الأطوار الستة
الخارطة العسكرية
العام الخامس
سوريا أكبر مقلع بشري في العالم. هكذا يبدو المشهد الميداني مع دخول الثورة عامها الخامس، تدفق يومي لأفواج من الوافدين الغرباء، طلبا لثارات الحسين أو نصرة لأهل الشام، مصير أكثرهم العطب أو الموت والفناء.
من احتجاجات إلى ثورة سلمية إلى مسلحة، ثم التحول لحرب لم تلبث أن جرى تدويلها، وآخر الأمر صدور قرار أممي يتيح التدخل الخارجي تحت البند السابع، جرت ترجمته سريعا بتدخل عسكري في هيئة تحالف دولي باسم الحرب على الإرهاب. وعلى امتداد هذه الأطوار الستة خضعت إستراتيجيات المواجهة لتعديلات جذرية فشلت جميعا في الوصول لنهاية ما.
والمسافة الفاصلة بين بداية الثورة في مارس/آذار 2011 وبين ما آلت له صورتها اليوم شديدة الازدحام بالأحداث بين المآثر والمآسي، شديدة التداخل بالعلاقات بين التآمر والتآخي، والثابت في الصراع -إلى الآن- هو التمسك بالسقف المرتفع للشعارات الأولى للطرفين، ما بين ساع للتحرر الكامل من استبداد النظام على طريقة "الشعب يريد"، وبين متمسك بالسلطة الكاملة على طريقة "أو لا أحد"، والنتيجة فقدان السيادة لصالح الارتهان لقوى خارجية كبرى تستأجر النظام وتقامر بالشعب، وتراهن على الزمن. وغير استمرار الموت اليومي لا تكاد تثبت حقيقة. الأطوار الستة
في البدء، حاول نظام دمشق التصدي لرياح التغيير عبر التواري خلف إستراتيجية الترهيب والترغيب، فسعى لقمع الأصوات في درعا، وأقال حكومة وعين أخرى وتحدث عن حزم الإصلاح وتوعد خصومه متهما إياهم بالتخريب.
فشلت إستراتيجيته هذه في احتواء المستجدات، حتى بلغ المد الثوري خروج مظاهرة حاشدة من أكثر من عشرين ألف مواطن انطلقوا من الغوطة الشرقية نحو ساحات دمشق في 21 أبريل/نيسان 2011، سقط منهم المئات في الزبلطاني بالنار والبارود في مجزرة هي الأولى من نوعها سبقتها بثلاثة أيام مجزرة مشابهة في الحجم في دوار الساعة في حمص، ترافق ذلك مع توقف حزم الإصلاح إعلانا عن انتهاء إستراتيجية الترغيب والترهيب وبداية طور جديد باعتماد "الحل الأمني" كما شاع في وصفه آنذاك.
لم يستمر الطور الثاني سوى أشهر كانت مليئة بالترويع وإجرام ممنهج سعت سياسات النظام لإظهاره دون ستر، فكان من ضحاياه حمزة الخطيب وزينب الحصني وثامر وهاجر وغيرهم.
عجزت هذه الإستراتيجية عن إيقاف التمدد الثوري في المحافظات السورية حتى بلغت حشود الهاتفين بإسقاط النظام في ساحة العاصي في حماة أكثر من نصف مليون مواطن. جاء إعلان فشل الحل الأمني في انسحاب القوى الأمنية والزج بالجيش إلى المواجهة المباشرة بعد أن كان دوره مقتصرا على التطويق دون الاجتياح، فكانت مجزرة هلال رمضان في 31 يوليو/تموز 2011 مع إطلاق حملة عسكرية واسعة في أربعة محاور درعا وحماة وإدلب ودير الزور.
استمر الطور الثالث عاما لم ينجح فيه الحل العسكري باستيعاب الموقف بل زاد في تأزيمه ودفع بالثورة نحو التحول إلى مسلحة في بابا عمرو والزبداني وجسر الشغور، إلى أن تمكنت قوى الثورة من تفخيخ مبنى الأمن القومي في دمشق والإطاحة بأربعة عشر من زعامات النظام في 18 يوليو/تموز 2012 أعقبته حالات انشقاق واسعة وظهور للجيش الحر في الميدان وسط دمشق، وسيطرة المعارضة على العديد من المعابر الحدودية في اليوم التالي، واندلاع معركة تحرير حلب بعد أقل من أسبوع والدخول في طور جديد من المواجهة.
التحول إلى إستراتيجية جديدة كان شديد الوضوح في المنحنى البياني لأعداد الضحايا المتزايدة بشكل كبير بعد تاريخ الحادثة، ليكون شهر أغسطس/آب 2012 الأكثر دموية في مسار الصراع، برغم ثبات أعداد الضحايا في مستويات مرتفعة طيلة شهور الطور الرابع.
استمر الطور الرابع عاما كان مليئا بالدمار في البنى التحتية، استطاعت المعارضة خلاله السيطرة على مساحات واسعة من سوريا فتمايزت ساحات النفوذ وانخفضت مستويات الاعتقال وتطورت أساليب القتل وأسلحته من الذبح إلى القنص إلى القصف المدفعي ثم الصاروخي وصولا إلى الكيميائي.
جاءت مجزرة الكيميائي في غوطة دمشق في تاريخ 21 أغسطس/آب بعد التصعيد العسكري الذي أظهرته كتائب الثورة في إقدامها على معركة الساحل معلنة فشل سياسات النظام في الحد من تقدمهم، وشكلت المجزرة منعطفا جديدا انتقل بالحرب إلى التدويل والدخول في التفاوض العلني على مقدرات البلد وسلاحه، وكان ذلك بداية للطور الخامس من المواجهة.
في الطور الخامس حافظت المواجهة بين النظام وكتائب الثوار على صورتها بالمجمل فيما يشبه التوازن الحرج، بينما برز اسم تنظيم الدولة الإسلامية وازداد نشاطه واحتد خطابه واصطدم مع الإرادة الشعبية فبعثر صفوف الثوار وشتت تركيزهم على جبهتين في آن، إلى أن وقعت مواجهات مسلحة ضده في 2 يناير/كانون الثاني 2014 أدت لتمايز جديد لمساحات النفوذ مما سبب إزاحة في الاهتمام الدولي وإعادة تعريف للصراع وأطرافه وأولوياته، مما يسمح باعتبارها نقطة انعطاف وبداية لطور جديد.
في الطور السادس بدا مشهد المواجهة نشازا بالقياس لما كان عليه في الأطوار السابقة، حيث حافظ النظام على مواقعه مدعوما بمليشيات مذهبية، وانحسرت سيطرة كتائب الثورة إلى مساحة ضيقة في شمال وجنوب البلاد وعلى مقربة من العاصمة، بعدما انتزع تنظيم الدولة منها السيطرة على مساحة جغرافية واسعة شرقي سوريا.
ترافق هذا المشهد مع انزياح كبير في الموقف الدولي من الصراع وارتفاع نبرة الحرب على الإرهاب مع اعتبار نظام الأسد خارج طرفي هذه الحرب. فصدر في يونيو/حزيران 2014 قرار أممي يجيز التدخل تحت البند السابع، وباشر التحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة ضرباته في سوريا في أغسطس/آب 2014.
لا تزال المعادلة المسيطرة على المشهد في الطور السادس سارية حتى الآن، وستستمر إلى حين وقوع مفاجآت جديدة على أبواب العاصمة تدفع بنظام دمشق وحلفائه للتصعيد بالسلاح لاستعادة قواعد الصراع، أو إلى حين دخول النظام في حلف الحرب على الإرهاب لا سيما إن توصلت طهران لتفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية حول الملف النووي، أو إلى حين ظهور بدائل جديدة تزيد في خيارات المجتمع الدولي خارج ثنائية داعش والنظام. بيد أن ظهور البدائل يبدو متعذرا في ظل قصور الأداء السياسي للمعارضة والقوى والثورية.
الخارطة العسكرية
على امتداد الصراع في أطواره الستة، اتسمت سياسات النظام باستخدام المعالجات العنفية، حتى أن مراسيم العفو الرئاسي طالت الإسلاميين الجهاديين والموقوفين الجنائيين ولم تتسع لنشطاء الرأي، في سلوك سلطوي يدفع الوضع الأمني نحو الفوضى بما يسوغ المعالجات العنفية، فكان تحول الحراك الثوري نحو المسلح تحصيل حاصل.
استطاعت قوى الثورة إحراز تقدم واسع في صيف 2012 والاستيلاء على المعبر الحدودي الأول شمالي البلاد، وازدهرت حركة التحرر نهاية 2012 حتى اتصل طريقها من المعبر على الحدود التركية السورية مرورا بغوطتي دمشق وصولا لمدخليها جوبر وداريا.
في مارس/آذار 2013 سجلت الكتائب انتصارا عسكريا ذا مدلول سياسي نوعي لم يتكرر، تمثل في تحرير مركز محافظة لتصبح الرقة أولى المحافظات المحررة.
وفي أبريل/نيسان 2013 كانت ولادة تنظيم الدولة نقطة تحول في الخارطة العسكرية ظهر أثرها لاحقا.
في مايو/أيار 2013 بدأ التدخل العسكري الأول بشكل غير معلن، تمثل في اقتراف مليشيات أجنبية مجزرة بلدتي البيضا وراس النبع بالقرب من بانياس، كإعلان عن تحول سياسات طهران تجاه دعم نظام دمشق، من الإسناد اللوجستي والاستشاري إلى المباشرة بأعمال قتالية بإشراف وتخطيط وتنفيذ عناصر إيرانية أو ذات تبعية إيرانية مباشرة.
في يونيو/حزيران/ 2013 استطاع التدخل الإيراني ومليشيا حزب الله الإيراني صنع نقطة تحول في الخارطة العسكرية عبر كسب معركة القصير وبعدها تل كلخ، مما مهد لصناعة توازن جديد أوقف حركة التحرر وقطع الطرق إلى دمشق وجعل زيادة نفوذ المعارضة رهنا بكسر نقاط الاستعصاء، فزادت حدة المواجهات وارتفعت مستويات العنف وأعداد الضحايا.
في عام 2014 لم تشهد خارطة السيطرة انزياحا معتبرا بل كان من شأن المعارك تكريس حدود السيطرة، وهنا يمكن الإشارة لنقطتين:
- استمرارية معادلة الأرياف والمدن: حيث الأرياف تحت سيطرة الثوار ومراكز المحافظات تحت سيطرة النظام وحلفائه، بل على العكس من العام السابق الذي شهد دخول الرقة في سيطرة الثوار، شهد عام 2014 خروج مركز محافظة حمص من سيطرة الثوار إلى سيطرة الأسد ودخول الرقة تحت سيطرة تنظيم الدولة.
- ظهور معادلة الهدنة في كل من دمشق وريفها وحمص، وهي المعادلة التي تنطلق من واقع التوازن العسكري بين الطرفين.
وبينما حافظت الخارطة العسكرية على صورتها في حدودها العامة، شهدت في العمق تبدلات واسعة جدا داخل مساحات النفوذ لكلا الطرفين لتصبح أربعة أطراف رئيسية، داعش والنظام والفصائل الكردية وفصائل المعارضة. وفي حين تمكن النظام من إحراز تفاهمات ضمنية مع كل من داعش والفصائل الكردية، تفتقد كتائب المعارضة القدرة على التقدم بأداء برغماتي مشابه.
هذه التغيرات المعتبرة الطارئة على المشهد في 2014 أدت إلى إخلال في جانب من التوازن تجلى ميدانيا في صورة تمايز ساحات النفوذ، فتعاظم دور الحلفاء الداعمين للأسد خصوصا بعد بسط سيطرته على مدن القلمون، وظهر تنظيم الدولة جالبا معه ضربات التحالف ومطيحا باستقرار ما تحرر على يد الثوار، وتمايزت صفوف كتائب الثوار ليقع الشمال تحت سيطرة الكتائب الجهادية والجنوب تحت سيطرة الحر، وتستمر التداخلات في الوسط.
ومما زاد في تمايز ساحات النفوذ تنامي قدرة كتائب الثورة على التلاقي ضمن تشكيلات جامعة، مع انخفاض ملحوظ في ظهور كتائب جديدة قياسا بعام سابق، الأمر الذي ساهم في حصر اللاعبين المحليين في مجموعة من التشكيلات الكبيرة المنتشرة في طول البلاد، كما كان لحلب السبق في تسجيل أول عملية اندماج كاملة لجميع الكتائب الفاعلة فيها (عدا جبهة النصرة) تحت اسم "الجبهة الشامية".
العام الخامس
إذا كان العام الأول للثورة هو عام التحول نحو الكفاح المسلح، فالعام الثاني كان ربيع عملية التحرر التي شهدت جمودا في العام الثالث وتمايزا في الرابع، وأما الخامس فهو مفتوح على احتمالات واسعة للغاية تبدأ من إمكانيات المعارضة المسلحة في ريف دمشق والمنطقة الجنوبية وتنتهي عند التوافقات الدولية الغائبة مع غياب أي أفق لتسوية قريبة في ملف شرقي أوكرانيا. ويبقى المؤكد هو أن العام الخامس لن يكون أقل سخونة في المواجهات عن سابقيه، حتى مع سيطرة البرود في التعاطي الدولي مع الملف السوري.
سوريا مدرسة في الواقع، تزود روادها بالمعرفة العملية الكافية لاجتياز أوهام المحبة وقيم العدالة المتحطمة على صخرة لئم الأمم، ولإن كان 2014 عام الحقيقة الدامية فهو بها جميل يبدد وهم الأمل الزائف، وعلى كل حال فالحقيقة لا تخلو من بشير، تنزاح أساريره عن جوهر ثورة عظيمة الأوصاف، عصية على الخذلان، قادرة على الاستمرار رغم السنوات العجاف.
مدير المركز السوري للإحصاء والبحوث