أكثر ما شد انتباهي الأسبوع الحالي هو هذا الانقسام العميق في العالم العربي بين مؤيدي تركيا وإيران.
يصرخ حلفاء إيران بأعلى صوتهم في وسائل التواصل الاجتماعي: ها هو الشعب التركي يقول «لا» للسلطان «أردوغان» ويعطي صوته لخصومه الأكراد، ويقابل ذلك صراخ من أنصار تركيا: على الأقل «أردوغان» لا يُزوِر الانتخابات كما يفعل «آيات الله» في إيران، وهو يقبل إرادة شعبه.
يَمتد السجال البائس بين المتخاصمين «العرب» وكأن جزءاً منهم يعيش تحت تحت حكم تركيا والآخر تحت حكم إيران.
عندما نهضت الشعوب العربية من سباتها نهاية العام 2010، اعتقد الكثير منا بأن الثورات قد قامت لأن سوء الحال في العالم العربي قد وصل إلى ذروته، لكن ما أعقب الثورات من أحداث بين لنا أنه لا قاع للحضيض: كلما اعتقدت بأنك قد وصلت إليه، تستيقظ على قاع أدنى.
يتخاصم «العرب» على أشياء لا يؤثرون فيها.. ويتخاصمون على القضايا التي لا تؤثر على مصالحهم: لا يهمهم كيف تحولت تركيا من دولة مَدينة إلى دولة دائنة.. من دولة يحكمها العسكر إلى دولة يتوجه شعبها لاختيار قادته.. من دولة حليفة لعدوهم إسرائيل إلى دولة متخاصمة معها.. يهمهم فقط أن أردوغان وحزبه يدعمان تيار الإخوان المسلمين.
ولا يهم «العرب» كيف صمدت إيران في وجه حصار اقتصادي مستمر عليها منذ العام 1978 إلى اليوم.. لا يهمهم كيف تحولت إلى قوة إقليمية يسعى الغرب لإرضائها واحتوائها..ولا يهمهم دعمها لحركتي «حماس» و»حزب الله».. ولا عدائها لإسرائيل.. لا يرون في إيران إلا مساعدتها «للشيعة» العرب.
في العام 1977 كانت إسرائيل في ذروة قوتها: مصر تحولت من عدو إلى صديق.. إيران تزودها بالبترول.. وطائراتها تقوم بتمريناتها فوق الأراضي التركية.
في العام 1978 تحولت إيران إلى أكبر خصوم إسرائيل.. ولحقت بها تركيا تدريجياً لكن بشكل أوضح بعد حادثة سفينة مرمرة العام 2010.. وفي العام 2011 سقط الكنز الإستراتيجي في مصر.
المنطق يقول بأن المفترض في وضع كهذا أن تكون إسرائيل في أسوأ أحوالها بعد خسارتها لأهم ثلاثة حلفاء لها في الإقليم، لكن الحقيقة عكس ذلك تماماً ودولة الاحتلال تعيش اليوم أبهى لحظاتها.
إيران وتركيا لم يتغيرا.. لكن من تغير هو «العرب»!
في أقل من عام استبدل «العرب» عدوهم الذي يحتل أراضي ثلاثة دول لهم بعدو وهمي من صناعة خيالهم: إيران لجزء منهم وتركيا للجزء الآخر.
لكن ما لا يعلمه «العرب» أنهم وفي الوقت الذي «ينتحرون» فيه من أجل إيران وتركيا تقوم الدولتان بتطوير علاقاتهم الاقتصادية بشكل متسارع وبعيداً عن خلافهم على أرض سورية.
في نيسان من العام 2014 وقع البلدان على اتفاق لرفع التبادل التجاري السنوي بينهما من 15 بليون دولار إلى 30 بليوناً، واتفقا على خطط لإنشاء عشرات المناطق الاقتصادية الحرة بينهما.
وفي العام 2015 اتفق البلدان على تقليص التعرفة الجمركية بينهما لتشجيع التبادل التجاري.
العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإيران قديمة وسابقة لفوز حزب التنمية والعدالة بالسلطة العام 2002، ولعل أهمهما كان صفقة الغاز بينهما بقيمة 20 بليون دولار العام 1996 والتي تضمنت أيضا بناء خط أنابيب لنقل الغاز من تبريز إلى أنقرة (طوله 1600 ميل وتم الانتهاء من بنائه وتشغيله العام 2001).
حزب أردوغان استكمل تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وداود أوغلو، وزير خارجية تركيا العام 2011-2012 كان يلقي على الأسد نصائحه ويبشر النظام بالعواقب الوخيمة إن لم يستمع إليه، بينما كانت وزارة التجارة التركية توقع اتفاقاً مع إيران بشأن تطوير حقول نفط الأخيرة، وبرلمانها يقر اتفاقية التعاون بين البلدين في المجال الصحي.
ما لا يعلمه «العرب» الذين يقتتلون باسم تركيا وإيران هو أن حجم التبادل التجاري بين البلدين كبير ويكبر في كل سنة، 6.5 في المائة من صادرات تركيا العام 2013 وجهت للأسواق الإيرانية، بينما قامت إيران بتصدير 12 في المائة من صادرتها في نفس العام لتركيا.
حتى الموقف العربي «المعارض» للبرنامج النووي الإيراني لا تتفق معه تركيا التي لم يصدر عنها تصريح واحد بشأنه.
تركيا مثلاً، رفضت الضغوط الغربية التي مورست عليها لقطع علاقاتها الاقتصادية مع إيران بسبب برنامج الأخيرة النووي والتزمت فقط بما قرره مجلس الأمن من عقوبات على إيران.
تركيا لم تقل مثلاً، كما قال بعض العرب، بأن عدواً عاقلاً مثل إسرائيل أقرب إلينا من عدو جاهل مثل إيران، لأن تركيا وإيران هي دول وطنية فهما يميزان بين صراعهما في العالم العربي على مصالحهما وبين علاقاتهما الاقتصادية التي تخدم كليهما.
لا تمانع تركيا من التحالف مع دول الخليج في المسألة السورية طالما أن ذلك يعزز من تبادلها التجاري مع هذه الدول وقد ينتج عنه نظام في سورية هو أقرب لها من النظام الحالي المعتمد على إيران، والأخيرة لا تشعر بأن ذلك سبب كاف للخصومة مع تركيا، ففي النهاية لا تدور الحرب على الأراضي التركية أو الإيرانية، ولكن على الأراضي العربية.
متى يفهم العرب بأن نفوذ إيران وتركيا في المنطقة سببه عدم وجود دول في العالم العربي تدافع عن مصالح شعوبها وتعامل مواطنيها على قدم المساواة بغض النظر عن أصولهم العرقية والمذهبية.
متى يتوقف العرب عن خوض معارك غيرهم على أرضهم.


