركته على معسكر المسطومة ومعمل القرميد، وأعلنت "غرفة عمليات معركة النصر" تحرير مدينة جسر الشغور وما حولها، وأعلنت "غرفة عمليات معركة سهل الغاب" تحرير سهل الغاب الجنوبي، ضمَّت الغرفتان الأخيرتان تنوُّعًا أكبر من غرفة جيش الفتح، واشترك معها معظم فصائل "الجيش الحر" غير المحسوبة على التيار الجهادي في ريف إدلب وحماة إليها، وكان لافتًا مدى استخدام صواريخ التاو المضادة للدروع في المعركة، وهي صواريخ تصل بالدعم الأميركي عبر غرفة العمليات الدولية المشتركة (الموك) حصرًا.
في 25 من إبريل/نيسان الراهن (2015) أعلنت غرفة عمليات معركة النصر السيطرة على مدينة جسر الشغور (باستثناء قطاع المشفى الوطني الذي استكملت السيطرة عليه في 22 من مايو/أيار)، وهي العاصمة الإدارية الثانية لمحافظة إدلب بعد مدينة إدلب، وتم نقل المؤسسات المدنية إليها حين بدأت التحشيدات على المدينة من طرف الثوار، وفي 26 من إبريل/نيسان أعلن جيش الفتح تحرير معمل القرميد، وفي 19 من مايو/أيار أعلن تحرير معسكر المسطومة، وفي 6 من يونيو/حزيران أعلن تحرير المساحة ما بين المسطومة حتى ما بعد قرية محمبل، ليتبقى للنظام في محافظة إدلب (قرية فريكة، ومطار أبو الضهور، وبلدتا كفريا والفوعة).
بتحرير مدينة جسر الشغور، ثم معمل القرميد، ثم معسكر المسطومة، ثم استكمال تحرير معظم ريف جسر الشغور، والتقدم الذي ما زال مستمرًّا لتكون المساحة في محافظة إدلب خالية من النظام بالكامل؛ لكن يبدو أن النظام يعيد تمركزه في الساحل استعدادًا لمعركته ذات الأولوية، مع تحصين مدينة حماة التي تشكل الظهر الآمن وطريق الإمداد المتصل ما بين دمشق والساحل، أما وجهة المعارك القادمة بالنسبة إلى فصائل الثوار، فتبدو في استكمال السيطرة على سهل الغاب وريف حماة الشمالي، قبل التوجه نحو الساحل.
2- حلب
في مدينة حلب وريفها نجد أن الخارطة العسكرية والفصائلية أكثر تعقيدًا وتداخلاً؛ حيث لم تنجح محاولات التوحيد الكثيرة لفصائل حلب؛ التي كان أضخمها إعلان "الجبهة الشامية" في 25 من ديسمبر/كانون الأول 2014 (2)، التي لم تلبث مع حلول إبريل/نيسان الراهن أن تفككت وزادت من تفكك الفصائل المكوِّنة لها(3)، ليتم الإعلان عن "غرفة عمليات فتح حلب" في 26 من إبريل/نيسان 2015، في استلهام لمسمى جيش الفتح في إدلب (4).
ومع فشل مشاريع الاندماج المستمر، فإن الفصائل باتت تركز الآن على التنسيق العسكري من خلال غرفة العمليات، وفتح معارك على الطرف الغربي من المدينة، قد لا تستهدف السيطرة عليها بقدر التقدم والضغط.
إلا أن حجم التحصينات العسكرية للنظام حول المدينة، والطوق الممتد حول المناطق المحررة من معامل الدفاع في ريف حلب الجنوبي، وحتى باشكوي في ريف حلب الشمالي، عدا تهديد تنظيم الدولة المستمر للريف الشمالي، يجعل مهمة السيطرة على المدينة أكثر صعوبة، علاوة عن استنزاف فصائل حلب على خطوط الرباط الطويلة والمعارك العنيفة المستمرة، خاصة بعد الحرب الموسعة مع تنظيم الدولة بداية 2014؛ التي أثَّرت على أعداد أغلب الفصائل وعتادها وتماسكها، إضافة إلى طول خطوط الرباط المشتعلة على جبهة تنظيم الدولة (60 كم)، ومحاولاتها المستمرة للتقدم في ريف حلب الشمالي؛ التي كان آخرها في 31 من مايو/أيار 2015، مع خسارة التنظيم المستمرة في ريف الرقة وريف الحسكة أمام الأحزاب الكردية وغرفة عمليات "بركان الفرات" تحت دعم التحالف الدولي.
وعلى مستوى الأولويات العسكرية الاستراتيجية، فإن الأولوية الآن تتمثل في صد محاولة تنظيم الدولة التقدم في الريف الشمالي، وتحجيم خطوط الاشتباك معه، مما يستلزم اعتبار الجبهة معه معركة مفتوحة حتى إعادته إلى ما قبل بلدة الراعي كهدف مرحلي أول.
أما في المعركة على النظام فإن العمل على محور (دوار الليرمون – جمعية الزهراء) يمكن أن يضمن فتح طريق إمداد بديل عن طريق الكاستيلو المهدد باستمرار، والعمل على ريف حلب الجنوبي سيحقق قطع طرق إمداد النظام في حلب، وتأمين عمق استراتيجي متصل في مثلث (حلب-إدلب-حماة)، وهو ما يمكن أن يحقق اتصالاً جغرافيًّا وعسكريًّا ما بين جبهات وفصائل (حلب-إدلب-حماة).
عوامل تحالف وانتصار المعارضة
1- الدعم الإقليمي
كثر الحديث عن قرار إقليمي وراء فتح معارك الشمال السوري الأخيرة والانتصارات السريعة التي حققتها هذه التحالفات في إدلب وجسر الشغور، إلا أنه بعيدًا عن التكهنات، فإن المعارك الأخيرة لم تشهد سلاحًا نوعيًّا مختلفًا عما هو متوفر لدى هذه الفصائل، سواء مما حصلت عليه عن طريق الدعم السابق أو بغنائمها من النظام السوري، لكن في المقابل شهدت مشاركة فصائل متباينة التوجهات والعلاقات السياسية في هذه المعارك، من الفصائل المدعومة من الموك، إلى الفصائل الأقرب للمحور التركي-القطري، إلى الفصائل الجهادية المعولمة؛ التي لا تقتصر على جبهة النصرة التي يمكن اعتبارها الأكثر "سورية" بينها، بل تشمل جند الأقصى الأكثر تشدّدًا أيديولوجيًّا من جبهة النصرة، وجبهة أنصار الدين (جيش المهاجرين والأنصار خاصة)؛ التي تضم المقاتلين القوقاز بشكل رئيس، و"لواء المهاجرين" وهو تجمُّع لجهاديين من "بلاد ما وراء النهر" من التركستان والطاجيك والأوزبك، وأكبر تشكيلاته "الحزب التركستاني الإسلامي" الذي ينتشر الآن في مدينة جسر الشغور.
هذا لا يلغي أن هذه المعارك كانت متوافقة مع المزاج الإقليمي بعد عاصفة الحزم، عبَّرت عنه اللقاءات الكثيفة بين السعودية وتركيا وقطر حول الموضوع السوري، وزيارة قادة الفصائل الكبرى (أحرار الشام وجيش الإسلام) إلى إسطنبول، فبات حدوث تحوُّل إيجابي في الدعم ما كبيرا.
2- أزمة جبهة النصرة
شنَّت جبهة النصرة سلسلة من المعارك على فصائل الجيش الحر في إدلب وحلب (نوفمبر/تشرين الثاني 2014- مارس/آذار 2015)؛ التي بدأت بجبهة ثوار سوريا في جبل الزاوية، وانتهت بحركة حزم في ريف حلب الغربي، ومرت بعدة فصائل أصغر مثل جبهة حق المقاتلة وألوية الأنصار واللواء السابع، أدَّت هذه المعارك إلى نتائج ساعدت على التحالفات العسكرية الأخيرة؛ منها:
التأثير على الخارطة العسكرية: حيث فقدت جبهات إدلب وحماة عددًا كبيرًا من المقاتلين النشطين في نقاط الرباط أو المعارك هناك، وهذا الضعف النسبي استلزم عملاً استباقيًّا للخوف من استغلال النظام للخواصر الرخوة مع تناقص عدد المقاتلين ضده.
التأثير على الخارطة الفصائلية: حيث أدَّى تفكيك هذه النسبة الكبيرة من فصائل الجيش الحر في ريف إدلب خاصة، إلى أن تصبح الثنائية أكثر وضوحًا وتماسًّا ما بين "أحرار الشام" كفصيل ثوري إسلامي و"جبهة النصرة" كفصيل جهادي معولم، وأن تكون التنويعات الأخرى للمقاتلين أخفَّ حضورًا بينهما؛ مما يجعل الفصائل المتبقية بالتالي تابعة لأحد الطرفين في التحالفات القادمة.
التأثير على شعبية جبهة النصرة ومرونتها: أشاعت هذه المعارك جوًّا مشحونًا بالاحتقان بين الفصائل في الشمال، والتوجس من خطط جبهة النصرة بالهجوم عليها والاستيلاء على سلاحها، وكان هذا أحد العوامل التي أدَّت إلى تأسيس "الجبهة الشامية" في حلب ثم تفككها؛ ولكن الأثر الأهم هو سعي جبهة النصرة بعد حربها مع حركة حزم (انتهت في الأول من مارس/آذار 2015) إلى أن تستدرك شعبيتها، وتحاول بناء علاقات أكثر مرونة مع الفصائل، إضافة إلى التلميح بفكِّ الارتباط مع القاعدة (لكن الجولاني ظل في مقابلته مع الجزيرة متمسِّكًا بارتباطه مع القاعدة)، الخطوة التي كانت لو وقعت تهدد بانشقاق داخلي في جبهة النصرة؛ ولكنها من جانب آخر تضمن الاندماج طويل الأمد ضمن المنظومة الثورية المحلية.
3- تكتيكات المواجهة
يظهر الفرق واضحًا ما بين فصائل مدينة حلب وبين فصائل إدلب، مع مقارنة خطوط الاستنزاف الطويلة في حلب مقارنة بقطاعات الاشتباك السابقة في إدلب، وعدا عن الاستنزاف البشري والعسكري الذي تؤدي إليه خطوط الرباط الطويلة، فإنها تؤثر على نوعية المقاتلين أنفسهم، وتساعد –في حالة قصر خطوط الرباط- على زيادة القدرات القتالية للعناصر، وزيادة نسبة الاقتحاميين منهم، إضافة إلى وجود تنظيم الدولة كتهديد دائم في حلب، مقارنة بعدم وجوده في إدلب.
أمَّا في المعارك الأخيرة، فإن تكتيك الضرب السريع والمكثف للمدن والقطع العسكرية، قبل أن يتمكن النظام من إرسال الإمدادات أو تثبيت خطوط الدفاع، أثبت فاعليته وقدرته على الكسب السريع.
4- التوافق في الحد العسكري
على الرغم من أن البيانات التي صدرت عن جيش الفتح(5) أو معركة النصر(6)، كانت تحمل ذات الخطاب السلفي الجهادي ومفرداته، فإن هذه التحالفات عملت على بناء حد أدنى من التوافق الفكري، والحرص على الحد الأعلى من التنسيق العسكري، دون البحث عن اندماج أو توافق سياسي، هذا بالمقارنة مع الجبهة الشامية كمحاولة اندماج انتهت بالفشل، أو بالقيادة العسكرية الموحدة في الغوطة كتنظيم عسكري دائم للعمليات في الغوطة، لا كغرفة عمليات مؤقتة، أو بالجبهة الجنوبية كواجهة سياسية وممر دعم للفصائل التي بقيت على بنيتها.
5- تقهقر النظام
مع تقدم الثوار السريع خلال عام 2012، وسيطرتهم على مساحات واسعة من الريف؛ خاصة حول العاصمة دمشق، وتآكل الجيش السوري بحكم الانشقاقات الكثيرة وأعداد القتلى المتزايدة، استعان النظام في البداية بإنشاء ميليشيات محلية موازية (قوات الدفاع الوطني، وكتائب البعث، والحزب القومي السوري، ولواء القدس.. إلخ)، إلا أن تمركز هذه الميليشيات في مناطقها وضعف قدراتها الهجومية منعها من قلب المعادلة؛ فاستعان النظام بشكل مكثف بآلاف المقاتلين متعددي الجنسيات من الميليشيات الشيعية، فتمكن من استعادة السيطرة على جبهة دمشق وحمص وأجزاء واسعة من حلب(7)، واستفاد من قدوم آلاف من مقاتلي تنظيم الدولة فيما بعد التاسع من إبريل/نيسان 2013، الذين كانت لديهم أولوية القتال ضد الثوار والسيطرة على مناطقهم (8).
إلا أنه بعد سيطرة التنظيم على الموصل في 10 من يونيو/حزيران 2014، وعودة غالبية المقاتلين العراقيين إلى قتال التنظيم في العراق، عدا حجم القتلى الكبير الذي تكبدَّه حزب الله اللبناني في سوريا، والعدد الهائل لقتلى النظام نفسه خلال أربع سنوات من الحرب، وانحسار الحاضنة الشعبية عنه، فإن اضمحلال القوة البشرية للنظام بدا أوضح للعيان، وأصبح اعتماده في المعارك التي يفتتحها أو يحاول التقدُّم فيها على المقاتلين الأفغان غير المدربين (كما حصل في هجومه على الملاح في حلب منتصف ديسمبر/كانون الأول 2014 (9)، أو على عساكر الاحتياط أو المجندين الجدد؛ الذين يجمعهم من المناطق التي تخضع لسيطرته، ويرسلهم بعد تدريب سريع إلى جبهات قتال عنيفة، (كما حصل في معارك ريف حلب الشمالي منتصف فبراير/شباط 2015(10))؛ مما أدى إلى ظهور أعداد غير معتادة من القتلى ضمن المعركة الواحدة؛ لأنه مع ضعف قدرات هؤلاء فإنهم لا يحملون عقيدة قتالية صلبة للدفاع عن النظام أو قتال الثوار.
إن اضمحلال القوة البشرية المدافعة عن النظام، وتراجع أعداد الميليشيات الشيعية المقاتلة إلى جانبه، إضافة إلى تراجع القوة السياسية لحضوره في المجتمع الدولي، ساعد على الانهيار السريع للمدن في الشمال السوري، وهو ما يهيئ لتغيرات في المعادلة العسكرية، فيما لو نجح الثوار أكثر في تحييد المزيد من المؤيدين المحتملين للنظام ضمن الأقليات، وتمكنوا من اتباع تكتيك الضرب السريع بدلاً من الرباط والتمدد البطيء.
مآلات المشهد
على مستوى الخارطة الفصائلية: فقد أعادت تجربة "جيش الفتح" وما بعدها إحياء تجربة "غرف العمليات" الموسعة على مستوى المدن، فظهرت "غرفة عمليات فتح حلب"، و"غرفة عمليات نصرة المستضعفين" في ريف حمص الشمالي بعد ركود طويل لتلك الجبهة، و"جيش الفتح في القلمون"؛ الذي استنسخ الدفق المعنوي الذي رافق "جيش الفتح" في إدلب، ويتوقع أن تُستنسخ هذه التجربة وتُعَمَّم على باقي الجبهات.
أمَّا جبهة النصرة فإنها تدفع في اتجاه الاندماج ضمن منظومة الفصائل المحلية؛ وذلك بعد أن لم تعد هي الجهة التي تحتكر "المهاجرين" ضمن المناطق المحررة، وإن كان الحرص على استمرار الارتباط بالقاعدة -لحماية البيت الداخلي- قد يقلِّل من فرص ذلك، كما أن حاجة الفصائل للدعم من خلال غرفة الموك أو الدول الغربية ما زال يشكل عقبة أمام الاندماج العسكري مع جبهة النصرة، مما يتم تعويضه من خلال قَدْرٍ أعلى من التنسيق السياسي في المواقف الأخيرة.
على مستوى الخارطة العسكرية: فإنه من المستبعد أن يتمكن النظام من استعادة المبادرة في محافظة إدلب، التي تتجه لتكون منطقة تحت سيطرة الفصائل الثورية الجهادية بالكامل، وتنفتح الخارطة أمام جيش الفتح للتقدم في سهل الغاب وريف حماة الشمالي والساحل بعد تخطي عتبة جورين، ويبدو الخيار الأخير مؤجلاً إلى ما بعد تأمين سهل الغاب وريف حماة، عدا صعوبة المعركة ومفصليَّتها بالنسبة للنظام.
أمَّا في حلب فإن أولوية الثوار هي منع تقدُّم تنظيم الدولة في الريف الشمالي، وفتح معركة طويلة الأمد معه؛ تستهدف استعادة المناطق التي يسيطر عليها. أمَّا مع النظام فإن معركة ريف حلب الجنوبي استراتيجية، وتحقِّق قَطْعَ إمداد النظام في "طوق حلب"، لتكون مناطق نفوذ النظام في حلب محاصرة، عدا أنه يحقق اتصالاً جغرافيًّا واستراتيجيًّا لمناطق الثوار، وإن كان تركيز "غرفة عمليات فتح حلب" في بدايتها على التقدم داخل القسم الغربي من المدينة.
كما أن استمرار تقدُّم الأحزاب الكردية في ريف الرقة والحسكة وحلب، قد يدفع التنظيم إلى تعويض خسارته ومنع حصاره من الجانبين إلى تكثيف هجومه على مناطق سيطرة الثوار في ريف حلب الشمالي؛ خاصة بعد خسارته معبر تل أبيض الاستراتيجي.
وتترافق معارك الشمال السوري مع فتح عدة جبهات اقتحام واستنزاف للنظام؛ وذلك في القلمون الغربي وريف حمص الشمالي والغوطة الشرقية، إضافة إلى فتح معارك ضخمة في الجبهة الجنوبية من جديد مع تحرير اللواء 52 (9 يونيو/حزيران) والاتجاه نحو مطار الثعلة، بعد هدوئها بسبب الاقتتال مع خلايا متهمة ببيعة تنظيم الدولة في الريف الغربي.
ويضع التقدم الأخير لتحالفات الثوار العسكرية نحو مناطق جديدة، تتضمن مناطق الأقليات (في السويداء وحماة والساحل)، تحديًا آخر للفصائل التي تتبنى خطابًا غير جامع، ولم توضِّح رأيها المطمئن للأقليات، أو مشروعها السياسي الوطني، وهو ما يمكن أن يتيح للنظام كسب مقاتلين جدد في صفوفه، أو يتيح للثورة تحييد خصوم محتملين، حسب استجابة الفصائل لهذا التحدي.
على المستوى السياسي: فإن الجهد السياسي الإقليمي الحثيث في الرياض وإسطنبول وجنيف لإحداث تغير في المشهد السوري، ما زال يتعثر بسبب اختلاف استراتيجيات وأهداف الدول المؤثرة من جهة، وباختلاف أهداف وبنية ممثلي المعارضة نفسها من جهة أخرى؛ حيث يستمر عدم فاعلية الائتلاف الوطني في الواقع الميداني، وتشتت الفصائل في تمثيلها السياسي؛ لكن من المتوقع أن تشهد الفترة القادمة تحوُّلاً إيجابيًّا في الدعم المقدَّم حسب العلاقات الانتقائية مع الفصائل على الأرض؛ وذلك دون أن يرتقي إلى "عاصفة حزمٍ سورية"، بالتوازي مع دعم عسكري وسياسي ولوجستي مستمرٍّ لوحدات حماية الشعب الكردية؛ التي تتمدد باستمرار في مناطق سيطرة تنظيم الدولة في ريف الحسكة والرقة وحلب.
______________________________
أحمد أبا زيد - باحث في الشأن السياسي السوري
المصادر والحواشي