جاءت الاحتفالات بتسلم عبد الفتاح السيسي لرئاسة مصر صاخبة ومبالغ فيها، وكأنها تسعى إلى استعادة هيبة فُقِدَت، أو فَرْضِ شرعية جديدة لمؤسسة الرئاسة بعد صدمة انخفاض نسب التصويت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة؛ ومن الأشياء التي كشفتها التغطية الإعلامية المستعرة للانتخابات أن المنافسة لم تكن في الحقيقة بين السيسي وحمدين صباحي؛ ولكن بالأحرى بين السيسي ومرسي.
وبعيدًا عن الاحتفاليات والمظاهر المصنعة، فإن السيسي يحتاج إلى تحقيق إنجاز اقتصادي واستقرار سياسي وأمني كي يتحقق له تثبيت أركان حكمه، وإعادة التوازن إلى علاقاته الخارجية، وهو ما لن يتحقَّق دون التعامل بجدية مع ملف حقوق الإنسان، وتحقيق مصالحة وطنية شاملة غير مشروطة.
جاءت الاحتفالات بتسلم عبد الفتاح السيسي لرئاسة مصر صاخبة ومبالغ فيها، وكأنها تسعى إلى استعادة هيبة فُقِدَت، أو فَرْضِ شرعية جديدة لمؤسسة الرئاسة بعد صدمة انخفاض نسب التصويت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة؛ ومن الأشياء التي كشفتها التغطية الإعلامية المستعرة للانتخابات أن المنافسة لم تكن في الحقيقة بين السيسي وحمدين صباحي؛ ولكن بالأحرى بين السيسي ومرسي؛ تجلَّى هذا في الاهتمام المبالغ فيه بنسبة المشاركة؛ لتكون أكبر من نسب المشاركة في الانتخابات التي فاز فيها مرسي، والتركيز على أن النتيجة النهائية أعلى مما حصل عليه مرسي؛ لتُكسب النظام اعترافًا وشرعية دولية وَجَدَ صعوبة في الحصول عليها منذ وقوع الانقلاب، والإصرار على استخدام مصطلح "تنصيب"، ودعوة عدد كبير من الرؤساء والملوك لحفل "التنصيب"، وكأن ملكًا جديدًا يُتَوَّج على عرش مصر. وبعيدًا عن الاحتفاليات والمظاهر المصنعة، فإن السيسي يحتاج إلى تحقيق إنجاز اقتصادي واستقرار سياسي وأمني كي يتحقق له تثبيت أركان حكمه، وإعادة التوازن إلى علاقاته الخارجية، وهو ما لن يتحقَّق دون التعامل بجدية مع ملف حقوق الإنسان، وتحقيق مصالحة وطنية شاملة غير مشروطة.
ملف حقوق الإنسان
بفرض التسليم برواية النظام أن هناك مواجهة بين الدولة والإرهابيين، وهو ما يُحَتِّم ويُبَرِّر انتهاج وسائل عنيفة قد تُؤَدِّي إلى انتهاكات مؤقتة لحقوق الإنسان، فإن حجم ضحايا هذه السياسة القمعية غير المسبوقة ضخم لدرجة لا يمكن معها تحقيق استقرار سياسي أو تقدُّم اقتصادي؛ فمنذ يوليو/تموز 2013 تجاوز عدد القتلى 3000 قتيل، والمصابين 15000 مصاب، والمعتقلين والموجه إليهم تُهمًا إلى أكثر من 40.000 حالة، وهي معدَّلات غير مسبوقة في التاريخ المصري، وتتجاوز معدلات ضحايا حكم بنوشيه قائد الانقلاب العسكري في شيلي (1973-1990)، ويفاقم من هذا الوضع تسييس الجهاز القضائي وشرعنته للأحكام غير المسبوقة في تجاوزها للأعراف القضائية الدولية، وخسارته ثقة المصريين في القضاء كمؤسسة تصون الحقوق، وتضبط ميزان العدالة، وتحول دون استخدام القوة في مجال التنازع بين المواطنين أو ضد الدولة.
لم يتناول عبد الفتاح السيسي انتهاكات الشرطة والجيش في كل خطاباته في فترة الترشح، ولا حتى في خطابه إلى الشعب بعد إعلان النتيجة، أو في حفل "التنصيب"؛ هذا يُشير إلى إنكار كبير لواقع المشكلة، وعدم رغبة في تحمُّل المسؤولية تجاهها؛ ومن المؤسف أن حالة السرِّيَّة المفروضة على الشرطة والجيش لا تسمح بمعرفة ما إذا كانت هناك مؤشرات على تململ هاتين المؤسستين من الأساليب القمعية التي اتُّخذت، وما تسببه من إحداث فجوة بين تلك المؤسسات وقطاعات من الشعب؛ لكن من المتوقع أن يُؤَدِّيَ استمرار القمع إلى ضغوط على الشرطة والجيش؛ تتمثَّل في استمرار حالة الاستنفار المؤسسي، وتجاوزه إلى الاستنفار الشخصي لِمَا يحدث للمشاركين في القمع (ضباط وجنود) من ضغوط اجتماعية تصل إلى تهديدات تمتدُّ إلى ممتلكاتهم وأرواحهم وأسرهم، كما أن الاستنفار العامَّ المستمرَّ يستنزف طاقة الأجهزة القمعية، ويضغط على نفسياتهم إلى درجة قد لا تُفلح معها زيادة المزايا المادية، أو غسيل الأدمغة بما يُعرف بالتوجيه المعنوي.
سيواجه السيسي معضلة حقيقية في استمراره في الخيار القمعي الأمني؛ فالنظام لا يستطيع الاستمرار في القمع، وفي الوقت ذاته لا يستطيع التوقُّف عنه، وبدلاً من أن يقضي القمع على التظاهرات فإنه يُؤَجِّجها ويصبُّ نار الغضب على ضحاياها وأهاليهم والمقرَّبين منهم؛ مما يُؤَدِّي إلى تزايد تلك المظاهرات، والرغبة في التخلُّص من هذا النظام القمعي برمته؛ في الوقت ذاته تتناقص قدرة النظام على السيطرة على عدد ضخم من المعتقلين؛ على الرغم من التوسع في بناء السجون، واستخدام مقرَّات الأمن المركزي كمراكز اعتقال مؤقتة، ومن المتوقَّع أن يستمرَّ النظام في استخدام المعتقلين كورقة ضغط على الإخوان والقوى الثورية، وكورقة للتفاوض مستقبلاً، ووسيلة لإنهاك مواردهم المالية عبر المبالغة في قيمة الكفالات المطلوبة للإفراج المؤقت عنهم، كذلك سيستمرُّ في التحايل على الإفراج الفوري والنهائي عن المعتقلين بإفراجات مؤقتة مع الاحتفاظ بالحق في إعادة الاعتقال في أي وقت؛ تُتيح هذه السياسة تجنُّب الإفراج غير المشروط عن عناصر يعتبرها مثيرة للقلاقل؛ حيث من المتوقَّع أن ينخرط المفرج عنهم سريعًا في حملات إعلامية لفضح أكاذيب النظام، ووحشية التعذيب الذي تعرَّضوا له، وتنظيم حملات ميدانية للمطالبة بالعدالة لهم، ولمن بقي خلفهم في السجون، وهذا ما يسعى أي نظام إلى تجنُّبه خارج إطار مصالحة وطنية شاملة تضمن الحصانة، أو العفو العام لمرتكبي الانتهاكات.
ملف المصالحة الوطنية
على الرغم من الاستقطاب المجتمعي الحادِّ وغير المسبوق في تاريخ مصر الحديث، الذي يُهَدِّد أي محاولات لفرض استقرار سياسي أو تعافٍ اقتصادي، فإن عبد الفتاح السيسي ما زال يتجنَّب الحديث الصريح عن المصالحة، بل ويغضب لمجرَّد ذكرها. في المقابل يمكن استشفاف تصوُّر ضمني لمصالحة شكلية مع الإخوان والقوى الثورية من خلال خطاباته والمحيطين به؛ تتمثَّل في القبول بالأمر الواقع، والانخراط في النظام القائم وفق المساحة المحددة سلفًا لكل فصيل، مع إمكانية تسوية قضايا العدالة للشهداء بتسوياتٍ مالية، دون التطرُّق لمحاسبة المسؤولين عن القتل؛ ناهيك عن ضمان عدم التكرار في المستقبل.
كان تطرُّق السيسي للمصالحة في حواراته الإعلامية بعد الترشُّح سلبيًّا؛ حيث أكد أن "لا مكان للإخوان في عهده"، وأنه "سيقضي على الإخوان تمامًا"، إلا أنه وارب باب المصالحة المشروطة بالحديث عن "كل مَنْ لم يُدِنْه القانون له مكان في المستقبل". هذا الخطاب متَّسق تمامًا مع تصوُّر النظام للانتصار في المعركة ضد الثورة؛ فبفرض الأمر الواقع، حتى لو استمرَّ القمع لفترة ما، وبغضِّ النظر عن نتائجه، يُظَنُّ أن الجميع سيخضع للسلطة الجديدة، وينصاع لمطالبها؛ على الرغم من هذا كله?فقد تساعد تداعيات انخفاض المشاركة في الانتخابات على دفع النظام لتقديم تنازلات؛ تتمثَّل في تخفيف القبضة الأمنية، ومحاولة احتواء الشباب؛ لعزل الإخوان ودفعهم للقبول بخريطة الطريق، أو الانجرار للعنف؛ لكن هذا مستبعد للأسباب التالية:
أي حديث عن المصالحة يتوقَّف على تحديد المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الفترة الماضية، وهو ما يعني إدانة النظام الحالي والمطالبة بمحاسبته، وهو ما يتجنَّبه النظام بكل قوَّة؛ حيث يعني ذلك سقوطه المدوِّي؛ أيُّ حديث عن المصالحة سيتضمَّن ضمانات عدم تكرار الانتهاكات السابقة، وهو ما يعني فتح باب الحديث عن إصلاح الأجهزة الأمنية بما فيها الشرطة العسكرية، وتدخُّل القوات المسلحة في قمع المتظاهرين بالقوَّة المميتة؛ وهو ما سيمتدُّ إلى فتح باب الحديث عن سيطرة المدنيين على الأجهزة الأمنية، والمحاسبة على ما ارتُكب من جرائم؛ هذه القضايا تعني خسارة الدولة العميقة لكل مزاياها؛ بل وتعرُّضها للتعرية التي تقود إلى تفكُّكها السريع. أخيرًا؛ أي حديث عن المصالحة يعني إعادة صياغة النظام السياسي باتجاه نظام أكثر استيعابًا وانفتاحًا للطبقات المهمَّشة جيليًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، وهو ما يعني فقدان الطبقة السياسية الحاكمة بكل تحالفاتها الاجتماعية والاقتصادية لمزاياها الحصرية.
لكل هذه الأسباب وغيرها ما زال السيسي يتجاهل الاستقطاب الحالي؛ بل يُصِرُّ على أنه أنقذ مصر من الحرب الأهلية، "وإعادة مصر إلى أهلها" بتفويض من الشعب؛ الذي قد لن تُتاح له فرصة أخرى لمراجعة هذا التفويض أو سحبه، إلا أنه لن يستطيع الاستمرار في تجاهل المصالحة لفترة طويلة؛ حيث لن يُعفيه تدهور الحالة الاقتصادية والأمنية من السعي إلى إيجاد نوع من الحلِّ السياسي، حتى لو شكليًّا.
ملف الاقتصاد
مضى أحد عشر شهرًا على الانقلاب العسكري وما زالت البطالة عند مستوى 13? من السكان، وأكثر من ضعف الرقم للشباب، وما زال التضخُّم عند 13.2?، وما زال النمو منخفضًا بين 2 إلى 3?، والاحتياطي النقدي لا يكفي لتغطية 3 أشهر من الواردات؛ بينما لا تُوجد أي مؤشرات على تعافي قطاع السياحة، أو استئناف المستثمرين لأنشطتهم وضخِّ أموال جديدة إلى السوق. تحاول الحكومة إحداث تغييرات هيكلية في بنية الإنفاق بتخفيض دعم الطاقة، ومحاولة فرض ضرائب جديدة على عوائد رأس المال، وفرض ضريبة القيمة المضافة لزيادة الإيرادات؛ لا تبدو الحكومة واثقة من خطواتها في تطبيق الإجراءات الجديدة، حتى بعد فوز السيسي؛ حيث تم إيقاف تطبيق الأسعار الجديدة للطاقة من قِبَل جهات سيادية؛ منعًا لغضب شعبي قد يُعَقِّد الموقف، وتراجعت الحكومة عن تطبيق ضريبة البورصة بعد تذمُّر المستثمرين، وهبوط مؤشر البورصة نتيجة لموجة البيع الجماعي للمستثمرين؛ بهذا تكون كلُّ خطط الحكومة لمعالجة الوضع الاقتصادي المتردِّي قد تَوَقَّفت إلى حينٍ على أحسن تقدير.
تُشير سيرة حكومتي الببلاوي وإبراهيم محلب إلى عدم توقُّع حدوث مفاجآت في السياسات الاقتصادية المتبعة في الفترة المقبلة، التي لن تختلف جذريًّا عن سياسات مبارك؛ التي أنتجت الثورة بعد إفلاسها وفسادها، ما يحتاجه السيسي كي ينجح اقتصاديًّا هو اتِّباع عكس سياسات مبارك الاقتصادية؛ فهل ينجح في ذلك؟
يحتاج السيسي من أجل انتشال الاقتصاد المصري من وهدة الركود والبطالة وانخفاض السيولة إلى إصلاحات اقتصادية جذرية لهيكل الإنفاق (الدعم، الأجور، إلخ) والإيرادات، تتزامن مع إصلاحات إدارية وقانونية واسعة لمحاربة الفساد وسوء الإدارة، قيام السيسي بأي إصلاحات جذرية تتضمَّن معاناة أكثر للطبقة الوسطي والدنيا، وفي الوقت نفسه تحابي رجال الأعمال من منطلق تشجيعهم وتحفيزهم على الاستثمار، هذه السياسة قد تُهَدِّد بتحوُّل هذه الفئات من حزب الكنبة إلى المعسكر الثوري، وفي المقابل فإن أي سياسات جذرية تصل إلى رجال الأعمال من قبيل رفع دعم الطاقة، أو فرض مزيد من الضرائب قد يزيد من مخاطر عدم دعمهم النظام؛ بل وهز قواعده عبر أبواقهم الإعلامية، وهو ما يعني مزيدًا من الخلافات داخل معسكر الانقلاب.
يُراهن بعضهم على الدعم الخليجي السخي لانتشال الاقتصاد من عثرته؛ لكن بالنظر إلى الاحتياجات المالية للدولة، التي يُقَدِّرها صندوق النقد الدولي بحوالي 40? من الموازنة العامة، يصعب على أي دولة -مهما كان حجمها- أن تملأ الفجوة المالية المصرية في عام واحد، ناهيك عن عدَّة أعوام مقبلة؛ من المفيد -أيضًا- ملاحظة أن الدعم الخليجي يأتي في صور مختلفة؛ منها ما هو نقدي لحماية الاحتياطيات النقدية، ومنها ما هو عيني في صورة مواد بترولية، ومنها ما هو دون مقابل أو بمقابل (كهبات أو قروض)؛ في ظل التكتُّم الشديد حول تفاصيل الدعم الخليجي وتكاليفه الحقيقية على الاقتصاد المصري لا يمكن تقييم دوره، وإن كان في النهاية يقوم بدورٍ مُسَكِّن ضدَّ الانهيار أكثر منه كعامل للازدهار.
يحتاج السيسي من أجل أن ينجح إلى توفير أكثر من 3 ملايين وظيفة لامتصاص البطالة الحالية، و800 ألف وظيفة سنويًّا لاستيعاب المنضمِّين الجدد إلى سوق العمل، وهذا يتطلَّب معدَّل نمو أكثر من 6? إلى 7? وهو ما يبدو صعب التحقيق في ظلِّ انخفاض السياحة والاستثمارات. أمر آخر جدير بالملاحظة؛ وهو غياب الرؤية الاقتصادية لصالح التركيز على الأمن القومي واستعادة الاستقرار؛ فبعد إعلان نتيجة الانتخابات قامت الإمارات العربية بالتعاقد مع بنك أميركي وشركة استثمار فرنسية لبحث الوضع الاقتصادي المصري، وتقديم تصور لإصلاحه؛ هذا يعكس أولويات السيسي الأمنية مقابل الاهتمام الخليجي بالاقتصاد كضمانة للنجاح.
التدخُّل الخليجي الواضح في الاقتصاد المصري لن يكون دون مقابل، ففور إعلان السيسي عن ترشحه؛ ركز الإعلام على قيام شركة إماراتية بتنفيذ مشروعات إسكان للشباب مقابل منح الدولة لها الأرض مجانًا؛ هذا النمط من المشروعات سينطوي على شبهات فساد تُذَكِّر بعصر مبارك؛ والنتيجة العملية لهذا الفساد ستُتَرْجم إلى وحدات سكنية بأثمان فوق مقدرة الفئة المستهدفة؛ نتيجة لتضخُّم تكاليف تنفيذ المشروع؛ مما يُؤَدِّي إلى تفاقم مشكله السكن، وتزايد غضب الجماهير من الفساد المحصَّن والمستتر؛ وإلى جانب الشركات الخليجية سيستحوذ الجيش المصري ورجال الأعمال النافذين على جملة كبيرة من المشروعات كتعويضٍ عن مساندتهم للنظام؛ مما يحرم المشروعات الصغيرة والمتوسطة من إمكانية النمو وخلق الوظائف.
في الوقت ذاته فإن أزمة الطاقة المتفاقمة لن تُجدي معها المساعدات الخليجية؛ حيث تتناقص تدريجيًّا القدرات الإنتاجية للغاز المصري، ويُصاحبها عدم قدرة على الوفاء بمستحقات الشركاء الأجانب؛ وهو ما يترتَّب عليه انسحاب الشركاء من الإنتاج؛ مخلِّفين انخفاضًا حادًّا في المعروض من الطاقة، ونزيفًا في ثقة قطاع الطاقة العالمي في السوق المصري؛ من جهة أخرى فإن تهالك البنية التحتية لقطاع إنتاج وتوزيع الكهرباء في مصر يحتاج إلى مدة طويلة للتعافي، مترافقة مع استثمارات كثيفة لضمان منع الانقطاعات المتكررة في الكهرباء عن المناطق السكنية والصناعية، وفي حالة عدم وجود تصوُّرات سريعة للأزمة، فإنه مع قدوم الصيف وترافقه مع شهر رمضان فمن المتوقع تزايد احتمالات استمرار الكوارث الناجمة عن انقطاع الكهرباء في المرافق الحيوية كالمستشفيات إضافة للمنازل؛ مما سيفاقم من عدم الرضا العام عن الوضع الاقتصادي، إضافة إلى أن عجز الحكومة عن ضمان تقديم الخدمات الأساسية بشكل مستدام سيفاقم من أزمات النظام، وقد يزيد من مساحة التململ والاعتراض.
ملف الاستقرار والأمن
يحتاج السيسي إلى تحقيق اختراقات جوهرية على ثلاثة أصعدة:
الأول: هو الصعيد السياسي عن طريق احتواء الاحتجاجات السياسية والفئوية بسياسات جديدة، أو الاستمرار بقمعها إلى أن تختفي تحت السطح.
الثاني: هو الجنائي عن طريق السيطرة على انفلات البلطجية والمجرمين وردع المخالفين.
والثالث: هو بسط الأمن على الحدود الشرقية في سيناء والغربية مع ليبيا.
يتوقَّف النجاح في الملف الأول على تحقيق إنجازات ملموسة في مجال المصالحة والاقتصاد وحقوق الإنسان، ويتوقَّف الثاني على قدرة الحكومة على التخلِّي عن البلطجية بعد تحالفها معهم طويلاً ضد خصومها وفي قمع التظاهرات السياسية، ويتوقَّف الثالث على تهدئة الوضع الداخلي، وتركيز الأجهزة الأمنية على استعادة الأمن، وتفرُّغ المؤسسة العسكرية لمهامِّها الأساسية في الدفاع عن الحدود وضبطها.
تُمَثِّل المظاهرات اليومية في الشوارع والميادين والجامعات، والإضرابات العمالية في المصانع والإدارات أبرز التحديات للنظام السياسي؛ الذي يتعامل معها بمزيد من القمع بدلاً من تقديم حلول سياسية، فبتموضع النظام كطرف في النزاع القائم، ورفضه للتفاوض حول مطالب الجماهير السياسية والاقتصادية، تبدو أية حلول أخرى غير القمع غير واردة؛ والبديل عن القمع لوقف التظاهر والإضراب هو المصالحة الوطنية، وتحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات، والتفاوض حول عقد اجتماعي جديد يُحَدِّد العلاقة بين الدولة وأصحاب العمل والعمال، وهو ما يرفضه النظام حتى على المستوي الرمزي؛ فالاعتراف بالخطأ يعني الإقرار بالمسؤولية عنه؛ ومن ثَمَّ الحساب الذي يليه سقوط المنظومة بأكملها مثل أحجار الدومينو كما يتصوَّر النظام.
إعادة الأمن إلى الشارع يحتاج -أيضًا- إلى الحدِّ من انتشار السرقات، والخطف، والتحرش الجنسي، وقطع الطرق، والاتجار بالمخدرات؛ وهو ما يتطلب قطع العلاقة الحميمية مع البلطجية وكبار المجرمين؛ فمنذ فترة ما قبل سقوط مبارك والعلاقة بين المجرمين والشرطة متوطدة؛ وذلك بعد لجوء الأخيرة إليهم لقمع التظاهرات المناهضة للحكم؛ ولم تختلف سياسة الشرطة منذ الانقلاب كثيرًا؛ حيث استخدمتهم لقمع المظاهرات في صورة مقاومة شعبية "للإرهاب" من "المواطنين الشرفاء"؛ أضفت هذه السياسة شرعية للبلطجية، وأضعفت هيبة السلطة في أعينهم؛ نتيجة للشراكة الحالية والدور الوظيفي الذي يقومون به، ومن غير المتوقَّع أن تستطيع الشرطة التخلِّي عن البلطجية، ناهيك عن القبض عليهم ومحاكمتهم، نتيجة لأمرين: احتمال فضح البلطجية للشرطة، وإلقاء مسؤولية الجرائم المرتكبة عليهم بالأدلة والاعترافات؛ والأسوأ من ذلك هو احتمال استعانة بعض الدوائر بالبلطجية مستقبلاً من أجل الحماية (شركات أمنية خاصة). الأمر الأخر والأكثر أهمية هو احتياج الشرطة للبلطجية في قمع أي ثورة مستقبلية؛ وذلك عن طريق إحداث فوضى متعمدة لإرباك وتشويه ومكافحة الثورة، أو النزول بهم تحت الأرض كميلشيات منظَّمة في حال انكسار الداخلية مرَّة أخرى.
تُمَثِّل التحديات على الحدود الشرقية في سيناء وعلى الحدود الغربية مع ليبيا خطرًا كبيرًا على الدولة؛ وذلك نتيجة انتشار الجماعات المسلحة، وتسهيل طرق الحصول على أسلحة من ليبيا؛ وانتشار الجماعات المسلحة في سيناء هو نتيجة لغلبة الحلول الأمنية على الحلول السياسية والتنموية منذ عهد مبارك؛ وهو ما أفرز مظالم متراكمة لدى السكان يُغَذِّيها ضعف الدولة وتآكل شرعيتها، أما الحدود الطويلة مع ليبيا وضعف الكثافة السكانية على الحدود الغربية، وتنامي الفوضى، وانتشار السلاح في ليبيا أدَّى إلى ازدياد وتيرة التهريب للسلاح والبشر والممنوعات. والتحديات المذكورة تحتاج إلى قدرات وجهود غير عادية من الدول ذات النظام السياسي المستقرِّ؛ لكن مع تشتُّت جهود الأجهزة المصرية في سعيها إلى إحكام السيطرة الأمنية على الداخل تتراخي القبضة على الحدود، وتُصبح الدولة رهينة لتهديدات من خارجها.
ملف العلاقات الخارجية
تتحدَّد العلاقة الخارجية للنظام بمدى قدرته على النجاح في تهدئة الوضع، وإحداث الاستقرار؛ إما بلجوئه إلى مزيد من القمع (كما يظنُّ هو)، أو بتحقيق مصالحة وطنية وفتح المجال الديمقراطي؛ فاستمرار القمع لفترة طويلة سيُعَقِّد علاقات النظام الخارجية، حتى مع دول الخليج؛ وذلك باعتباره فَشِلَ في تحقيق المطلوب منه، وهو القضاء على الإخوان وإجهاض الثورة المصرية؛ أما تحقيق انفراجة سياسية وإعادة دمج الإسلاميين المحدود في العملية السياسية سيُضفي بعض الشرعية على النظام، وسيحظى بمباركة دول الخليج المانحة؛ ما دامت هناك ضمانات بعدم وصول الإخوان إلى الحكم، وإبقائهم ضعافًا لفترة طويلة قادمة؛ وأيًّا كان الخيار الذي سيتخذه السيسي؛ فإن سياسة الاعتماد المالي على دول الخليج ستنتهي بمصر إلى دولة تابعة تقوم بأدوار أمنية مقابل ضمان استمرار الدعم السياسي والمالي من الخليج، وربما من الغرب (القضاء على الإخوان من أجل بعض دول الخليج - تأمين الحدود مع غزة، وتدمير الأنفاق، وإحكام الحصار على الفلسطينيين من أجل إسرائيل - محاربة الإرهاب من أجل أميركا والغرب).
لكن في ظلِّ استمرار مستويات انتهاكات حقوق الإنسان غير المسبوقة في مصر، مع استمرار النظام في السيطرة على المجال السياسي والاقتصادي، والتحكم في الإعلام، فإنه سيظلُّ على خلاف مع الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا)؛ متمثِّلاً في انتقادات حادَّة من الحكومات الغربية والمؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان على السواء؛ هذا لا يمنع بالطبع استمرار التعاون في الملفات الأمنية والعسكرية، فسيحاول النظام المناورة بتقوية العلاقات المصرية الروسية والصينية، لكن هذا لن يعني حدوث تحوُّل جذري في علاقة مصر بالغرب؛ وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية.
بالنسبة إلى إسرائيل فمن المتوقَّع أن تستمر العلاقات على وتيرتها نفسها، ويتعمَّق التعاون الاستخباراتي والعسكري؛ ما دام السيسي قادرًا على السيطرة على الأوضاع في سيناء عند حدودها الدنيا؛ لكن هذا قد لا يستمرُّ في حالة خروج الأمور عن السيطرة، وانتشار حالات الانفلات على الحدود؛ التي قد تُؤَدِّي إلى إيذاء إسرائيليين؛ وسيحاول الإسرائيليون مساعدة السيسي قدر الإمكان، وتوصيل شكاواهم عبر القنوات العسكرية السرية لتجنُّب إحراجه في العلن.
ستستمر علاقة السيسي ببعض دول الخليج طيبة لفترة، وسيحاولون دعمه بكل السبل؛ وذلك إلى أن يتبيَّن فشل المسار الحالي، وعدم جدوى الاعتماد على المسكِّنات الاقتصادية بديلاً للحلِّ السياسي؛ هنا يبدأ الخلاف وتوزيع الاتهامات، والمطالبة بكشف حساب عن مصارف وعوائد المساعدات المالية؛ الذي قد يُقابله ابتزاز من السيسي لبعض دول الخليج للاستمرار في دعمه، والكف عن طرح الأسئلة لما يُقَدِّمه من خدمات، ولاستجابته للدور التحريضي الذي قامت به تلك الدول في الثورة المضادَّة منذ البداية. ومن المتوقع -أيضًا- أن تنخرط مصر في فلك السعودية والإمارات الاستراتيجي كشُرطيٍّ للمنطقة؛ (قمع الإسلاميين في ليبيا، وظهير في المواجهة مع إيران)، وتستجيب لضغوط إسرائيل بفرض حصار على غزة، وتكريس تقليص السيادة المصرية على سيناء، وتستمرُّ في التعاون الاستخباري والعسكري مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.
المخرج الديمقراطي
يبدأ السيسي فترته الرئاسية مقيَّدًا بالتحالف الذي أوصله إلى الحكم -بداية من فترة ما قبل 30 من يونيو/حزيران 2013- من الدولة العميقة (الجيش، والشرطة، والجهاز البيروقراطي، وذراعه الإعلامي والقضائي)، وأنصار مبارك من رجال الأعمال، وأعضاء الحزب الوطني السابقين، ودول الخليج الداعمة للانقلاب؛ تتمثَّل معضلة هذا التحالف باتفاقه على تجنُّب الإصلاحات السياسية والاقتصادية؛ التي نادت بها الثورة أكثر من اتفاقه على النجاح في تحقيق الأمن والاستقرار، أو إنجاز تنمية اقتصادية وعدالة اجتماعية؛ وما يحتاجه السيسي هو ضمان ولاء حلفائه وتوسيع دائرتهم بمدِّ جسور الثقة مع القطاعات المطالبة بالتغيير من الشباب والإسلاميين، وهو ما يبدو صعبًا للغاية؛ نظرًا إلى جسامة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت قبل وصوله إلى الحكم، وعمق الفجوة في خطابه للمعارضين، وأعتباره أي تحرُّكٍ احتجاجي قد يُؤَدِّي إلى تفجير تحالفه الهشِّ.
وبالنظر إلى طبيعة تحالف 30 من يونيو/حزيران يظهر أنه يسعي إلى إيقاف الثورة وإصلاحاتها، حتى لو كلَّفه ذلك أعددًا كبيرة من الضحايا، وهو ما يرفع تكلفة أي إصلاحات في أيٍّ من الملفات المذكورة؛ فالتوقُّف عن القمع يعني عودة الثورة إلى الشوارع، وعدم التوقُّف يعني استمرار عدم الاستقرار وتآكل الشرعية؛ أما السعي نحو المصالحة فيعني المساءلة والاعتذار والمحاسبة، وعدم الاكتراث بالمصالحة يُغَذِّي إحساس الشباب بالتجاهل، ويُعَزِّز من جهودهم لإسقاط النظام، أما تحقيق إنجاز اقتصادي بتخفيض عجز الموازنة، أو تشغيل الشباب فيحتاج إلى مصالحة واستقرار أمني؛ بينما محاربة الفساد تعني محاربة حلفاء الأمس ومساندي اليوم وسدنة المستقبل؛ وهو ما يعني انتقال الاضطرابات إلى معسكره؛ وفي المقابل فإن عدم تحقيق إنجاز اقتصادي ملموس قد يُؤَدِّي إلى تأكل شرعيته وشعبيته سريعًا؛ الأمن والاستقرار مرتبطان كليًّا بالعوامل الثلاثة السابقة، وهو ما قد يبدو غير ذي أولوية للسيسي الآن؛ لكن استمرار عدم الاستقرار لفترة ستة شهور أخرى يمثِّل تهديدًا لقدرة الحكم على تدعيم سلطاته.
من الصعب التكهُّن بمسار الثورة ومستقبل السيسي الآن؛ لكن مما لا شكَّ فيه أن قدرة أيِّ حاكم لمصر على جلب الاستقرار في ظلِّ موارد اقتصادية ضعيفة، ومؤسسات دولة متهالكة ومتآكلة ومتناحرة، ومجتمع منقسم، عن طريق القمع فقط ودون أي حوافز أخرى، هي ضعيفة بلا شكٍّ. لا يوجد مخرج لمصر سوى الديمقراطية، وسيادة القانون، والمحاسبة، واحترام الحقوق الأساسية للمواطن لحماية الدولة، ومنعها من التفكُّك؛ فالمسار الوحيد الذي يرتبط بالعنف والقمع الأمني هو الفشل على المستوى السياسي والمؤسسي.
____________________________________
د. عماد الدين شاهين - أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأميركية، وزميل بمعهد وودرو ويلسون بواشنطن
ـ مركز الجزيرة للدراسات ـ