(7/1/2015)
جرت العادة أثناء الانتخابات الاسرائيلية السابقة، وتتكرر الآن، على العمل على التأثير في الانتخابات الإسرائيلية، سواء من قبل القيادة لفلسطينية أو الدول الغربية، بالتأثير لصالح دعم القوى (الحمائمية)، ويتم ذلك عبر أكثر من وسيلة؛ أهمها إجراء القيادة الفلسطينية لعدد من اللقاءات مع الصحافة ورجال الاقتصاد وقيادات إسرائيلية، ويتم فيها عرض وتقديم وشرح الموقف الفلسطيني الأكثر سلمية وحمائمية، والكشف عن مدى السخاء السياسي الذي يمكن للقيادة ان تذهب إليه.
ما جعلنا نستذكر ذلك هو ما تسرب في وسائل الاعلام الاسرائيلية عن نية السلطة للتدخل في الانتخابات الحالية، بالإضافة (للنصائح) الغربية، أوروبية وأمريكية، للسلطة بعدم التصعيد، سواء في صورة الذهاب لمجلس الأمن أو توقيع معاهدات ومواثيق أممية لأن ذلك سيساعد معسكر اليمين برئاسة نتنياهو، وهذا ما قاله بيرس حرفياً للفرنسيين لثنيهم عن تقديم مبادرتهم أو التصويت لصالح المطلب الفلسطيني في مجلس الأمن.
وقد ساد مفهوم فلسطيني، ولا زال، يطالب الفلسطينيين عندما تقرع طبول الانتخابات الاسرائيلية بضبط النفس وعدم التصعيد والاجتهاد في تقديم خطاب سياسي معتدل، حتى لا نؤثر على مزاج الناخب الاسرائيلي الذي سيقرر مزاجه مصيرنا، فكلما كان انطباعه الأخير عنا جيداً فسنكون محظوظين أكثر فسينتصر ضميره على مزاجه وينتخب حزب "العمل" وبنسخته اليوم الحركات الصهيونية (هرتسوغ وليفني)، ويستذكر أصحاب هذا التوجه قصة زجاجة المولوتوف التي ألقيت على باص مستوطنين في أريحا سنة 84 وحرقت ثلاثة منهم ليلة الانتخابات، وكيف أثر ذلك بشكل دراماتيكي على نتيجة الانتخابات لصالح اسحاق شامير، بعد ان كانت الاستطلاعات تمنح الفوز لحزب "العمل" بزعامة بيرس.
إن أصل ذلك المفهوم يستند الى منطلقات سياسية سطحية تقوم في أساسها على رؤية ان ما يسمى بمعسكر السلام ممثلاً بحزب "العمل" ومن يدور في فلكه شريكاً في صناعة السلام القائم على تسوية سياسية تؤدي في نهايتها الى تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، والحقيقة انها رؤية قاصرة تنبهر بمعسول خطابات بيرس وأمثاله، وتأسرها حميمية العلاقات الشخصية مع قادة هذا المعسكر الأكثر ذكاءً ودهاءً وإخلاصاً لأمن إسرائيل ومصالحها، والأكثر فتكاً بمستقبل مشروعنا الوطني، وتجربة التفاوض معهم تؤكد انهم من الدهاء بحيث يقتلونك قبل ان تعرف أو تتمكن من الصراخ، ويقفون في الصفوف الأولى لاستقبال المعزين وينالون جائزة نوبل للسلام، ويتحول قادتهم المجرمين الى صناع سلام تفتح أمامهم عواصم العالم وعواصم العرب، رغم انهم يحرمونك من الصلاة في عاصمتك، ويتهافت عليهم زعماء العالم، بعضهم يكتفي فقط بالتقاط صورة تذكارية مع أبطال "السلام" رغم انهم يقتلعون من أرضك أشجار زيتون السلام، وتحتفل بهم مؤتمرات الاشتراكية الدولية، وأنت تعزل وتنبذ وتتحول الى مجرم ارهابي كاره للسلام لا تتورع عن ذبح حمامتهم البيضاء وقتل حلم شعبك الوطني على مذبح مسجد في القدس، مثلما قال شلومو بن عامي وزير خارجية باراك بعد فشل "كامب ديفيد".
وبلغة السياسة المجردة؛ فإن حزب "العمل" هو الذي احتل القدس وأعلن ضمها في اليوم التالي كعاصمة موحدة لدولتهم، ولا زالت الرؤية السياسية لحزب "العمل" تقوم بشكل أساسي على رؤية وزير خارجيتهم الأشهر ابا ايبان المنبثقة عن روح خطة الجنرال يغئال الون التي بلورها مباشرة بعد احتلال 67، والتي تلخصها مقولته "لكي يتحقق الدمج بين حلم سلامة البلاد من ناحية جيو استراتيجية مع إبقاء الدولة يهودية من ناحية ديمغرافية، يتطلب هذا فرض نهر الأردن حدوداً شرقية للدولة اليهودية"، فقامت استراتيجية ايبان السياسية الأمنية، والتي لا زالت تشكل أساس رؤية حزب "العمل" السياسية، على ضم القدس وحدود غربية قابلة للدفاع وتواجد أمني واستيطاني على الحدود الشرقية يربط بين بيسان شمالاً والنقب جنوباً.
وبمعيار النتائج؛ فبعد سنوات طويلة من التفاوض مع حزب "العمل" وشبيهه "كاديما" فإن الشيء الوحيد الذي حدث هو زيادة ومضاعفة الاستيطان وتهويد القدس وتوقيع اتفاقية "وادي عربة" مع الأردن، وإلغاء الامم المتحدة لتعريف الصهيونية كحركة عنصرية وبناء جدار الفصل وحصار عرفات واجتياح الضفة والحروب على غزة، لا سيما حرب ديسمبر 2008؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى تآكل النضال الوطني الفلسطيني وتحول السلطة الى عبء سياسي وأمني واجتماعي، وانقسام وحالة تيه فلسطينية أساءت للصورة الفلسطينية؛ كل ذلك تم بموافقة وتشجيع واحتضان دولي لإسرائيل، وذلك بفضل غطاء المفاوضات وديبلوماسية السلام الإسرائيلية.
حالنا أفضل في عهد نتنياهو
منذ ان جاء نتنياهو للسلطة عام 2009، فقد تبدل حالنا للأفضل وحال إسرائيل للأسوأ بفضل سياسات اليمين الصدامية على مستوى خطابه السياسي، فعلى المستوى الفلسطيني كان الانجاز الأكبر يكمن في وصول القيادة الفلسطينية الرسمية الى الاقتناع بعبثية خيار المفاوضات المباشرة بضوابطه ومرجعياته ورعايته السابقة، واضطرارها للبحث عن بدائل أخرى لا ترتهن فقط بخيار المفاوضات واحتكار الرعاية الامريكية وانفتاحها على آفاق تدويل الصراع، والإقرار بمبدأ كلفة ثمن الاحتلال الذي يقود الى تبني استراتيجية المواجهة، ولو بحدها الأدنى، اليوم على المستوى الديبلوماسي والقانوني، وربما غداً ستسري روح القائد الشهيد أبو عين، ويترجم صدى مقولة عباس الأخيرة (الحقوق تنتزع انتزاع)، ان الروح الفلسطينية في الضفة تشهد حالة من التغيير والنهوض وتسرى في دمائها حالة من الثورة والغليان لا بد آت بشكل أكثر صحة ووطنية ومعافاة بحيث يأتي بإرادة وحدوية جامعه كلية، لا يستعدي أو يستهدف جهة أخرى ودون أن يثير الشكوك أو مخاوف جهة من جهة أخرى.
إن ما يحدث اليوم بفضل سياسات نتنياهو هو بداية إعادة الاعتبار للنضال الوطني الفلسطيني؛ بداية رد الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية صراع بين شعب لاجئ ومحتل يناضل من أجل عودته وتحرره.
إسقاط المفاوضات المباشرة ووصفها بالعبثية من قبل قادة السلطة، وتبني الوجهة الصدامية مع الاحتلال، حتى لو اقتصر ذلك على البعد القانوني والديبلوماسي؛ يشكل أرضية وحاضنة صحية موضوعية على الأقل لوقف حالة التدهور والصراع الفلسطيني، وربما يهيئ الفرصة لتقارب ولقاء سياسي داخلي.
على المستوى الاسرائيلي
أما على المستوى الاسرائيلي فإن سياسات نتنياهو لم تجلب لإسرائيل إلا المزيد من العزلة والنبذ والانتقاد الدولي ووصول علاقتها بمعظم أصدقائها الى مراحل من التأزم والصدام، إساءة علاقة اسرائيل مع حلفائها ومع المنظومة الدولية وسوء سمعتها دولياً هو الاتهام الأبرز الذي توجهه مختلف الأحزاب الاسرائيلية لنتنياهو؛ هذا ما يقوله العنصري ليبرمان ولبيد وكحلون وليفني وهرتسوغ، وهو ليس مجرد اتهام مفتعل، بل يستند الى حقائق دامغة ورسم بياني احصائي يؤكد حدة تدهور سمعة اسرائيل وعلاقاتها، والترجمة المباشرة لذلك في مسيرة التعاطف الدولي مع الحقوق الفلسطينية، وليس أدل على ذلك من زخم توالي اعترافات البرلمانات الأوروبية بالدولة الفلسطينية، يضاف لذلك ما يعرف بالتوجه الأوروبي لفرض عقوبات على إسرائيل بسبب استمرار التوسع الاستيطاني وصدور أكثر من قرار أوروبي له علاقة بمعاقبة ومقاطعة المستوطنات؛ هذا فضلاً عن الزخم الكبير للمسيرة الشعبية الدولية غير الرسمية لنزع الشرعية عن الاحتلال ومقاطعة مؤسساتها المختلفة.
نتنياهو الذي لا يستطيع ان ينفي التهمة عنه بالإساءة لسمعة اسرائيل ومسؤوليته عن تدهور علاقاتها الدولية، يكتفي فقط بتبرير نتائج سياساته بأنها الثمن الذي تدفعه اسرائيل نتيجة لتمسكها بأهدافها وأمنها ومصالحها، ويلوم العالم ويتهمه بالنفاق وازدواجية المعايير.
وختاماً؛ فطالما بقي حزب "العمل" وأنصار ما يعرف زوراً بمعسكر الليبرالية والسلام على ذات مواقفهم، وهم لا زالوا كذلك وعبر عنهم بالأمس أكثرهم حمائمية ويسروية يوسي بيلين، عندما أدان انضمام ابراهام بورغ الى حزب "الجبهة" برئاسة محمد بركة، واعتبر بيلين ذلك بمثابة طعنة للفكر والحلم الصهيوني، فطالما لم ينضجوا بعد بما يكفي لإدانة الاحتلال باعتباره جريمة حرب والقبول بالحد الأدنى للحقوق الفلسطينية؛ فإننا نجد أنفسنا ندعو حتى ينتصر نتنياهو ويعود لقيادة الحكومة الجديدة، ونتمنى له أن يشكل أحد أكثر الحكومات يمينية بدون أوراق التين ودون ان يغلفها بأغلفة التسويق الجميلة فإن زرعنا يثمر أكثر في موسم نتنياهو.