استدراك قبل تقديم القراءة في الكتاب
جمال أبو الرب*
لا تختلف قراءة الاستبدالات عند كل الجماعات والأنظمة السلطوية التي تتصارع على إنتاج المعنى في الساحة العربية في أفعالها الذبائحية، فهي متفقة بالفعل، لكنها مختلفة في "التقنية" أدواتها ومنطلقاتها، وقدرتها على مخاطبة المكبوتات الثقافية عند الجماعات الواقعة في دائرة الاستهداف، ولعل أخطر التقنيات نفاذا تلك التي سربلت نفسها بثوب القداسة الدينية، لكونها الأقدر على تحويل المصلحة لقداسة.
تقوم فكرة التأصيل في الحركات الإسلامية على فكرة الأصنمة وثبات جغرافيا المقدس، وهي تأخذ منحيين: التأصيل في النص، والتأصيل في التجربة التاريخية. وعند دراسة النص يمكن القول: إن إلهية النص لا تجعله ينطق، وإنما يستنطق بما لدى البشر من قدرة على استنطاقه، والاستنطاق بالضرورة فعل بشري محض، ولا قداسة له، ولا ادعاء بها لأي استنطاق، فالاستنطاق لا يلزم أكثر من صاحبه إن التزم به.
أما التأصيل في التجربة التاريخية، فهذا الادعاء محض مراوغة وخداع، فالتجربة التاريخية لا تنبئ إلا عن صراع دنيوي على السلطة التي زهقت في سبيل الظفر بها أرواح المسلمين مشرعنة بذلك العنف المقدس في مواجهة الخصوم. فهي تجربة منزوعة دسم القداسة لسببين: لأنها تاريخية ولا إنسانية وليست وحييّة نصية، والثاني لأنها شرعنة استباحة دماء المسلمين.
من المنطلقات السابقة لا توجد علة تأصيل لحركات الإسلام السياسي لا في التجربة التاريخية ولا النصيّة. وتتمثل خطورة الإيهام عند الحركات الداعية للتأصيل بأنها توهم في خطاباتها بأن النص مرجعها، والتجربة التاريخية للسلف الصالح طريق لها، وبهذا الوهم والضلال والتضليل تأخذ هذه الحركات طريقها نحو الاستمالة والتجييش عبر فعل الأصنمة وتثبيت جغرافيا الوعي.
وفي هذا السياق تجيء دراسة الشرفا لتحطيم خداع الأصنمة، والكشف - إن جازت المقاربة - عن الفعل الذبائحي عبر فضح لعبة الاستبدالات، كما أن الدراسة تتغيّا تحرير الوعي من أسر الثبات، فهي تتصدى إلى إشكالية إنتاج المعنى المقدس في فكر الإخوان المسلمين في إطار من التحولات التاريخية التي تعصف بكل ثبات، وقدرة الإخوان على الإيهام بثبات المعنى وآلية إنتاجه بطهارة ونقاء.
بناء على هذه الإشكالية يتبنى الشرفا مقولة مركزية مؤداها: أن الفكر الإخواني يقوم على الإيهام بإنتاج المعنى المقدس بالاعتماد على قضية استبدال المرجعيات المولدة للمعاني في ظل غياب سؤالي التحقق والثبات، بهدف خلق علاقة تصور مع الواقع خاضعة لإرغامات آليات إنتاج المعنى، فتغدو المرجعية مقدودة قدا على قدّ المعنى المقدس، سحرية النفاذ، متجسدة بالجماعة وأيقوناتها التي يوكل إليها الإيهام بالدرجة صفر مع النص والتاريخ اللذين تمّ تغييبهما واغتصابهما وحضورهما لغايات شهادة الزور لمنح (المدنس) الأرضي شهادة القداسة والطهارة، وهكذا ينتصر المعنى المنتج على التاريخ والنص والواقع، ويمنح الآخرين وسام الضلال والتيه.
وتنبع إشكالية الدراسة وفرضيتها من تتبع علمي منهجي رصين في قراءة استبدال المرجعيات ابتداء من السقيفة التي استبدلت القبيلة بالعقيدة في تشريع السياسي الأرضي، وإلباسه عباءة القداسة، وصولا إلى قراءة هذا الاستبدال في فكر سيد قطب الذي التحم بالنص لينتج فكر الحاكمية القادر على إبطال التاريخ والخصوم لصالح المعنى المنتج، وتبين الدراسة التعارضات في الفكر القطبي التي أفضت إلى أن تستبد به ثنائية (الإسلامي العلماني) عبر إنتاج تاريخ مقدس للجماعة، ومنهج فوق تاريخاني يسقط من حساباته كل تاريخ أو قراءة فقهية معارضة له.
ثمّ تحقق الدراسة مع القرضاوي الوريث للتراث القطبي تحديدا من خلال برنامج" الشريعة والحياة"، حيث تستدعي القراءة كل التناقضات التي أحدثها القرضاوي في المنهج القطبي، مع قدرة عالية للقرضاوي وعبر تحالف مع المرئي (الجزيرة) على أدرمة التصور واغتيال الواقع، وتسطيح الوعي مع الإيهام العالي النفاذ بانسجام المعنى/ الفكر/ الإخواني وتماسكه، فكان فعل القرضاوي في تراث سيد قطب يشبه قول جوزيف أتيلا: "السطح يثرثر أما العمق فيستمع" مع التحفظ الكامل على أن تراث سيد قطب يمثل بأي شكل من الأشكال عمقا معرفيا.
أما فعل الشرفا في مقاربة سيد قطب قرضاويا، فمثل تعميق حضور الوعي على ثرثرة السطح، بمعنى تعميق حضور التناقض الذي مثله القرضاوي على التراث القطبي، فمثلت القراءة الشرفية حالة تفكيكية للعلاقات لتحرير المعنى وإخراجه من حالة الأسر والإيهام والإرغامات عبر بيان التناقضات في آلية إنتاجه حينما يمرّ بالمنعرجات التاريخية.
ويقع تأطير صاحب هذه الدراسة في حقل النقد الثقافي والإعلامي على وجه الخصوص والدقة، لذلك لم تكن الدراسة غريبة عليه أو على حقلها، فالمؤلف أستاذ الإعلام والدراسات العربية المعاصرة في جامعة بيرزيت، وحاصل على شهادة الدكتوراة في تحليل الخطاب في أعمال إدوارد سعيد العام 2006، وحاصل على الماجستير عن أطروحته بواكير السردية العربية خاصة في أعمال جبران خليل جبران، وله ثلاث روايات: "محكمة الشعب" و"اعترافات غائب" و"القادم من القيامة".
وأشرف على وناقش العديد من رسائل الماجستير في الإعلام والعلوم السياسية والدراسات العربية المعاصرة. لذلك لا غرو أن تكون دراسة الشرفا ابنا شرعيا للحقل الثقافي الذي يتخصص فيه، ولعل هذا الانسجام بين المؤلف وحقله مفسر لقدرة الشرفا الفذة على القبض على مقولته وطريقة قولها، فهو لا يمتلك مقولة جميلة فحسب بل يجيد في طريقة قولها قولا ينأى بها عن الإسفاف أو السطحية، وينأى بها عن مزالق التورط في أي سياق خلا سياق المنطق العلمي المنهجي، الذي يستند إلى قواعد صارمة قادرة أن تخلق مسافة بين المؤلف والمقولة التي يخضعها المنهج إلى سؤالي التحقق والتثبت اللذين برهنا على وجاهة مقولة الشرفا.
ولعل الناظر في دراسة الشرفا تهاله المصادر والمراجع ذات الاختصاص الدقيق في حقل الدراسة، ناهيك عن المراجع الإلكترونية ذات العلاقة المباشرة والقوية بمصادر استقاء الدراسة، تحديدا المركز الفلسطيني للإعلام لقراءة وتحليل أخبار حركة حماس، وموقع الجزيرة في قراءة صناعة النموذج المقاوم المتمثل بحركة حماس، وكذلك فضائية الجزيرة وعلى وجه الخصوص والدقة برنامج" الشريعة والحياة" لقراءة استبدال المرجعيات في آلية إنتاج المعنى في فكر جماعة الإخوان.
ويقع كتاب الشرفا على جانب كبير من الأهمية الزمانية والمكانية، حيث باتت الساحة العربية شهوانية للعبة الاستبدالات في المرجعيات ذات الهوس النصي في إنتاج المعاني المقدسة والتناص معها عبر التدرع بالنص لمواجهة الخصوم تحديدا في مصر وسوريا، ومن جهة أخرى تبرير الفعل السياسي بمرجعيات حداثنصية (حداثية نصية) في تونس ممثلة بحزب النهضة الإخواني، وفي قطاع غزة ممثلة بحركة حماس الإخوانية، الأمر الذي يجعل الكتاب على اتصال وثيق مع الأحداث جاهدا نفسه الترافع عن الواقع الذي يمعن في إعدامه تحالف الاستعارات البلاغية مع الشاشة.
فما أحوجنا في هذا الزمن الرث إلى المفكرين والنقاد أمثال الشرفا الذين تشكل المعرفة والنقد والإبداع والتجاوز هدفهم الأسمى، وقد جاء كتاب الشرفا كإثراء وإسهام نقدي في زمان الردة ومكانها الذي استفحلت فيه الهلوسات، فهو بمثابة شمعة يراد لها أن يتم نورها لتضيء الظلمة التي فرضتها الأصوليات. فالعمل جدير بالمصاحبة المعرفية، بل هو فوق الجدارة بذلك.
وقد قسم الشرفا دراسته إلى خمسة فصول، قام بالفصل الأول بتفكيك خطاب الأصوليات المنبني على الاستعارة القلقة بين التسامي والتراجع، وهي العودة إلى صفرية المعنى المزمن في الثقافة العربية عبر لعبة الاستبدال بين السياق والنص، حيث يلتحم السياق بالنص مشرعنا كل منهما الآخر، وبذلك يتم إقصاء كل السياقات الموضوعية التاريخية عبر إجبارها على الدخول إلى السياق المقدس القاهر لإنتاج المعنى الصفري، وهذا التزاوج غير شرعي، والفاقد للعلة والقياس والبرهان، يقوم على انكسار المفاهيم العلمية حين يغدو الجذب نحو المقدس والالتحام به تساميا، وهو فعل مجافٍ للحداثة، حيث السقوط فعل أولي لفقه الواقع.
ويميط الكاتب اللثام عن عقدة الأصل المنتجة لصفرية المعنى والسياق المقدس، وهي ثنائية القداسة في مواجهة الجماعة، أي البحث عن شروط الجماعة المقدسة التي ينقصها الوحي الذي تعطل بعد اكتمال نزول القرآن، كاشفا عن علاقة الاستبدال بين النص الذي أوقف التاريخ في صفرية مزمنة وبين الإسلام التاريخي الذي ضخّم تاريخ الجماعة على حساب النص والدعوة لإنتاج التاريخ المقدّس، حيث تصبح الجماعة أكبر من التاريخ، والتي ستصبح وراثة "تعيد حالة التناسل مع النص وإنتاجه على شكل استبدال: أنا النص والنص أنا"، ابتداء من السقيفة التي أنتجت تاريخ القداسة لقريش مرورا بالخوارج والشيعة.... وصولا إلى جماعة الإخوان المسلمين.
وبما أن الفعالية تتجسد بالممارسة، تحول النص إلى أيديولوجيا تهدف إلى السلطة لتحقق فعل الاستبدال بين الشريعة والوحي، فتصبح الشريعة علاقة اتصال بالوحي عبر أنبياء جدد هم الجماعة التي يتحدد فعلها المقدس بالهداية والاخضاع.
وفي سياق الربيع العربي يرى الشرفا أن الإخوان تناصوا مع الأنبياء، حيث يقول: "لقد دأب الإخوان منذ تأسيسهم على تأسيس علاقة العودة والتكفير – العودة إلى الله - على أنهم السياق الذي ينتج المعاني" لكنهم لا يألون جهدا في فعل الاستبدال وقتما يقتضي الموقف ذلك، فهم يقومون بإبطال السلطة والخصوم حينما يكونون معارضة متسربلة بالقداسة ملتحمة بالنص، وفي منعطف تاريخي يستبدلون المطلق بالأغلبية الانتخابية، وتتطهر السلطة تبعا لوجودهم بها، وتزول عنها الطهارة ويتلبسها الدنس حينما ينأون عنها، والطاقة الكامنة التي يمكن تحريرها لإزالة الشبهة عن جوهر الاستبدالات هي الفتوى التي لديها القدرة على غسل الواقع ومنحه شرعية القداسة.
ويقدم الشرفا في الفصل الثاني والثالث والرابع دراسة جادة معمقة وثرية في تحليل مضمون خطاب حركة حماس، مستكنها وكاشفا لدوائر الإقناع في خطاب الحركة، والذي جسد كل هذه الدوائر الإقناعية : "ما يفعله الحق فهو حق" حيث ينطلق خطاب الحق من التأسيس المفاهيمي للحق المتعالي في الميثاق، إلى الحق السياقي المتجسد في الحركة. واللحظة التاريخية الناشئة.
وقد بينت دراسة الشرفا كيف أن الحركة تبدأ بتأسيس نظامها التواصلي على أنها عقيدة حق بالمعنى الإلهي، وهو مستوى من الحجاج يستعير حجاجات الأنبياء ويتناص معها. وأن الحركة تتجاور مع الإسلام، فالإسلام منهجها، ومنه تستمد أفكارها وتصوراتها، وأن الأعضاء في الحركة هم في حالة عبادة لصناعة الجماعة النموذج والفرد النموذج، وأن من يعارض الحركة أو يخاصمها وقع في حالة تعارض مع المطلق.
وقد بين الشرفا خطورة النظام التواصلي في خطاب الحركة - وهذا حال معظم الإسلام السياسي عموما - حيث يقوم النظام التواصلي للحركة على عزل كل السياقات التاريخية والوجودية الثنائية للزمان والمكان لصالح تأويل لا يعترف بنفسه على أنه تأويل، حيث يجعل المسافة الفاصلة بينه وبين النص صفرا، فيتحول التأويل إلى قراءة نصية إلهية للواقع، أو قراءة الواقع تأويل له، ليأتي على قد النص. وفي كلا الحالتين يأتي النص كشاهد زور بعد أن جعله التوظيف لا يحيل إلى ذاته كنص متعال، وإنما يحيل إلى حركة متعالية في سياق قداسة النص.
وقد استفاد خطاب الحركة من الاستعارة والتناص وحجاج الأنبياء أو استعارة آيات من القرآن والشعر العمودي ومن ذلك "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، وقل هذا هو الحق المبين، فسبح اسم ربك العظيم" فالرسل الجدد هم الحق المبين، وهم سياق تجلي المطلق المتمثل بالحركة التي جسدت الإسلام - الحق - وجماعة الحق، وما يترتب على ذلك من متواليات.
وبهذا لم يعد حضور الاستعارة لغرض المشابهة، حيث تترك مساحة للتفريق بين الشيء المستعار والواقع الذي تمت الاستعارة لأجله، بل الحضور هنا يتمثل في إقامة محور استبدالي بين المطلق والسياق، ليغدو المقدس الديني بكل رمزيته وطاقاته متجسدا في سياق المدنس الأرضي، ليكتسب ذات القداسة، هنا الحركة توهم بخطابها أن المسافة الفاصلة بينها وبين الإسلام هي بالضبط مساوية للصفر، وهو الزمن الذي طالما حلم به رولان بارت للكتابة، وهي ذاتها مسألة الحلول، وكذلك قول النفري عن المسافة بينه وبين الله: "ليس بيني وبينه بين" ومعنى ذلك أن انتفاء المسافة بين الشيء والآخر، أن الشيء أصبح تماما هو الآخر، فالحركة هنا - تماما - هي المطلق بكل تجلياته.
لقد مثلت الحركة بميثاقها كما قدمها الشرفا - وما أخاله إلا مصيبا في قراءتها - رحلة الحركة إلى الله، فعقيدة الحركة إلهية، وعقيدة الحق استوجبت الدعوة إليه، فكانت الحركة آلية الحق وغايته، هنا بالضبط يمد الله مرونته في الحركة، ويصبح كل ما يصدر عن الحركة بوصفها دعوة الحق وآليته مقدسا وواجبا وملزما، وأن ما يفعله الحق لا يعدو كونه حقا، وهذا تمهيد للهدف الأيدولوجي المتمثل بالإقناع والاستمالة والتجييش لصالح الحركة، ولصالح تشريع سلطتها على الأرض باسم الله.
وتعمد الحركة عبر التشكيلات الخطابية التي تنتجها إلى تهميش آليات التفكير عن المستهدفين، وبالمقابل فإن هذه التشكيلات تأخذ طريقها للذاكرة للتمكين والتخزين، فيغدو بذلك خطاب الحركة عبر الدوائر الثلاث التي قام بدراستها الشرفا رحلة أزمنة متجاورة بشكل خطي وسهمي دون إعطاء لأية فسحة لقراءة التاريخ أو الكيفية التي ينهض بها التأويل، فلا تأويل ولا تاريخ خارج تنصيص الحركة، وبالتالي يتجسد بها النص المتعالي، وكذلك التأويل والتاريخ والحدث اللحظي.
ولا يمكن بناء على ذلك فهم حركة حماس عبر تجزئته للزمن والتجربة التاريخية. الحركة هنا تمثل زمنا كليا للنص والتاريخ والواقع، هي نوتة موسيقية بامتياز.
هذا العمل الذي أقدم له، فيه حذر شديد من الكاتب حتى لا يكون متورطا في أي سياق، فأخذ على عاتقه أمانة الباحث الجاد، وفق منهجية علمية رصينة جعلته يقف على مسافة علمية من الدراسة التي أجراها، سواء في استنطاق الميثاق أو في إماطة اللثام بشكل علمي وممنهج على تواطؤ الجزيرة، عبر العينة التي كانت موضع الدراسة والتحليل، والتي كشفت عن تطورات لا أخلاقية للجزيرة، من خلال استخدامها لتقنيات صناعة الخبر التي حجبت وأنكرت أفعال المقاومة حينما كان الأمر يتعلق بالفصائل الفلسطينية غير حركة حماس، وبالتالي لم تساهم في إبراز أي فاعل، بل قامت بتغييبه ونفيه. وفي المقابل أبرزت الجزيرة عبر كل تقنيات الحضور للفاعل حينما يكون حركة حماس لصناعة النموذج المقاوم.
يظهر جليا أن المؤلف يصرّ على السياق المعرفي، وأنه يربأ بنفسه عن التورط في أي سياق مغاير، وهنا استدرك لأقول، هو متورط حتى النخاع بالهمّ الفلسطيني والجرح المفتوح الذي عبر عنه مظفر النواب: "شفتاي امتداد لجرح بهما كلما صاح صحت" ووليد منحاز "لضحايا القتل الأخوي الذين حولهم الخطاب والفساد من مأساة في تشوه العلاقة إلى مشكلة فقهية".
ويتناول الفصل الأخير تفكيك الظلال التي رامت بها عقدة الأصل التي حاولت الجمع بين مطلق السماء ومطلق الأرض عبر السعي بفعل الإيهام لاستعادة الفردوس المفقود، وهي المعضلة التي حولت الفعل الإسلامي إلى نص متحرك، وحولت النص إلى فعل متجسد وثابت، وحولت حامل النص إلى متحرك في التاريخ ضمن ثبات تصليب النص والمعنى المنتج على قدّ رؤاه، بمعنى التمظهر في النص على طريقة "فتمثل لها بشرا سويا" فيصبح المتكلم في النص صاحب سلطة النص، وهي هلوسة نصيّة بأدوات بلاغية تحاكم التاريخ، وتعيد إنتاج "تحليم" الواقع على أنه صراع بين الأسلمة وغيرها.
ويرى الشرفا أن هذا العقل الرسولي تمثل في سيد قطب الذي التحم بالنص على أنه آلية معطلة، وأن استئنافه تخلّق لثنائية غير قابلة للقسمة، فاستئناف النص تاريخيا يقتضي هداية البشرية بفعل ملتحم رباني في مواجهة أيّ منظومة أخرى، وتحديدا الغرب وكل ما يصدر عنه من رؤى وأفكار.
أما وسيلة الالتحام فهي العودة إلى السلف الصالح التي تمخض عنها استحضار ثنائية الجاهلية والإسلام، ولا حاكمية إلا للنص، وحاملو النص ربانيون ملائكيون في مواجهة الذين يسهمون في عودة الجاهلية، وهذا يمثل إنتاجا لثنائيات تقع في تعارض كامل بين فكرتين وتصورين: الإسلام والجاهلية، الإيمان والكفر، الربانيين والشيطانيين، الحاكمية لله والحاكمية للبشر.
من هنا دعا سيد قطب إلى نخبة بمثابة أداة ربانية ملائكية قادرة على إبطال أي مشروع لا يسعى لاستئناف الحياة الإسلامية لانجاز التحقق التاريخي للإسلام.
فالناس في ضلال، والسلطة تحدٍ لله، ولا متغير بين السماء والأرض سوى الحركة الإسلامية التي هي آلية التحول المقدّس.
ويرى الشرفا أن هذا الإخضاع ثلاثي الأبعاد، فهو يخضع أبناء الحركة الإسلامية إخضاعا ملائكيا، وإخضاعا مقدسا للمواجهة مع أي سلطة لا تقيم شرع الله وفق تأويل الجماعة، وإخضاعا للأرض جميعا.
وتكشف الدراسة عن التناقض في فعل الجماعة تاريخيا مع حفاظها على تماسكها النصي، فمن سيد قطب الذي يجعل الحاكمية للنص في إبطال أي متغير بين السماء والأرض إلى القرضاوي الذي استدعى النص كسلاح مزدوج: يلبس الجماعة حلية القداسة وقت المعارضة وإبطال الخصوم، ومن جهة أخرى وفي لحظة الظفر بالسلطة يعيد إنتاجها كديمقراطية ربانية مع الاحتفاظ بطاقة النص جاهزة للاستدعاء مرّة أخرى إذا فقدت الجماعة الأغلبية على شاكلة تذكرة الحافلة" احفظها للمراقبة" فالجماعة تعيد إنتاج نفسها كممثل لقيم الحداثة من ديمقراطية وشرعية انتخابية، وتحتفظ وحيدة بحق التصرف بالمقدس وقت الحاجة، فالسياق هنا يأخذ تعريف نفسه وإعادة تعريفها وشرعنتها في كل مرّة من ممارسة عملية تثبيت بذكاء للنص ليصبح حضور المطلق لأغراض السياق وحاجاته، ومن ذلك ما حدث في 30 حزيران العام 2013، حيث المليونيات التي أطاحت بمرسي عادت الجماعة كمعارضة إلى المطلق، لكنها لم تكن نخبوية قطبية، بل أصبحت المليونيات معادلا للشرعية، والاقتراع بديلا عن النخبة القطبية، وصندوق الانتخاب بديلا عن صندوق النصوص المقدسة.
وهذا الانقلاب على الفكر القطبي يمكن قراءته في قول مظفر النواب في علي بن أبي طالب:
ما زالت شورى التجار ترى عثمان خليفتها وتراك زعيم السوقية
لو جئت اليوم لحاربك الداعون إليك وسموك شيوعية.
ويبيّن الشرفا حاجة الإخوان إلى مخاطبة الرأي العام الأمر الذي حوّل الشاشة والرأي العام إلى نصين مقدسين، وهي آلية تقود إلى أقسى حالات الإخضاع الجماهيرية التواصلية فيما يعرف بالحتميات التقنية في عصر الإعلام، ونظرا لمقولة الشرفا: أنا أشاهد إذن أنا موجود، تراجعت النخب، وفجرت آلية إنتاج المعنى الجديدة عند الإخوان الإدراك الأولي المقترب من الغرائز النهمة، وهنا يتم الانتقال عند الجماعة من علاقة تأويل نصية إلى علاقة تأويل صورية، ومن إخضاع نصي إلى إخضاع صوري مزدوج.
ويقوم الشرفا باستدعاء مجموعة من برنامج" الشريعة والحياة" لتفكيكها، حيث يخلص إلى أن هذا البرنامج نسخة إخضاعية بامتياز، حيث تحضر ثنائية المطلق والسياق في العنوان؛ فالشريعة مطلق رباني، والحياة مطلق مفتوح على الاحتمالات، تربطه بالشريعة علاقة توجيه واحتياج؛ فالشريعة للحياة ولا حياة دون شريعة، فالشريعة لحل مشاكل الحياة.
وهذا الانفتاح المطلق في المعاني المفهومية على مستوى النص يبدأ بالانزياح والتحول على مستوى الخطاب الذي يتلبس السياقات الضيقة: أنا الشيخ المتكلم بدل الشريعة، ومتى تحقق هذا الاستبدال تمكن القرضاوي من التنقل بحرية للعبة الاستبدالات، ومنها تأكيده في إحدى برامج "الشريعة والحياة" حرمة خطوة عزل مرسي شرعا، لكنه يعود ليتبنى الديمقراطية والانتخابات، حيث يدافع عن مرسي بأنه انتخب بشكل شرعي وحر. فالانتخاب تحول عند القرضاوي بديلا للحاكمية، لكن تحريض القرضاوي على معارضي مرسي لم يأخذ الطريقة ذاتها في تبرير شرعية مرسي المستندة إلى الانتخاب الحر، بل حرّض بطريقة فقهية، فيعود لاستئجار أحاديث البيعة والولاء والتي تحرّم الخروج على الحاكم.
ويمكن لقارئ الاستبدالات في منهج الإخوان أن يرى فكرة الذبائحية عند رينيه جيرار في كتابه "العنف والمقدس"، حيث يرى أنه ما من عنف إلا ويصح إثبات صفة ذبائحية له، وأن العنف أصيل في تكوين الجماعات، ولا بد من مراوغة لهذا العنف عبر فعل خداعي استبدالي، يقوم على استبدال العنف بالضحية الإبدالية، بالغنيمة البخس التي ترضيه، والتي غالبا ما كانت فردا من الجماعة، كتلك التي تصور لنا غولا أو تنينا شرها يلتهم صخرة بدلا من الولد المشتهى.
والذبيحة بنظر جيرار عنف مطهّر، وحل ذبائحي تصطنعه الجماعة في وعيها ليحميها من تحرير طاقة العنف داخليا، تحديدا إذا ما بلغ شأوا كبيرا، حيث يبيت فعله التفتيت والانهيار لهذه الجماعات. ولمخادعة العنف لا بدّ من إيجاد مخرج ذبائحي -على الدوام- عبر إعادة تمثيل الأزمة تمثيلا يقود إلى موضعة العنف موضعة إبدال. ينتقل فيه البديل الذبائحي من داخل الجماعة إلى خارجها بعد توصيفه وتشخيصه كشرّ محض يستأهل الحتف والعنف المقدس، ويخلق في الآن ذاته فعلا تطهيريا للجماعة.
وبتتبع التحولات كإبدالات ذبائحية في الفكر الإخواني يُرى أنها تجسدت بالنص كذبيحة أولية، ثمّ بالتاريخ والوعي والمجتمع المدني لصالح الجماعة، أما على المستوى الداخلي للجماعة فكان أميزها سيد قطب ذبيحا إبداليا داخليا يضمن للجماعة قدرة عالية على التعاطي مع التحولات التي تجعل الإخوان قاب قوسين أو أدنى من السلطة، مع احترافية عالية في الذبح تجعل الفعل غير مرئي للعيان، حتى يضمن تماسكا وانسجاما في الجماعة.
وتتواصل الإبدالات الذبائحية الخارجية بتبدل المرجعيات لصالح السلطة، ثمّ إبدال ذبائحي للسلطة لصالح المرجعيات، دون أن يثير تناقض الفعل الذبائحي الشبهة على الجماعة المتناقضة في الموقف والمفتقرة للانسجام، بل إن لحظة تصدير العنف عبر إيجاد ضحايا الإبدال يأخذ الشكل المعول عليه في تمتين بناء الجماعة كفعل تطهيري من جهة، ومن جهة أخرى موضعة الضحية الإبدالية كشّر محض بشكل صادم، ومن ذلك إنتاج حزب الله حزبا للطاغوت كذبيحة طقوسية.
بهذه المقاربة يمكن قراءة عمل الشرفا كتفكيك للآليات الذبائحية داخل جماعة الإخوان، تفكيكا يقود إلى بيان تعارضاتها وخداعها، وذلك بإحداث وعي على آليات اشتغال الذبيحة الإخوانية لتفكيك سلطتها، وتعرية مراوغتها، وبيان خداعها، وإبطال سحر نفاذها. فهي وإن لم تمتلك أقداما تسير بها، فهي كالأميبيا تتقن الحركة لكن بأقدام كاذبة.
وفي ختام هذا التقديم، قد لا أكون مبالغا في القول، إن محاولة تقديم الكتاب تبقى جهدا ناقصا، بل ومشوها ومبتورا، فخير من يقدم الكتاب هو نفسه، وهو جدير بهذا التقديم، وما جهدي سوى محاولة فحسب.
صدر الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 2013، عدد الصفحات 215.
--
*باحث متخصص في الأصوليات.


