ثمة مؤشرات او علامات قوية آخذة بالتبلور او التجمع كما لو أنها السحابات التي تنبئ بالمطر، على ان تحولاً ربما يكون إستراتيجياً او راديكالياً بالقياس الى الواقع السابق في علاقة إسرائيل بغزة، يتناول اليوم مجمل المقاربة الأمنية والسياسية والاقتصادية الإسرائيلية تجاه غزة. وأعتقد ان هذا التحول الذي يتسم بالاعتدال والتعقل بدلاً من العناد والتهور السابق، يجب ان يحظى بترحيب الفلسطينيين عموماً والغزيين خصوصاً. اذا كان هذا التحول نحو الاعتدال والتعقل عموماً عند العدو يمكن تشجيعه وامتداحه، اذا كنا بالأخير ومن مصلحة الحفاظ على الدم الفلسطيني وتخفيف المعاناة عن شعبنا، ان يكون عدوناً عاقلا عملا بالقول المأثور: عدو عاقل خير من صديق جاهل.
واذا كان هذا التحول بالأساس ليس هبة او منة او مكرمة من العدو، وانما هو نتيجة كي الوعي الذي استطاع الغزيون ان يمارسوه لإقناع هذا العدو بالأخير انتهاج هذه المقاربة باستبدال القوة الصلبة والقاسية ضد الغزيين، بمقاومتهم وصمودهم الأسطوري والبطولي، والتي لم تُجدِ نفعاً بالقوة الناعمة.
إننا نقف اليوم امام هذا التطوير الراديكالي لخطة ارئيل شارون العام 2005، بهدم المستوطنات والانسحاب من غزة باستراتيجية جديدة قوامها تحويل هذا الجمهور الغزي المعدم، والذي يشبه البروليتارية الثورية الرثة بمصطلحات كارل ماركس، والتي يمكن ان تحطم الرأسمالية بسبب وضعها الرث والمعدم، الى شعب يمتلك ويتوفر على أسباب الرفاه وبالتالي جعله يملك ما يخشى ان يفقده او يخسره.
هيا اذن نغير المعادلة صاح الرئيس الإسرائيلي روبين ريفلن: أولا ايها الحمقى لا توجد قوة في العالم تستطيع ان تردع شعباً معدماً، وقالوا في الجيش: دعونا اذن نعطيهم الميناء على طريقة شعار الرأسمالية الأول : دعه يعمل دعه يمر دعه يعمل وينتج دعه يعيش، لكيما يتقلب قبل النوم وهو يفكر في زيادة رصيده في البنك وزيادة تحسين وضعه باطراد، وحيث الشهية تأتي مع الأكل. هكذا اذن ليكن لهم ميناء، واذا فكر رامي الحمد لله بإعادة ترميم وإنشاء المناطق الصناعية فزيادة الخير خير، بدلاً من ان يظل يلاحقنا شبح غزة وتطاردنا لعنتها في كل مكان حول الكرة الأرضية.
ها نحن لا ينسى بنيامين نتنياهو وهو يضيف: نحن الطرف الوحيد المهتم بإعادة إعمار غزة، وبعد ان كنا نرسل ثلاثمائة شاحنة نرسل الآن سبعمائة شاحنة. صدق او لا تصدق ولكننا يجب ان نصدق ذلك.
يبدو للوهلة الأولى كأنه شيئ لا يصدق، انه اذا كانت الحرب الأخيرة على غزة ان أفصحت عن شيء، فهو تقويض مجمل النظرية العسكرية الإسرائيلية التي تعتمد على التفوق النوعي في محورين : سلاح الجو الإسرائيلي أي الطائرة f16، والتفوق الاستخباراتي المكمل لعمل هذا السلاح على الأرض عبر امتلاك جيش من العملاء، والذي حدث ان هذا التفوق تم تعطيله بسلاح دفاعي وهجومي مزدوج غير طبيعة ميدان القتال اسمُه الأنفاق تحت الأرض. هنا حدث التحول في المقاربة التكتيكية والعسكرية الفلسطينية والتي قلبت الموازين، حتى ذهب البعض في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية للقول بان الحرب الأخيرة لقنتهم درسا قاسيا. ولكن الحقيقة ان هذا التحول الذي أسفرت عنه الحرب الأخيرة لم يكن الوحيد، وانما التغير الجذري في المشهد السياسي والدبلوماسي والشعبي العالمي، الذي يبلور اليوم شكل عزلة إسرائيل والمقاطعة غير المسبوقة التي تفرض عليها، كما أزمتها غير المسبوقة أيضا مع حلفائها السابقين أي مع الأوروبيين والأميركيين.
اذن، هيا نكتشف غزة من جديد، غزة الرائعة والجميلة لوصفها هي الحل. ويا لتعاستنا كيف لم نرَ ذلك من قبل؟ فهيا انظروا أبو مازن لا يريد الحل ولا التفاوض انه يكرر في كل مرة فقط وقف الاستيطان. هيا اذن نتنياهو نخرج من هذه الحلقة المفرغة، يتدخل هنا افرايم هاليفي رئيس الموساد السابق وكما لو كنا نشهد فصلا من المسرح اللا معقول، يدعو هاليفي الى التفاوض المباشر مع «حماس».
نعم نفاوض «حماس» هذا العدو القاسي ولندع أبو مازن يتعرق وحيداً. ولنذكِ في المقاطعة الغيرة والحسد والتنافس بين «حماس» وأبو مازن، ولتكن الدولة في غزة ويستمر الوضع الى ما لا نهاية على حاله في الضفة، ولنسلط الضوء هناك لا على فشل خيار حل الدولتين ولكن على فشل القيادة الفلسطينية وأبو مازن، وندخلهم أربعين عاماً أُخرى في مماحكاتهم وصراعاتهم الداخلية على خلفية حساباتهم مع انفسهم.
والواقع ان المأزق الفلسطيني الذي يقارب المعضلة او الإشكالية التي لا يوجد لها حل ولا جواب على تناقضها، انما يكمن في حقيقة أن الغزيين كما المقدسيين والضفاويين لا يوجد أمامهم خيار سوى القتال منفردين كقتال الأمر الواقع. وفي هذا الإطار وحده يمكن ان نفهم أن الغزيين لا يملكون خياراً آخر سوى قبول ما يعرض عليهم، وان نشير هنا الى اعتدال وتعقل العدو اذا كان أحدا لا يمكنه ان يعترض على انشاء ميناء في هذه المدينة يضع حداً لحصارها وسجنها. ولكن هل يكون هذا التحول هو الصدمة الأخيرة «الصدمة الكهرباء» لدفع الفلسطينيين الى هذا التعقل السياسي بإنهاء هذا الشقاق الداخلي، الذي يستعد نتنياهو في هذه الأثناء للتسلل من بين شقوقه وتصدعاته لإحراز النصر على الفلسطينيين، الانتصار الذي يتحقق بالوسائل والإجراءات السياسية الناعمة بدلاً من هزيمته في الحرب.
شيء من سياسة الاحتواء
وكونوا رحمة على الناس
لماذا الصاروخ الطائش والمزعج لنا مرة أُخرى بعد مرة ومرة ؟ والجواب الذي بات معروفاً لأن المشكلة بين «حماس» والمجموعة السلفية لم تحل. لكن السؤال: هل يتحول أيضاً الغزيون وليس مستوطنو غلاف غزة فقط الى رهائن يتم التلاعب بأعصابهم في كل ليلة نكاية بـ «حماس»؟ فهل أيها السلفيون من حيث تقصدون او لا تقصدون تريدون القول بهذا السلوك الخاطئ ان «حماس» هي الأكثر غيرة على مصالح الناس واكثر رأفة وشفقة عليهم ؟ اذا كان الناس هم بالأخير من يدفع ثمن الردود الإسرائيلية من أعصابهم.
ولكن دعونا نطرح المسألة على المستوى الفقهي الاعم، او ليست غائية الإسلام ورسالته الرئيسية والجوهرية بل وتفوقه الأخلاقي في كونه رحمة للعالمين؟ ‹›وما أرسلناك الا رحمة للعالمين›› وان الأولى بهذه الرحمة هم الاقربون؟ الجمهور الغزي المسكين الذي لم تلتئم جراحه بعد من ثلاث حروب طاحنة؟
كونوا رحمة على الناس. وانتم يا «حماس» بوصفكم السلطة الحقيقية، أوَ ليس أولى حل المشاكل الفقهية والدعوية النظرية بالحوار أولاً والحوار ثانياً وثالثاً؟ وانه يمكن ان نقول الشيءَ الكثير في فضل سياسة الحوار والاحتواء، ومرة أخرى لسد الثغرات وبالنتيجة تحقيق الرحمة بالناس. شيء من الاحتواء أيها الناس ببعضكم البعض، ان تحتوي يا أبو مازن شكوى الغزيين و»حماس» وتحتوي «حماس» السلفيين لئلا بالأخير يظهر بنيامين نتنياهو كما لو انه الأكثر رحمة بالغزيين وقدرة على احتواء هذه الغزة على حد سواء متفوقاً على الجميع.


