رداء صلاة وكتاب توراة وبلطة جزار ملطخة بدماء مصلين يهود داخل كنيس يهودي هي الصورة الأهم التي حاولت كل وسائل الإعلام الاسرائيلية بثها للعالم من موقع الهجوم الفدائي على كنيس "هار نوف" في القدس المحتلة، بالإضافة لبعض صور المتعلقات الشخصية التي لها وقع قوي على العين الغربية، وتحمل رسالة واضحة ان المهاجمين نفذوا هجومهم مدفوعين بالكراهية لليهود مستخدمين أبشع أدوات القتل (البلطة والسكين)، في مقاربة قوية لما تقوم به "داعش"، وهي رسالة تنطوي على إشارة قوية ان الهجمات الفلسطينية في مدينة القدس هي حرب دينية ضد اليهود كونهم يهود، لاستثارة التعاطف الدولي وتشوية قضية المقاومة وأخلاقياتها وحرف الأنظار عن قضية الشعب الفلسطيني، وللأسف فإن بعض وسائل الإعلام العربية نقلت تلك الصور لمشاهديها.
نتنياهو في مؤتمرة الصحفي عقب اجتماع الكابنيت كان في قمة إجادة دورة التمثيلي بإظهار الحزن والتأثر والتعاطف، فاجتهد ان يتلوا شفاهة أسماء القتلى الاسرائيليين في هجمات الشهر الأخير، يتلوهم اسماً اسماً، واجتهد ان يظهر ملامح حزينة، وركز متعمداً الحديث من بين هؤلاء على طفلة كانت تبلغ ثلاثة أشهر، وأظن ان أي مستمع لنتنياهو كان سيظن انه أمضى وقتاً كبيراً قبل اللقاء، ليس في دراسة العملية وأبعادها والوسائل الإسرائيلية، بل في حفظ أسماء القتلى جيداً وتمرن أكثر على طريقة ظهوره، وعلى انتقاء المفردات التي سيستخدمها في وصف العملية، وعلى كيفية استغلالها وتوظيفها جيداً في حملة التحريض على الفلسطينيين واتهامهم بالإرهاب من جهة، واستدرار التعاطف الدولي والتفهم للسياسات الاحتلالية من جهة ثانية، والوقاحة من جهة ثالثة في توجيه الانتقادات للمجتمع الدولي الي لا يستنكر العملية بالسرعة والبلاغة المطلوبة بمعايير إسرائيلية.
كان ممثلاً فأخفى انتشاءه ورقصه على الدماء، وكان جاهزاً لوصف ما جرى بكلمة "ذبح" و"مجزرة"، وسارع كما كل أركان حكومته، وكما هي حملة الاتهامات الاسرائيلية منذ فترة، باتهام السلطة ورئيسها وحركة حماس والحركة الاسلامية في الداخل، واتهام كتب التدريس الفلسطينية وأغاني التراث والفن والكاريكاتير وشبكات التواصل الاجتماعي، في محاولة لحرف الأنظار عن المتهم والمحرض الرئيسي الذي هو الاحتلال ومخرجاته (قتل واعتقال وضم وتهويد واستيطان ومصادرة حريات ...الخ)، فنتنياهو، الذي يجتهد دوماً لزرع الأسباب التي تؤدي لنتائج معروفة، جاهز لاستغلالها وتوظيفها باعتبارها أسباب لسياساته، ولاستخدامها كفزاعة لإخافة المجتمع الإسرائيلي، وليثبت بها لهم ان القضية هي أمنية بامتياز، وان أدوات التغلب عليها هي أدوات أمنية، وانه الوحيد الذي يعرف التهديدات المحيطة بهم، وانه الوحيد القادر على التصدي لها إذا ما منحوه التفويض الكامل والوقت الكافي.
فهو حسب زهافا غالؤون رئيسة "ميرتس" جاهز لاتهام الجميع باستثناء اتهام نفسه "لا يحمل نفسه مسؤولية ما يجري من تصعيد ميداني، فهو يشير بأصابع الاتهام الى الجميع الا لنفسه، فبدلاً من كبح جماح بينيت وليبرمان يتهم عباس، وهذا ليس من عمل القيادة، ولكنه طريق للجبن والهروب بدلاً من تحمل المسؤولية عن سياساته".
نتنياهو وكل أحزاب المتطرفين داخل حكومته يسعون جاهدين لتوظيف العملية على ثلاثة مستويات؛ الأول دعائي موجه للمجتمع الدولي، في محاولة للربط بين زيادة ما يسمونه بالإرهاب وبين تزايد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وكان نتنياهو قد أشار للأمر في مؤتمره الصحفي عندما انتقد بشكل غير مباشر قرار البرلمان الاسباني بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، حيث قال "في الصباح ينتقدون، وفي المساء يقدمون هدية تشجيعية".
لم يبالِ نتنياهو ان يستمر على نهج انتقاد عباس والتحريض عليه، على الرغم من ان رئيس "الشاباك" يورام كوهين كان قد قال، ظهر أول أمس، أثناء استعراضه للحالة الأمنية أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست ان "الرئيس الفلسطيني لا يدعم ولا يشجع الإرهاب، لا من فوق الطاولة ولا من تحتها"، وأشار أيضاً الى استمرار التعاون الأمني مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي يقودها عباس، فنتنياهو لا يبالي ان يتناقض مع تقديرات الأجهزة الأمنية التابعة له، فهو يكذب علناً لأنه يحتاج الكذب ليغطي سياساته ويبررها.
أما المستوى الثاني فيتعلق بما يمكن تسميته "الانتقام التعويضي" أو "جباية الثمن"، وفي هذا الإطار تشعر الحكومة الإسرائيلية ان من حقها ان تعوض مستوطنيها بالمزيد من البطش بالفلسطينيين بأشكال وصور مختلفة، بطش جماعي وفردي، ومنح المستوطنين هدايا استيطانية، أحياء ومباني جديدة، والمستوى الثالث من التوظيف يركز على استغلال اللحظة لتمتين الائتلاف الحكومي وترميم تصدعاته عبر أحرج شركائه، وعرض مقترح بتوسيع الائتلاف تحت ذريعة حالة الطوارئ الوطنية.
إن انتفاضة المقدسيين المتواصلة بشكل أو بآخر، والتي تأخذ زخماً تدريجياً، ويعبر عنها أحياناً بعمليات ارتجالية؛ تعبر عن مدى الغضب والرفض الشعبي، وتأتي في سياق الرد التلقائي على جرائم الاحتلال في المدينة المقدسة وعلى المدينة وسكانها ومقدساتها، ولأنها ارتجالية وشعبية تحرج إلى حد كبير الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وتفضح سياسات الاحتلال وتثبت عروبة القدس، فهي تحرج الأجهزة الأمنية التي لا تستطيع ان تتصدي لتهديدات عفوية غير منظمة، كما يقول وزير الشرطة أهرونوفيتش "من الصعب التصدي لظاهرة الأعمال الفردية، فمن الصعب ان تعرف مَن مِن بين مئات الآلاف قرر ان يستل سكيناً أو ان يقود سيارة بهدف تنفيذ هجوم"، وهو الذي يعكس نفسه اليوم على ما بات يعرف بظاهرة "غياب الشعور بالأمن"، وكل الإجراءات الأمنية التي أقرتها الحكومة تركز على تحقيق هدفين؛ الردع، أي ردع الفلسطينيين عن المقاومة، وتوفير الشعور بالأمن للمستوطنين عبر زيادة انتشار أفراد الشرطة في الشوارع، وتسهيل إجراءات اقتناء السلاح وحمله وإعادة تشكيل ما يعرف لديهم بالحرس المدني.
كما يحرج استمرار الانتفاضة أيضاً من اتفق الأسبوع الماضي مع نتنياهو على التهدئة في القدس في ظل استمرار السياسات الاستيطانية في المدينة، وعندما جرى فصل قضية المسجد الأقصى عمّا يجري في مدينة القدس، فالمقدسيون لا ينتفضون في وجه الاحتلال فقط لأن المسجد الأقصى يتعرض لما يتعرض إليه على أهميته الكبيرة، بل ولأنهم يدافعون عن مدينتهم ووجودهم وهويتهم، ويسعون على الأقل لوقف التمدد الاستيطاني والتغول الاحتلالي، ومهما حاولت آلة الدعاية الصهيونية تشوية النضال الفلسطيني ولفت الانظار عن قضية الاحتلال واخفائها؛ فإن صورة رداء الصلاة وكتاب التوراة الملطخين بالدماء لن تنتصر أبداً على صورة الاحتلال الذي يغرس أنيابه في جسد ملايين الفلسطينيين.