غزة /سما/رغم اشتعال الإقليم من حولنا وهدوء جبهة القطاع إلا من حروب الخنق والقهر منزوعة الضوضاء، ورغم انشغال إسرائيل بذاتها؛ إلا ان غزة تحظى باهتمام مركز وكبير، اسرائيليًا ودوليًا بهدف الاحتواء ونزع فتيل الانفجار، بعد ان أصبحت إسرائيل تنظر لغزة على أنها "مشكلة أمنية"، وأقصى مطامحها على جبهة غزة استقطاع أكبر وقت من الهدوء في ظل الاعتراف الصريح والعلني بمحدودية القدرات الاسرائيلية العملياتية العسكرية ضد القطاع، وما تعزز كنتيجة أمنية لذلك من قناعات ألا بديل لحكم حماس في غزة، وفي ظل التوظيف السياسي الاسرائيلي للانقسام والدفع باتجاه فصل غزة عن الضفة.
لقد كان ملفتًا للانتباه تواتر تناول أمنيين إسرائيليين سابقين، وبعضهم على رأس عملهم، ومحللين عسكريين للأوضاع الأمنية في قطاع غزة في ظل صمت السياسيين، سواء بتسليط الضوء على بعض جوانب المواجهات والقدرات القتالية والتكتيكية في الحرب الأخيرة أو الاعدادات القسامية الكبيرة للحرب القادمة أو تأكيد مخرجات محدودية القوة العسكرية في الاضطرار للتسليم بواقع حكم حماس في غزة، حيث يقول قائد المنطقة الجنوبية سامي ترجمان انه "لا بديل لحكم حماس في غزة، وأن الهدوء يشكل مصلحة مشتركة لكل من حماس وإسرائيل"، ويؤكد على فشل إسرائيل في منع تسلح حماس وتطوير قدراتها، أي فشل سياسات الحصار، "نحن لا نستطيع منع حماس من تطوير نفسها عسكريًا، دعونا نعترف بالحقيقة، لم ننجح أبدًا بذلك، وأيضًا لم ننجح في سوريا، ولا حتى أمام حزب الله"، وهو يتشارك في هذه الاستنتاجات مع الكثير من الأمنيين والسياسيين الذين يتجاهلون عمدًا الحلول السياسية، ويستندون الى ان توفير الأمن هو الهدف الواقعي الوحيد الممكن تحقيقه في المستقبل المنظور.
ويقول جنرال الاحتياط غيورا آيلاند، الذي شغل سابقًا منصب رئيس شعبة التخطيط في هيئة أركان الجيش ورئيس مجلس الأمن القومي، ان "مصالح إسرائيل في القطاع تنحصر في المصالح الأمنية فقط، والتي هي توفير الهدوء لأكبر فترة ممكنة"، وهو يعتقد ان السعي لتحقيق مصالح سياسية ليس فقط انها ستفشل؛ بل وستهدد المصالح الأمنية، و بناءً عليه يقترح التعامل مع حماس كأمر واقع طالما ان لديها الاستعداد والقدرة على توفير مصالح إسرائيل الأمنية، ويؤكد ان لحماس ولإسرائيل مصلحة في الهدوء، ويستنتج قائلا "نشأ هنا وضع شاذ وغريب، التقت فيه مصالح إسرائيل وحماس، وعلى الطرف الآخر ائتلاف من عدة جهات منها السلطة الفلسطينية لا يهمهم بشكل حقيقي معاناة السكان في غزة، ولا يهمهم أن يؤدي الإحباط والمعاناة إلى جولة عنف أخرى"، ويستدرك ان "أي عملية ترميم للقطاع ستعزز حكم حماس"، ويتساءل "ما السيء في ذلك؟".
بمقابل تواتر أحاديث وكتابات الأمنيين والإعلاميين عن جبهة غزة التي تنتظر وتستعد ما بين الانفجار أو رفع الحصار؛ فإن السياسيين وأصحاب القرار في إسرائيل يتجاهلون عمدًا الحديث العلني عن غزة، وإن اضطروا لذلك فإن التهديد والوعيد هو الغالب على مفردات خطابهم، وذلك لأسباب سياسية داخلية، وللتهرب من الاعتراف بحقيقة فشل سياسات القوة والإرهاب؛ بيد ان ذلك لا يعني عدم حضور غزة بقوة في الاجتماعات الدورية داخل الغرف المغلقة، ويبدو انه لا يمر يوم دون ان يضطر يعلون لبحث أمر أو اتخاذ قرار له علاقة بغزة.
الانشغال الإسرائيلي الدائم بغزة وتفعيل الكثير من قنوات الاتصال لضمان استمرار التهدئة والبحث في سبل وآليات وآفاق تطويرها تؤكده الكثير من تسريبات الأخبار شبه اليومية، وليس آخرها ما وصفة د. أحمد يوسف بـ "الدردشات"، وعلى خط هذه الدردشات تنشط الكثير من القنوات منها ما هو بمبادرة ذاتية تستند الى ضوء أخضر من حماس (قطر وتركيا) وبعضها يستند الى طلب أو ضوء أخضر إسرائيلي (سويسرا وقنوات أوروبية أخرى)، ويبدو ان كل هؤلاء الوسطاء، بما فيهم إسرائيل، اتفقوا على الهدف النهائي، وهو توفير الهدوء لإسرائيل واحتواء حماس، وأن السبيل الأفضل هو بتمكينها من الحكم ومنحها مقومات النجاح، والنقاش يدور حول الآليات.
ولإسرائيل تخوفات ومحاذير كبيرة فيما يتعلق بالآليات؛ فهي من جهة مقتنعة بضرورة تمكين حكم حماس في غزة للحصول الهدوء ولفصل القطاع وتحييده عن الضفة، لكنها من جهة أخرى تتخوف من ان يؤدي الانفتاح على حكم حماس في غزة الى الانفتاح على حركة حماس سياسيًا، مما يمنحها المشروعية الدولية، وبالتالي تتحول علاقة الأطراف الدولية بحماس من علاقة بفعل ضرورات التعامل مع الأمر الواقع إلى مشروعية العلاقة بحركة حماس باعتبارها حركة سياسية وطنية، وأن تكون إسرائيل هي من يشرع الانفتاح الدولي على حماس، فإسرائيل هنا تريد المستحيل، وهي أشبه بمن يريد ان يلتهم كل رغيف الخبز ويبقيه كاملًا، لذلك فهي تحتاج الى الدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية، وظيفة "شرعنة الآليات"، فالسلطة التي تستبعد من القيام بأي دور حقيقي وفاعل على الأرض في غزة ولا ينظر لها أحد بجدية، يتم إحضارها للشهادة والتوقيع، وهذا ما يفسر الانشغال السويسري والاوروبي بتقديم الحلول والمبادرات المتعلقة بدمج موظفي غزة وتفعيل حكومة الحمد الله في القطاع.
يراهن الأوروبيون والإسرائيليون ان تقديم المساعدة لحكم حماس في القطاع سيؤدي الى تبريد الأجواء، والحصول على الهدوء لفترة طويلة، وأن العكس سينشئ الظروف والأسباب التي أدت الى الحرب الأخيرة، فضلًا عن الحصول على الهدوء فإنهم يراهنون على ان التسهيلات ورفع الحصار ومرور سنوات قادمة من الهدوء سيؤدي الى تغيير داخل توجهات حركة حماس، وهو ما يعزز بالنسبة لهم ما يعتبرونها "مسيرة الاحتواء".