يتذمر اليوم الجميع من قطر. بدء بدور الامارة الصغيرة والغنية في الخليج الفارسي في تشجيع الارهاب الاسلامي في سوريا، في العراق وفي غزة، وحتى الاتهامات بشراء المونديال الذي يفترض ان تستضيفه اذا لم تطرأ انعطافة دراماتيكية، في 2022. ولكن في الغرب يفضلون تجاهل الحضور الكثيف لقطر في اقتصاد الدول الرائدة في العالم، المليارات التي استثمرتها كي تسيطر على صناعات اساسية، مبان عامة، فنادق فاخرة، فرق كرة قدم اسطورية، ووسائل اعلام مركزية.
العم من قطر – الفأر الصغير الذي زأر الى جانب المنافس السني الوهابي، الجار شديد القوة السعودية – كان دوما هناك مع محفظة مفتوحة عند الحاجة. ولما كان لا يدور الحديث عن هيأة خيرية، فمع المساعدة تأتي القوة. صحفيان، هما المحققان الفرنسيان فانيسا ريتينيه وبيير بان، اللذان اصدرا هذه الايام كتابا سميكا بعنوان "فرنسا تحت التأثير" ويعنى بعلاقات قطر مع فرنسا، لا يترددان في القول انه من 2007 اصبحت الجمهورية الفرنسية المفتخرة مستعبدة للامارة الصغيرة وزعمائها، اقتصاديا ولكن ايضا استراتيجيا، في مجال السياسة الداخلية، العلاقات الخارجية والامن القومي. لقد أثرت قطر على اتخاذ القرارات لدى الرئيس نيكولا ساركوزي وخليفته فرانسوا اولند الذي حل محله قبل اكثر من سنتين، يجد صعوبة في محاولاته التحرر من الارث الثقيل. ولم تتردد النخب الفرنسية في العمل ضد المصلحة القومية بسبب تعلقها بالمال القطري، كما يدعي الكاتبان ومن أجل السماح لقطر ولها نفسها الكسب – لم تخشى الفساد.
فرنسا هي مع ذلك مجرد الهدف الثاني في العالم من حيث حجم الاستثمارات القطرية، بعد بريطانيا. فالاستثمار الرسمي لقطر في فرنسا يقدر بـ 25 مليار دولار، و 5 مليار دولار آخر من الاستثمارات الخاصة. ولكن العلاقة الوثيقة بين المال والسلطة في فرنسا، واكثر من ذلك الطابع الحميم الذي ارتدته علاقات القيادة الفرنسية مع حكام قطر، في اطار التقاليد "الرومانسية" لعلاقات السياسة الفرنسية مع الشرق، أدت بنفوذ "الشراكة" على فرنسا ان يكون اكبر باضعاف. وقد وجدت هذه الحميمية تعابيرها مثلا في الكشف الذي يقتبسه الكتاب عن مصدرين كبيرين، جزائري ولبناني، على لسان الرجل الذي كان الحاكم كلي القدرة لقطر، الشيخ حمد بن خليفة ال ثاني. ففي العام 2008 طلق الرئيس ساركوزي زوجته سيسيليا وتزوج بعد وقت قصير المغنية والعارضة السابقة كارلا باروني. وقد طلبت سيسيليا من ساركوزي 3 مليون يورو. "الطلاق كلفه ثمنا باهظا"، لاحظ المتحدث مع الشيخ. فاجاب حاكم قطر: "كلفه ثمنا باهظا. انا الذي دفعت المال". وهكذا بدأ "شهر عسل" فرنسا وقطر بتمويل طلاق الرئيس الفرنسي من اجل السماح له بشهر عسل خاص جديد.
"حكم ذاتي اسلامي"
العلاقات بين فرنسا وبين حمد بن خليفة، الذي استولى على الحكم بعد أن اطاح بأبيه، توثقت في عهد حرب الخليج الثانية حين كان موقف فرنسا ضد العملية بقيادة الولايات المتحدة منح قطر امكانية ان تنفض عن نفسها صورتها كجريرة للولايات المتحدة. وفي اطار المنافسة مع الجار السعودي، بدأت قطر تراهن على فرنسا. وسر الرئيس جاك شيراك بالفرصة لاصلاح "اخطاء الماضي" وصداقته مع الوالد المنحى للحاكم. فاشترت قطر دبابات فرنسية، ولكنها ابدت اهتماما أكبر بـ "التعاون" على الارض الفرنسية. أما فرنسا من جهتها فكانت مستعدة لان تغض النظر عن عدة ظواهر عرضتها للخطر في نهاية المطاف؛ وأحدها يسمى "الجزيرة". شبكة التلفزيون العالمية اظهرت ظاهرا حداثة وانفتاحا وفتحت بثها مثلا لرجالات اسرائيليين، ولكن محافل امن رفيعة المستوى تشير اليوم الى استخدامها كقناة اتصال بين محافل الارهاب الاسلامي (اولهم بن لادن) والعالم الواسع، وفي اثناء الربيع العربي قامت بعلاقات عامة للجهات الاسلامية التي سيطرت على الثورات.
أما الظاهرة الثانية فتسمى يوسف القرضاوي. الداعية الاسلامي المتطرف الكبير، من مواليد مصر والمقرب من العائلة المالكة والمرجعية الروحية العليا للاخوان المسلمين، كان دوما الرجل الذي سمح له بان يمثل بالضبط النقيض مما بثته في العالم العائلة المالكة. فهو الاداة السياسية والعامل الموازٍ الذي يتوجه الى الدوائر المتطرفة والى الايديولوجيا الظلماء. في بثه في "الجزيرة" يفسر الاسلام بطريقته، يشجع قمع النساء ويسمح بقتل اللوطيين. لاساميته هي من اللاساميات الشهيرة. وهو يرفض ادارة حوار مع اليهود، خلافا للاديان الاخيرة، "الا بالسيف والبندقية". وبمنصبه كرئيس المجلس الاوروبي للبحوث الاسلامية والفتاوى، فانه يسمح بالعمليات الانتحارية بصفتها اعمال شهادة مسموح بها في القرآن. اما القاصرون والقاصرات ممن يهربون اليوم من عائلاتهم كي يتطوعوا في صفوف منظمات الارهاب في سوريا، فانهم يفعلون ذلك استنادا الى فتاوى القرضاوي الذي يرفع مسؤولية الاباء والامهات عن ابنائهم. وفوق كل شيء فانه يقف على رأس شبكة المساعدات "الانسانية" التقوى، التي شكلت عمليا غطاء لتحويل الاموال لتمويل منظمات الارهاب في افغانستان، العراق، سوريا وكذا حماس في غزة.
لم تتردد فرنسا في السماح للقرضاوي والدعاة والمثقفين المتطرفين الاخرين في الظهور امام مسلمي فرنسا، مثلا في الحدث السنوي الكبير لانعاقد مجلس الجاليات الاسلامية. وقد الغى هذا الاذن الرئيس ساركوزي في 2012 فقط، بعد المذبحة التي ارتكبها المخرب محمد مراح بحق اطفال المدرسة اليهودية في تولوز. وشارك زعماء مسلمون فرنسيون في شبكة التقوى وتمتعوا بأموال الصندوق ايضا.
لم تخفي قطر رغبتها في الحلول محل السعودية كممولة الاسلام في فرنسا. حتى التسعينيات كان السعوديون هم المستثمرون الاساسيون في بناء المساجد، بما في ذلك المسجد الكبير في باريس، وتمويل المؤسسات الجماهيرية. وكانت فرنسا وساركوزي مستعدان لمنح قطر المكانة التي ارادتها، لدرجة تسليم الامتياز لقطر لبناء مصانع واعمال تجارية في الضواحي المتوترة قرب باريس، حيث خاض المسلمون انتفاضة واقامة حكم ذاتي اقتصادي اسلامي هناك.
ولكن ليست فرنسا وحدها هي التي اسرها سحر قطر. اسرائيل هي الاخرى اجتازت سهر عسل طويل مع الامارة الساحرة. وعلى حد قول ريتينيه وبان، حتى على حساب حلفاء تقليديين في العالم العربي. وهما يقتبسان على لسان الامير حمد بن خليفة، ومرة اخرى على مسمع المحادث اللبناني بان "ذات يوم جاء الاسرائيليون الى هنا واسمعوني شريطا سجل في فندق في جنيف. سمعنا فيه قادة الاجهزة المصرية والسعودية يتآمرون ضدي. وأنا يحميني اللوبي الامريكي – الاسرائيلي".
اليوم، حسب كل المؤشرات، تحسنت العلاقات مع السعودية مرة اخرى. فقد رفضت اسرائيل رفضا باتا اقتراح الوساطة القطرية لوقف النار في غزة، والتي نقلت، بالمناسبة، من خلال فرنسا، وفضلت المبادرة المصرية، ووجدت قطر بالمناسبة صعوبة بشكل عام في توفير البضاعة لدى حماس. هكذا كان في محاولات تحرير جلعاد شاليط، رغم وعودها للرئيس ساركوزي. اما الوساطة التي نجحت فكانت في نهاية المطاف هي الالمانية والمصرية. ومع ذلك، فقد اكثرت قطر من اللعب بورقة وجود علاقات طيبة مع كل اللاعبين وعرضت نفسها بانها "صاحبة المفتاح" لحل المشاكل.
لقد اكتشفت الاجهزة الامنية الامريكية بان رجال القاعدة الكبار اقاموا في قطر، ولكن ساركوزي واجهزته فضلوا جعل قطر محورا مركزيا في العلاقات مع العالم العربي. هكذا استأنف وفقا لمشورة قطر بشكل دراماتيكي العلاقات مع سوريا، التي قطعها عمليا سلفه شيراك بعد قتل صديقه، رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. فقد غضب شيراك، ولكن الرئيس السوري بشار الاسد دعي الى قمة "اتحاد البحر المتوسط"، الذي عقده ساركوزي في باريس في تموز 2008، الى جانب رئيس الوزراء في حينه ايهود اولمرت. اما اليوم، بالمقابل، فان ساركوزي هو مؤيد كبير للتدخل العسكري في سوريا ضد الاسد.
في فرنسا نفسها، تبدي قطر شهية بلا جماح في مجال العقارات. فقد سن الحكم الفرنسي تشريعا خاصا ضد الضريبة المزدوجة. ويمكن للقطريين ان يدفعوا الضريبة في بلادهم حيث لا توجد ضريبة قيمة مضافة. وتسقط الفنادق الكبرى في باريس وفي كان في الريفييرا الفرنسية ومبان تاريخية بقيمة نحو 5 مليار يورو الواحد تلو الاخر في يد المال القطري. احد المباني الاكثر رمزية في باريس – فندق لامبرت التاريخي في اييل سان لوي – بيع مقابل 80 مليون يورو لعبدالله آل ثاني، احد اشقاء الامير من واحد ليس سوى البارون غي دي روتشيلد. ويدور الحديث عن موقع تاريخي محمي، ولكن الرئيس القطري اضاف له بحرية مصاعد وموقف سيارات. صفقة رمزية اكثر بكثير هي مركز المؤتمرات السابق لوزارة الخارجية الفرنسية، على مسافة غير بعيدة من بوابة النصر، والذي تحول الى الفندق الاغلى في باريس بملكية قطرية، بالطبع.
بعد العقارات يأتي دور الصناعة. فقط اشترت قطر نسبا كبيرة من شركات تمثيلية واستراتيجية فرنسية مثل فولييه وتوتال، فيوندي في مجال الطاقة. وحسب الامثلة في الكتاب، لقطر تأثير حاسم على اعمال هذه الشركات التي تشكل ذراعا مركزيا للاستراتيجية والامن القومي.
كما فتحت قطر قناة رياضية تلفزيونية بي – إن – سبورت التي تصفي ببطء ولكن بثبات المنافسة المحلية كنال بلوس. وأخيرا تسللت قطر ايضا الى الرياضة نفسها، مع شراء فريق باري سان جيرمان في 2011 مقابل 70 مليون يورو.
محادث خليفة ساركوزي، فرانسوا اولند، هو الامير الجديد تميم بن حمد آل ثاني الذي يوجد بقدر كبير في فترة ترويج في الساحة الدولية (انجازه الاساس قبل أن يرث العرش كان شراء باري سان جيرمان). كما اضطر ايضا الى مواجهة الاتهامات بالعلاقات الوثيقة جدا مع الارهاب الاسلامي التي كانت جزءا من استراتيجية أبيه.
اولند نفسه حذر قطر من أن يسقط "النشاط الانساني" في سوريا وفي مالي "في أيدي الاسلاميين". ولكنه يجد صعوبة، ولا يجتهد دوما، للنجاة من التأثير القطري. احدى المشاكل العاجلة كانت خطة السيطرة من قطر على الضواحي الحساسة في باريس. واتفق بداية على استثمار قطري في صندوق بمبلغ 500 مليون يورو. ولكن بعد الاحتجاج اتفق على شراكة بمبلغ 200 مليون يورو من كل جانب. وفي هذه الاثناء لم يتحرك شيء، ولكن الضواحي الاسلامية لباريس لا تزال في فرنسا. وفي الطرفين هناك من يأسف على ذلك.


