في الدول والكيانات المحترمة، تلعب مراكز الدراسات والمؤتمرات الفكرية والبحثية الاستراتيجية دورا هاما في رسم سياسات الدول حيال مختلف الشؤون التي يمكن أن ترتقي بالدولة وتجلب الرفاهية والأمن للشعب.
ويعتبر مؤتمر "هرتسيليا " الصهيوني الذي تأسس صيف عام 1949 على ارض مخيم عسكري أخلاه جيش الاحتلال في هرتسيليا، والذي يبعد نحو ستة أميال عن تل ابيب منصة للتعبير عن اتجاهات التفكير الاستراتيجي الصهيوني، إلى جانب منصات فكرية هامة أخرى مثل مركز "أبحاث الأمن القومي" الصهيوني.
وللمفارقة لا تقتصر المشاركة في مثل هذه المؤتمرات البحثية الهامة على المفكرين الصهاينة واصدقائهم من الاوربيين والامريكان، بل تشمل قائمة المشاركين في كثير من الاحيان شخصيات فكرية وسياسية فلسطينية وعربية متنوعة، من اولئك الذين نجح الصهاينة في تجنيدهم، والذين يلتزمون بالرؤيا الصهيونية، على الرغم من ان مثل هذه المؤتمرات مخصصة للبحث في تأمين مستقبل أفضل لدولة "اسرائيل" على المستويين المتوسط والبعيد.
وكان المؤتمر نهاية عام 2000، وعنوانه "ميزان المناعة والأمن القومي"، وغدا هذا العنوان شعاراً دائماً لكل مؤتمرات هرتسليا فيما بعد، حيث تعبر الخطابات التي تلقيها القيادات الصهيونية في مثل هذه المؤتمرات عن النخبة السياسية الحاكمة، استنادا إلى خلفياتها وتوجهاتها الأيدولوجية، ورغم التباينات في الاوراق البحثية المقدمة، فان هذه المؤتمرات تنجح الى حد بعيد في الاستفادة من الاختلافات التي تصب في النهاية في اثراء التنوع لصالح واقع ومستقبل "اسرائيل".
ورغم ان مؤتمر هرتسيليا يحوز على الترويج والتغطية الاعلامية الكبيرة فان هذا لا ينفي قيمة ودور مراكز بحثية أخرى في الدولة العبرية، تزود صناع القرار في المستويات السياسية والأمنية بنتائج بحوث ودراسات هامة للرأي العام "الإسرائيلي" والعربي والدولي، وليس أدل على ذلك الاستطلاع الذي اجرته مؤسسة اوروبية لصالح مؤسسة صهيونية في المملكة السعودية لقياس توجهات الشعب السعودي حيال العداء مع اسرائيل وغيرها كتنظيم داعش وايران.
ونحن نسرد هذا الواقع المشرف صهيونيا لواقع مؤتمر "هرتسيليا" الذي اقيم على ارض فلسطينية محتلة، لنشعر بمرارة وألم لافتقارنا كثورة تحرر فلسطينية لمثل هذه المراكز البحثية والاستراتيجية لاستقطاب وتجنيد الكفاءات من مختلف الاقطار والجنسيات للاستفادة من هذا التنوع والاختلاف في اثراء خيارات صناع القرار الفلسطيني في سياق مشروع التحرر الطويل.
ويكفي ان نقول ان "اسرائيل" كانت تفاوض الفلسطينيين بفريق عمل ضخم مكون من عدد كبير من الفرق العلمية والبحثية المتخصصة، فيما كان الفلسطينيون يفاوضون بفريق صغير حقير من غير المتخصصين، ما انجب اتفاقات جائرة جرت على شعبنا الالام والويلات.
ثورتنا الفلسطينية التي اديرت وما زالت بعقلية الفرد الأنا الدكتاتورية جريا على طابع الانظمة التي حكمت مختلف اقطارنا العربية، تفتقر إلى هيئات او مراكز ومؤتمرات علمية بحثية متخصصة تقوم بنظم أمور الثقافة والتعليم، بما يحافظ على الهوية الفلسطينية في عصر توزع فيه شعبنا على المنافي والشتات في متخلف بلدان العالم، فاصبح الفلسطيني غريب ليس عن وطنه بل عن لغته وعن تاريخ وتراثه.
يساهم المثقف والعالم والباحث الفلسطيني في نهضة دول ويتبوأ فيها أرفع المناصب العلمية، فيما يفشل قادة ثورتنا في نظم هؤلاء في طواقم متميزة للاستفادة من تنوع خبراتهم التي اكتسبوها من اعرق الجماعات في العالم مثل كورنيل، وهارفارد، وسانفورد، ويال، وشيكاغو وبنسلفانيا، وأكسفورد، وكامبردج وغيرها.
أكثر من ستين عاما مرت على النكبة، وما زال الفلسطينيون أغنى الشعوب العربية تعليما وثقافة وفكرا ووعيا يفتقرون الى من ينظم هذه الكفاءات المبعثرة في عقد يشكل مستودعات للأفكار كل في موقعه لإنتاج أفكار لخدمة ثورتنا ومقاومتنا ومصالح شعبنا في مختلف الشؤون والمستويات.
ثورتنا الفلسطينية بحاجة ومنذ زمن بعيد الى نسختها الفلسطينية من مؤتمر هرتسيليا لتتمكن من العمل على تكريس الفكر التحرري المقاوم، في أذهان أجيالنا الفلسطينية والعربية فضلا عن عقول الكفاءات المتخصصة الذين علينا ان نجتذبهم.
مؤتمرات تعنى بتربية أكاديميين متخصصين يتبنون الفكر العروبي التحرري المقاوم، واعدادهم لتبوُّؤ مناصب رفيعة في مختلف مجالات الحياة تأثيراً ونفوذاً، بهدف نشر وتعميم المفاهيم والقيم التي تساهم في اعادة الحق الى اهله، والتي تؤهلهم لأخذ دورهم في مواقع صنع القرار.
مؤتمرات استراتيجية- أكاديمية، تفتح ابواب التعاون مع مراكز بحث ودراسات عربية ودولية، فضلا عن الجامعات العريقة.
مؤتمرات تشارك بفعالية فيها مختلف الشخصيات القيادية والرفيعة المستوى، على اختلاف مشاربها وجنسياتها وتخصصاتها الاقتصادية والإعلامية والأكاديمية والأمنية والعسكرية، من أجل بحث المواضيع الحساسة المتعلقة بحاضر وواقع شعبنا ومستقبل مشروعنا التحرري.
مؤتمرات تبحث علاقة الجاليات والتجمعات الفلسطينية المنتشرة في ربوع العالم، بفلسطين الشعب والقضية، باعتبارهم ذخراً استراتيجياً لها، وربطهم وأجيالهم الناشئة بفلسطين كأرض واجبة التحرير مهم طال الزمن.
مؤتمرات تحظى بدعم أهم المؤسسات الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة وخارجها، وتتعاون معها مختلف وسائل الاعلام؛ وتحوز على دعم مختلف الشخصيات السياسية والأكاديمية، فضلا عن رجال الأعمال الفلسطينيين والعرب.
مؤتمرات تحاكي مؤتمر هرتسيليا و يحرص صناع القرار على العمل بتوصياتها وتنفيذها، وصولا الى التحرير لعقد هذه المؤتمرات على أراضينا المحررة.


