خلال نهاية عطلة الأسبوع الماضي، شهدت تركيا شيئاً أشبه بزلزال سياسي انتخابي؛ حيث أفرزت الانتخابات التي أجريت يوم الأحد الماضي طائفة متنوعة من النتائج غير المتوقعة، والتي تشير إلى أن ثمة عملية مراجعة سياسية كبرى تنتظر الجمهورية في قادم الأيام.
جاءت تلك الانتخابات بنوع من المفاجأة. فبعد كل شيء، كانت السياسة التركية على مدى السنوات العديدة الماضية قابلة للتنبؤ إلى حد كبير. فمنذ صعوده إلى سدة السلطة في العام 2002، قام حزب العدالة والتنمية الحاكم في البلاد بتعزيز سيطرته على السلطة بشكل منهجي، في العملية التي جلبت تركيا أقرب باطراد إلى أن تصبح دولة حزب واحد استبدادية. ونتيجة لذلك، خلص عدد كبير من المراقبين إلى أن هذه الانتخابات، مثل سابقاتها في الأعوام 2007 و2011، كانت تتجه إلى أن تكون مجرد كثير من اللغط حول لا شيء في الحقيقة.
لكنهم كانوا مخطئين، فبدلاً من ذلك، أسفر تصويت يوم الأحد عن بعض النتائج المفاجئة والمهمة:
- نهاية حكم الحزب الواحد
قبل انتخابات يوم الأحد الماضي، كانت لدى حزب العدالة والتنمية آمال عريضة بتوسيع هيمنته بشكل أكبر. وكان الحزب قد حصل في العام 2011 على 327 مقعداً من أصل مقاعد برلمان البلاد البالغ عددها 550، بنقص ثلاثة أصوات فقط عن امتلاك السلطة اللازمة لوضع تغييرات دستورية قيد الاستفتاء الوطني. وكان الهدف هو عبور تلك العتبة مرة أخرى (كما حدث في العام 2002)، بل وربما حتى تأمين 367 مقعداً اللازمة لإحداث تغييرات في دستور البلد من جانب واحد.
لكن العكس هو الذي حدث. فبدلاً من توسيع بصمته الانتخابية، شهد حزب العدالة والتنمية انحسار ريادته بشكل كبير، هابطاً حتى إلى أدنى من عتبة 270 مقعداً الضرورية لحكم الحزب الواحد. وللمرة الأولى منذ توليه السلطة قبل 13 عاماً، أصبح الحزب في حاجة إلى بناء تحالف حتى يحكم. ورغم السيناريوهات العديدة الممكنة، فإن هناك نتيجة واحدة أصبحت واضحة مسبقاً: لم يعد حزب العدالة والتنمية يتمتع بالسلطة نفسها شبه المطلقة التي كانت لديه لمواصلة مبادراته السياسية.
- توبيخ لإردوغان
بالعديد من الطرق، جاء أداء حزب العدالة والتنمية الضعيف في الانتخابات نتيجة لخطأ رجل واحد: رئيس البلاد الصاخب القابل للشراء، رجب طيب إردوغان. فعلى مدى السنوات العديدة الماضية، عملت تجاوزات إردوغان -من نمط حياته المترف، إلى تكتيكاته السياسية القاسية، إلى حساسيته المفرطة للنقد- على إثارة مقارنات تزداد تكراراً بينه وبين رجل قوي آخر "أكبر من الحياة"، هو الزعيم الروسي فلاديمير بوتن. وبذلك كانت نتائج انتخابات الأحد الماضي، في جزء منها على الأقل، استفتاءً على نهج إروغان السياسي التقسيمي. وتشكل النتيجة إشارة واضحة إلى أن الناخبين الأتراك، بعد احتلال الرئيس مقعداً في الصف الأمامي لممارسة طريقته المفضلة في إدارة الشؤون، لم يعودوا مستعدين للجلوس في الخلف ومنحه المزيد من السلطة في السنوات الأربع المقبلة.
- إعادة انبعاث القومية؟
كان أحد أهم مشاريع حزب العدالة والتنمية السياسية في العقد الماضي هو الإقصاء شبه الكامل لمعارضيه. ومن خلال تهم ملفقة بالتآمر، وفضائح جنسية مشبوهة وتحقيقات جنائية مشكوك فيها، نجحت حكومة إردوغان في إفراغ طبقاتها من أي معارضة سياسية منظمة حقيقية، بما في ذلك المعسكر القومي الذي كان قوياً ذات مرة في البلاد.
مع ذلك، هناك الآن مؤشرات مبكرة على ما يمكن أن يتحول بمرور الوقت إلى انبعاث قومي. ففي انتخابات يوم الأحد، كسب حزب الشعب الجمهوري، الحزب القومي الأبرز في تركيا، ما يقرب من ربع الأصوات -نفس أدائه في العام 2011 تقريباً. لكن الحزب اليميني المتطرف، حزب الحركة القومية، حسّن موقفه، صاعداً من نسبة دعم أكثر بقليل من 14 % إلى 16.5 % اليوم. وفي المجموع، زادت المقاعد التي يحتفظ بها النواب القوميون في البرلمان التركي 27 مقعداً. وفي حين لا يشكل ذلك أداء قيادياً، فإنه يدل مع ذلك على نمو في الدعم الشعبي للقوى القومية التي كان حزب العدالة والتنمية قد نجح في تهميشها سابقاً.
- مزيد من السلطة السياسية للأكراد
كان الكاسب الأكبر في انتخابات يوم الأحد الماضي بلا شك هو أقلية تركيا الكردية التي تم تجاهلها منذ وقت طويل. وبكونهم يشكلون ما يعادل خمس عدد سكان البلاد البالغ 81.5 مليون نسمة، يشكل الأكراد أكبر الأقليات العرقية في تركيا. ومع ذلك، ظل تحررهم السياسي متخلفاً كثيراً خلف أعدادهم، بسبب كل التمييز المنهجي والسياسة الرسمية الإقصائية.
لكن هذا الوضع شرع في التغير الآن. فقد شهدت انتخابات يوم الأحد صعود بطل جديد للهوية الكردية، حزب الشعب الديمقراطي. وكان النقاش السياسي قد تركز قبل الانتخابات على ما إذا كان الحزب الوليد، الذي يبلغ عمره 3 سنوات فقط، يمكن أن يتدبر أمر تجاوز العتبة الانتخابية البالغة 10 % اللازمة للحصول على تمثيل في برلمان البلاد. لكن حزب الشعب الديمقراطي حقق أفضل من ذلك بكثير. وتضمن نسبة 13 % التي كسبها الحزب له مكاناً في البرلمان التركي -وبالتالي، منح الأكراد صوتاً أعلى بكثير في السياسة الوطنية.
بكل تأكيد، لم يتغير كل شيء في السياسة التركية. ما يزال حزب العدالة والتنمية هو أكثر الأحزاب بروزاً في تركيا، بعد أن كسب أكثر من 40 % من الأصوات على المستوى الوطني. ويشكل هذا في حد ذاته تفويضاً سياسياً، كما سيزعم إردوغان وأتباعه في قادم الأيام. ومع ذلك، فإنه يظل أضعف تفويض تمتعوا به على الإطلاق. وبكلمات أخرى، لقد تحدث الناخبون في تركيا. والوقت وحده كفيل ببيان ما إذا كان حزب العدالة والتنمية يستمع إلى ما قالوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نائب رئيس المجلس الأميركي للعلاقات الخارجية في واشنطن.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Turkey's political earthquake
* (سي. إن. إن) ـ ترجمة الغد الأردنية ـ 9/6/2015


