ما الذي ينتظره الفلسطينيون بعد ان مات "أوسلو" رسمياً ودفنت معه عملية التسوية، بتصريحات نتنياهو المتنكرة لحل الدولتين وتعهده باستمرار الاستيطان، والاستسلام الأمريكي في ملف التسوية أمام تعنت نتنياهو؟ ما الذي ينتظره الفلسطينيون بعد نتائج الانتخابات الإسرائيلية؟ هل سيوقفون التنسيق الأمني؟ وهل يجرؤون على سلوك نهج بديل؟ هذه التساؤلات تدور على ألسنة بعض الكتاب الإسرائيليين الذين يتابعون الشأن الفلسطيني، وهم يتساءلون وبحق وهم يرون ان القيادة الفلسطينية لا يبدو أنها مستعدة للتغيير.
وكأن شيئاً لا يتغير من حول القيادة الفلسطينية أو انها تخشى استحقاقات التغيير الكبير الذي يفرضه وصول كل المراهنات التسووية الى حائط مسدود وإلى فشل ذريع، فتواصل الاستيطان وخطاب نتنياهو وحكومته القادمة وقرصنة الأموال واستمرار الانقسام؛ كلها تدفع باتجاه إجراء تغييرات كبيرة وجذرية على السياسات والأدوات والاستراتيجيات الفلسطينية، لكن القيادة الفلسطينية لا زالت تطحن الماء، فهي رغم إقرارها نظرياً بضرورات طرق وأدوات واستراتيجيات جديدة فلا تذهب أبعد من التهديد والتلويح بخياراتها، وإعلان قرارات والتراجع عنها عبر احتوائها بطريقة أو بأخرى، أو إطلاق التصريحات الغاضبة وإلقاء الحمل على العرب كغطاء للتهرب، ومن الواضح أنها تشعر بأنها تجر عنوة لبعض المواقف لاسترضاء واحتواء الغضب الشعبي أو للمناورة التكتيكية، لكنها سرعان ما تتراجع عنه بطريقة وأسلوب لا يظهر انه يبدى احتراماً أو تقديراً لعقول الفلسطينيين أو انه لا يهتم أصلاً بذلك.
تردد القيادة الفلسطينية يتبدى واضحاً على كل الجبهات، ويظهر في سلسلة طويلة من القرارات التي سرعان ما تتبخر ويتم تبريدها أو الالتفاف عليها على جبهة المواجهة مع إسرائيل، وعلى جبهة المصالحة، وأخيراً على جبهة مخيم اليرموك، وما يهمنا هنا ما يجرى على جبهة المواجهة مع الاحتلال.
قرار المجلس المركزي للمنظمة في مارس الماضي بوقف جميع أشكال التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال تم دفنه بتشكيل لجنة لدراسة أبعاده وآثاره وكيفية تطبيقه، وتم ربطة بشكل عجيب بقرصنة الأموال بحيث يصبح لاغياً بمجرد تراجع الاحتلال عن قرصنة الأموال.
سبق ذلك قرار بتفعيل عضوية فلسطين في محكمة الجنايات الدولية، وتشكيل لجنة وطنية كبيرة لمقاضاة الاحتلال على جرائمه، والكثير من الخطب والتصريحات حول استراتيجية الانتفاضة الديبلوماسية والقانونية؛ لكن شيئاً حقيقياً لم يتم، ويبدو ان ثمة يد خفية تعطل الأمر.
وأخيراً كان طلب الرئيس أو قراره أو تهديده باللجوء للتحكيم الدولي فيما يتعلق بقرصنة الاحتلال لأموال المقاصة واقتطاع أكثر من مليار منها لصالح شركة الكهرباء الاسرائيلية وبعض المؤسسات الخدمية الأخرى، وبقي تصريح الرئيس مجرد كلام لم يتحول الى فعل سياسي، وكأن الرئيس مجرد محلل أو مستشار لا يحتكر كل السلطات أو انه لا يعني ما يقول.
لسبب خفي ما، يتم إطالة زمن حملنا ويحملنا أعباءً كبيرة جداً، ويتضح في النهاية انه حمل كاذب تم افشال إخصابه على مدار فترة الحمل الطويلة، ونعود للتساؤل في بداية المقال: ما الذي تنتظره القيادة الفلسطينية؟ ومن الواضح انها تنتظر حدوث واحدة من ثلاثة معجزات.
المعجزة الأولى
وهي ليست بحجم الاعجاز، وربما تتحقق بالقليل من الدعاء ان يوحد صفي هرتسوغ ونتنياهو ويجمع شملهما على برنامج أساس يقبل بإحياء مفاوضات التسوية على أساس حل الدولتين وتجميد البناء في المستوطنات الواقعة شرقي الجدار، وهو أمر ليس من الصعوبة بمكان تحقيقه، لا سيما وأن ثمة مصلحة تجمع بعضاً من ثلاثة أطراف عليه، بعض من "المعسكر الصهيوني" والبعض من "الليكود" وبعض القيادة الفلسطينية، فبالنسبة لبعض القيادة الفلسطينية فإن تشكيل حكومة وحدة اسرائيلية سيعني كسب المزيد من الوقت للاسترخاء والتهرب من استحقاقات المواجهة والعودة بهمة وحيوية لوظيفة "الحياة مفاوضات".
ويبدو ان الأمر بات أكثر واقعية، لا سيما على خلفية اتفاقية إطار إيران النووية التي يمكن ان تشكل مبرراً ومسوغاً من الدرجة الأولى لنكث الوعود للناخبين من كلا المعسكرين بمبرر حالة الطوارئ الوطنية التي تستدعي حكومة قادرة على المواجهة ودرء الأخطار الكبرى، والتي في مركزها ترميم العلاقة مع إدارة البيت الأبيض ومع الاتحاد الأوروبي والتي ستوكل لطاقم هرتسوغ ليفني، ومنذ الآن نلاحظ زخماً في كلا الحزبين لمثل هذه الخطوة، وقد اتهم ليبرمان أمس نتنياهو بأنه يعمل في الخفاء لتشكيل حكومة وحدة.
المعجزة الثانية
المعجزة الثانية هي بقاء الأوضاع على ما هي عليه، ان يهدي الله الاحتلال بأن لا يشرع في مصادرة المزيد من الأراضي، وأن يتوقف عن أعمال القتل والاعتقال ويتخلى عن طبيعته الاحتلالية، وأن يتوقف المستوطنون عن أعمال العربدة والسلب والقتل والحرق وقطع الطرق، وأن يتوقف منسوب الاحتقان والتوتر الفلسطيني على ما هو عليه الآن دون المزيد من التصعيد والشعور بالظلم والاضطهاد والاذلال؛ أي ان تتوقف معادلة العلاقة بين الاحتلال والمحتل عن الفعل والدوران، وحتى تتمكن القيادة من الاستمتاع بالمزيد من الهدوء وتغيب في النسيان، ولا تكون مضطرة رغماً عنها لمجاراة متطلبات واستحقاقات واقع لا قدرة لها عليه، فضلاً عن انها لا تصلح له، لكننا لسنا في عصر المعجزات، وسيف سيرورة الواقع سيصل حتى لمن يتجاهلونه بدفن رؤوسهم في الرمال أو اكتفوا بأضعف الايمان.
المعجزة الثالثة
ربما تنتظر القيادة الفلسطينية معجزة ان يتحرك أوباما والعواصم الغربية لفرض إقامة دولة فلسطينية تحت البند السابع بقرار من مجلس الأمن، وفرض حصار دولي على إسرائيل، وتشكيل محكمة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وذلك تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني ومكافأة له على إيجابيته وسلميته وإيمانه العميق بالإرادة الدولية والخيار التفاوضي، انها استراتيجية ذكية تقوم على تحييد الشعب الفلسطيني وتوريط العالم في الحرب على إسرائيل.
بغض النظر عمن يحكم إسرائيل أو يحكم أمريكا والعواصم الغربية؛ فإنهم جميعا لا يفهمون إلا لغة المصالح والقوة، وهذا ما تؤكده اليوم العلاقة الأمريكية الإيرانية التي تتبلور على مستوى الإقليم العربي وعلى مستوى الملف النووي الإيراني، فوقف الاستيطان وجعل إسرائيل تتبنى حل الدولتين فعلاً لا قولاً لن يكون ممكناً بدون ان يكون الفلسطينيون قادرون على اضطرارهم على ذلك، بغض النظر عن عنفية أو سلمية الأدوات أو المزاوجة بينهما، فالمهم هو الإرادة والفعل الحقيقي غير المرهون بإيماءات الغرب أو المراهنة على ما دون الإرادة الكلية الفلسطينية، كما ان لا العربي ولا الغربي سيكون فلسطينياً أكثر من الفلسطيني نفسه، فإن نصرنا أنفسنا سينصرنا العالم.
إن تجاهل الممارسات الاحتلالية وما ينتج عنها من توتر واحتقان فلسطيني، في ظل عجز تآكل واهتراء الإرادة الرسمية وأدواتها؛ لن يوقف تلك الممارسات، ولن يخفف من وطأتها؛ بل سيزيدها تعقيداً ويحولها طاقة انفجارية هائلة قد لا يحمد عقباها.