حظي مفهوم المتخيل داخل حقل العلوم الانسانية والدينية في العقود الأخيرة، بأهمية كبيرة على صعيد مدلولاته ووظائفه المعرفية المختلفة. حيث أخذ هذا المدخل الجديد في ميدان الاناسة والتاريخ ومقارنة الأديان يميط اللثام عن مقاربة جديدة لدور العامل الرمزي في حياة الانسان التاريخي والمعاصر، وذلك انطلاقا من أن الخيال بقي حقيقة جزءا أساسيا من الوجود الاجتماعي لما له من قدرة كبيرة على تشكيل الصور الذهينة للانسان حول الأصول الأولى للناس والأمم، والخوف الذي تحدثه المجاهل المقلقة للمستقبل والحاضر، والوعي بالجسد المعيش، والاهتمام المتعلق بحركات النفس العفوية، كالأحلام مثلا، والتساؤل حول الموت وغيرها من المسائل الوجودية المحيطة به.
وعلى غرار ما فعله الكثير من الباحثين الغربيين الذين اهتموا بالمتخيل، من أمثال المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف في أبحاثه ومقالاته حول المتخيل في القرون الوسطى، وبشكل عام التيار الذي اهتم بدراسة البنى العقلية للمجتمعات أو تاريخ الذهنيات.
أخذ المرحوم محمد أركون يدعو عبر حفرياته في العقل الاسلامي، الى البحث في الطبقات الرمزية والوحدات الأسطورية الثاوية وراء النص القرآني وقصص الأنبياء، ومدى وظيفة ودور هذه ‘اللغة المنسية’ على حد تعبير ايريك فروم، في انتاج المعنى وفي بلورة الحقيقة التاريخية للجماعة منذ بداية بواكير الوحي النبوي الى أيامنا هذه.
والأهم من ذلك محاولة تحليل البنى الأنثربولوجية للمتخيل الاجتماعي للدين، والذي يتكون من تركيبة ديناميكية مؤلفة من الأفكار الايديولوجية التي تنتجها الفئات الاجتماعية والمذهبية المتنافسة من أجل الهيمنة على الرأسمال الرمزي للمجتمع، والتي يراد لها الهيمنة في الساحة الاجتماعية.
وما يثير الاهتمام في هذه الدعوات الساعية الى القيام بحرتقات معرفية داخل المخيال الأسطوري العربي، وبيان الوظائف النفسية والاجتماعية والثقافية للمتخيل داخل العقل الاسلامي. أن هذه الدعوات قد تزامنت في الحقل المشرقي العربي، مع حركة ترجمة لأعمال كلودليفي شتراوس ومرسيا الياد، التي أخذت تساهم في تقديم فهم جديد للأسطورة باعتبارها تمثل تاريخا مقدسا ومسألة حقيقية وليست خرافية بالنسبة للمؤمن والساعي الى الباحث في فضاءاتها الرمزية. الأمر الذي ساهم في بروز جيل جديد من المثقفين ممن أخذ يسعى الى تطبيق هذه الاليات الجديدة، في تفكيك النصوص الأسطورية التي نعثر عليها في فضاء الاسلام التاريخي واليومي، عبر البحث في الدلالات والتأويلات المتعددة التي جاءت بها هذه السرديات التاريخية/ الأسطورية، وعلاقة هذه الاستيهامات بالواقع الاجتماعي المحيط بها، ومدى قدرتها في الانفتاح على رؤية أعمق للمقدس الاسلامي.
ومن بين الأسماء الفاعلة في هذا السياق، يمكن الاشارة على سبيل المثال لا الحصر الى مجهود الاناسي العراقي فاضل الربيعي، الذي أخذ يسعى الى تلمس دروب جديدة في اكتشاف دلالات النص الأسطوري، والذي برز بشكل جلي من خلال كتابه الهام (ارم ذات العماد: البحث عن الجنة)، والذي رأى من خلاله أن البحث في الاخباريات الاسطورية داخل التراث العربي الاسلامي تتطلب قبل كل شيء اجراء احترازيا، عبر اخراج المسألة برمتها من اطارها الديني والقدسي، واعادة ادراجها في اطار التاريخ المتحقق. حينها لن تبقى أمام الباحث سوى خطوة لنكون على أعتاب امكانات جديدة للتحقق من هذه المرويات والقصص الأسطورية، من خلال اخراج المسألة مرة أخرى من حقل التاريخ كليا، واعادة رصفها في اطار الخطاب الأسطوري. الأمر الذي يتيح لنا حرية أكبر في التدقيق، ومجالا أرحب لفحص الدلالات الجديدة والمقاصد المباشرة التي جاءت بها المرويات الاسلامية.
وهنا لا بد من التأكيد على نقطة أساسية قبل الخوض في غمار مراجعة هذا الكتاب، أن ما دعانا الى التعريف برؤية الربيعي ليست بريئة، ولا نعني بذلك أن هناك انحيازا ايديولوجيا أو اجتماعيا يكمن وراء هذا الاختيار، وخاصة أننا في مناسبات سابقة قد وجهنا نقدا لبعض الاستنتاجات التي توصل اليها الربيعي في قراءته لتاريخ القرابات في مكة قبل الاسلام والتي وردت في كتابه (غزال الكعبة الذهبي).
بيد أن هذا النقد لا يلغي حقيقة أهمية الاعتماد على العديد من حرتقات وأدوات الربيعي، كمنهجية بحثية تقوم على قاعدة معرفية متينة في قراءة الحدث الأسطوري الاسلامي، الأمر الذي يساعدنا على عقد مقارنات ذات طابع منهجي بين هذه القاعدة والكتاب الذي نحن بصدد مناقشته، والذي يهدف الى تقديم قراءة اناسية لمسألة المعجزات الواردة في كتب قصص الأنبياء لتبيان حدود العلاقة بين النص الأسطوري الاسلامي والتاريخ الاجتماعي.
المعجزة في المتخيل الاسلامي:
يرى الباحث التونسي د. باسم مكي في هذا الكتاب الصادر حديثا عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود المغربية بالتعاون مع المركز الثقافي العربي في بيروت، أن المعجزة كما ترد في النصوص الاسلامية تمثل حديثا يروى وينتقل من محطة سردية الى أخرى. ومن الثابت علميا وعمليا أن أي ملفوظ شفوي ما أن يأخذ في الارتحال عبر مساره الشفوي والانتقال، حتى يأخذ في التعرض الى ما لا يمكن حصره من ضروب التحوير والتغيير، وهو ما يطرح قضية النقل الأمين لنص المعجزة. ذلك أن كل راو انما يضيف في نقله للخبر، ما ينسجم مع اليات اشتغال مخيلته وأفقه الذهني، ومن ثم فان صفة التخييلة في المعجزة ملتصقة بعمل الرواية. ما يفضي بنا الى القول بأن المعجزة ليست فعلا قوليا فحسب بل هي ايضا حديث متخيل. الأمر الذي يتطلب اخراج المعجزة وتحريرها من مجال الدراسات الدينية الى حقل البحث الاناسية، علنا من خلال ذلك نفتح افاق دلالية جديدة.
وبناء على هذه المقاربة لمسألة المعجزة، وبحكم التأويلات الرمزية والاجتماعية العديدة التي سعى الكاتب لاماطة اللثام عنها، والتي تحتاج حقيقة الى أكثر من قراءة ومقاربة، سنسعى في هذا المراجعة الى التركيز على قراءة المؤلف لرمزية ولادة العذراء لدى ابن عربي وذلك لسببين أساسيين:
الأول – ان الباحث في طرحه لهذه القضية داخل عوالم المتخيل الاسلامي، يبين مقصده العام من الكتاب. حيث يظهر لنا أن الاختلافات الواردة في النصوص الاخبارية الاسلامية حول طقوس الولادة المقدسة التي تحيط بالسيدة مريم، لا تأتي من رغبتها الظاهرية في اعادة ترتيب الحدث التاريخي كما وقع، بمقدار ما توفر لنا مدخلا مهما لفهم كيفية اشتغال الاجتماعي/ المذهبي في انتاج المتخيل الديني.
الثاني- ان صورة السيدة مريم في القرآن الكريم، قد حظيت في السنوات القليلة الماضية بعدد مهم من الدراسات في مجال علم الأديان المقارن كدراسة الباحث الفرنسي ميشيل دوس التي ترجمت في السنوات القليلة الماضية الى العربية بعنوان (مريم المسلمة). مما يوفر لنا فرصة القيام ببعض المقارنات السريعة بين هذه المقاربات الثرية، بشكل يسهم في اغناء رمزية النص القرآني والذي هو بحسب عبارة المرحوم محمد أركون ‘ذو بنية ميثولوجية’ بامتياز.
ولادة العذراء في المتخيل الصوفي:
يرى المؤلف، أنه اذا كان التفسير السني التقليدي قد رأى في ولادة العذراء دليلا على قدرة الله، فان التأويل الصوفي رأى فيه أمرا مختلفا. حيث يقول ابن عربي في تفسيره للآية: (وقالت رب أنى يكون لي ولد) ‘تعجب النفس من حملها وولادتها من غير أن يمسها بشر، من غير تربية شيخ وتعليم معلم بشري وهو معنى بكارتها’. أما في قوله تعالى (قال كذلك يخلق ما يشاء) فان معناها ‘أي يصطفي من شاء بالجذب والكشف، ويهب له مقام القلب من غير تربية وتعليم كما هو حال المجذوبين وبعض المحبين’.
وبذلك فان تأويل الشيخ الحاتمي – بحسب الكاتب – أخذ يغير من معنى الولادة. ذلك أن الولادة ما عادت تفهم على المعنى الظاهر من كونها انجاب ولد، انما أصبحت تفهم باعتبارها ولادة معرفية. والبكارة لا يقصد بها في نص المعجزة أن بشرا لم يمسس مريم وانما أصبحت البكارة دالة على تجلى المعرفة من دون تعليم شيخ أو تربية معلم. وبذلك فان السيدة مريم في ولادتها العذرية، تكشف عند الصوفي عن لحظة تجلي الحقيقة عبر مسار الترقي في سلم الكشف والجذب.
ومن جانب أخر يرى الباحث، أنه اذا كان ابن عربي في نصه قد نحا منحى تأويليا يشرع به لمصدر معرفته. فاننا نراه في نص ثان يبحث عن تفسير ‘منطقي’ لسر المعجزة من خلال الاستناد الى ‘العلوم الطبيعية’ في عصره، وهو بذلك يحاول أن يجد ‘تفسيرا علميا’ يدعم المعجزة. فينطلق من الوضعية الطبيعية حيث يكون منيّ الذكر قوة عاقدة ومنيّ الأنثى قوة منعقدة، ومن اجتماع هاتين القوتين تحصل الولادة ويتكون الولد، غير أن ولادة العذراء لا تنطبق عليها هذه الوضعية. فكان لا بد من أن تجتمع القوتان العاقدة والمنعقدة في مريم حتى يكون التخلق. وبذلك قرأ ابن عربي النص بمكتسبات المعرفة العلمية السائدة في عصره، وهو انطلاقا من هذا النص يجعل من مريم كائنا خنثويا شأنها شأن آدم. فاذا كان آدم من قبل قد تشكلت منه الأنثى من دون رحم، فان مريم مثلت وضعا معاكسا فتخلق منها الولد من دون ذكر.
ويخلص الكاتب الى أن الصوفي انما يسعى من خلال البحث في المعجزة عما يشرع به مقالته ويرسخ به طرائق معرفته، فيكون التأويل عاكسا بالضرورة لثقافة المفسر الصوفي، خادما لأغراضه، ناطقا بما يختمر في ذهن القارىء من مقالات وعقائد.
معراج مريم من التاريخ الى الأسطورة:
بناء على هذه القراءة التأويلية والاستنتاج المخيب لنا مقارنة بتفسيرات ابن عربي والتي يأتي الكاتب على ذكرها، يبدو لنا أن المعنى الظاهر هو الذي بقي يطفو على مستوى وعي الباحث، الأمر الذي دفعه وبحكم حماسته الصادقة في اكتشاف مجال الأساطير والظاهرة الدينية في التاريخ الاسلامي، وهي حالة عادة ما تغري كل الباحثين في هذا المجال، الى تقديم قراءة وظيفية للتأويلات المتعددة لقصص الأنبياء التي سطرها الاخباريون والمفسرون داخل النصوص الاسلامية التراثية بوصفها تعبر عن مجرد قراءات ايديولوجية مشغولة بالواقع الاجتماعي والسياسي والكلامي بين المدارس الاسلامية، مما عمق، باعتقادنا، من اشكالية فهم هذه النصوص، وهو ما نرده الى طبيعة المنهج الذي بقي الكاتب وفيا له. ذلك أن الدروب اليسيرة التي يعتمدها في فهم الأسطورة والمقدس تقطع في الحقيقة مع المستجدات النظرية التي شهدها حقل الاناسة الدينية، والتي باتت ترى أن تحليل النصوص الأسطورية أو البعد الاعجازي داخل هذه النصوص يتطلب المرور من دون توقف من التاريخي والاجتماعي نحو البنى الدينية الاكثر عمقا للتفكير، بحيث نغدو أصحاب آلة رائعة ذات أنغام جد متنوعة، ولا نكتفي بتحديد علاقة مناسبة على آلة وتر وحيدة.
ولعل ما يدل على بقاء الكاتب حائما حول تخوم الأساطير، دون أن يتملك الرغبة في شن ‘غارة اناسية’ بحسب تعبير شتراوس الى داخل عوالم الأساطير- وهو ما دعانا اليه الربيعي في المقاربة السابقة – وما تكشفه اعادة تقميشها من دلالات عميقة في التصورات الاسلامية مقارنة بتصورات الأديان الأخرى، هو ما يتمثل في النتيجة التي يتوصل اليها رغم حديثه عن الدلالات الرمزية لولادة العذراء عند ابن عربي حيث يرى ‘أن النص الصوفي، وان تفطن الى النفس الواحدة، فانه لم يستطع أن يطور تأويله فيخرج عما هو سائد ليفتح أبوابا في التأويل جديدة تسمح بإقرار التساوي بين الذكر والأنثى’ ص71، قاطعا بذلك مع العديد من ‘الفتوحات الدلالية’ التي جاء بها بعض الباحثين العرب والمستشرقين في قراءتهم لفكر الشيخ الأكبرالخلاق، والذي يعكس – برأيهم – في عمقه وشموليته خطاب الأنوثة (هنري كوربان، نزهة براضة).
بينما نعتقد ومن خلال الاعتماد على ما كتبه الباحث الفرنسي ميشيل دوس الذي ينطلق من نفس النظرة الصوفية لطقس الولادة المقدس المريمي، أن هذا التأويل ربما يؤسس لمدلولات جديدة داخل الفضاء المقدس الاسلامي.
ذلك أنه في قصة الخلق الأولى والتي يأتي على ذكرها العهد القديم التوراتي، والعديد من النصوص التراثية الاسلامية – رغم أننا لا نعثر في النص القرآني على ما تذهب اليه الرواية التوراتية – تخلق حواء من ضلع آدم الأعوج، الأمر الذي حط برأي البعض من شأنها وجعلها في درجة أقل تشريفا من آدم في الضمير الجمعي للمسلمين، ذلك أن النظام الاجتماعي – بحسب بورديو – يشتغل باعتباره آلة رمزية تصبو الى المصادقة على الهيمنة الذكورية عبر الأساطير التأسيسية للجماعة.
أما في قصة ولادة العذراء وبحسب رأي دوس فان الله يعيد ترتيب قصة الخلق من جديد، فيولد عيسى (الرجل) من جسد المرأة التي من خلال قصة مريم الرمزية تعود – بحسب ابن عربي – لتحمل روائح التكوين في ذاتها كخاصية جوهرية تنطوي على سر الوجود، الامر الذي يحدث انقلابا في مكانة المرأة داخل الرؤية الدينية الاسلامية بعكس ما توصل له الباحث.
كاتب سوري


