باريس ـ من محمد سيف: عندما سَئِلَ بريشت في عام 1926: ماذا تكتب الآن؟ أجاب: مسرحية كوميدية، بعنوان ‘رجل برجل’، حيث يجري فيها تفكيك للإنسان، الذي يعاد تجميعه وتركيبه من جديد في جلد شخص آخر. ومن الذي يقوم بهذه العملية؟ اجاب: ثلاثة مهندسين عاطفيين. وهل التجربة تعتبر ناجحة؟ اجاب: نعم، من أجل ارضاء الجميع. وهل يولد، من جراء هذه العملية، انسان مثالي؟ أجاب: لا، ليس بشكل خاص.
تتحدث قصة هذه المسرحية، عن رجل يدعى ‘كالي كاي’، يخرج في احد الايام من بيته لكي يشتري سمكا، فتلتقيه دورية عسكرية، فقدت احد أفرادها الاربعة، ويجب عليها أن تعثر على شخص آخر يحل مكانه، بسرعة فائقة، لتتجنب ثورة وغضب الرقيب ‘فيرتشايلد’، الرهيب. إن ‘كالي كاي’، رجل لا يعرف ان يقول لا، لأحد. ليس لأنه رجل ضعيف كما يمكن أن نعتقد، بل على العكس، انه الأقوى، ويصبح كذلك بالفعل، بدءا من اللحظة التي ينصهر فيها بالكتلة العسكرية، ويكف عن أن يكون شخصا له ذاته الخاصة. كالي كاي، يتبع الجنود الثلاثة، وشيئا فشيئا، يتكيف مع الملابس، ويتبنى المواقف، والافكار التي يجب أن يمتلكها المحارب في حالة الحرب. وهكذا يتم تفكيكه وتجميعه وتركيبه مثل سيارة جديدة، لكي يتأقلم مع مجريات الأمور في العالم، وليصبح، في النهاية المطاف، محاربا قويا يبعث على الخوف. إن الجيش في مجتمع ما بعد الحرب العالمية الأولى، كان يريد عصرا تتكاثر فيه الكائنات الخالية من الجوهر، الهجينة، والقابلة للتغيير، والتي تكون كتلة صلبة في الآلة الاقتصادية والصناعية والعسكرية العظمى.
لدى برشت، كما هو الحال دائما، شخصيات كثيرة، ومتنوعة، مصائرهم متداخلة باستمرار في جو مرح المتاهة. نعثر في هذه الكوميدية التهريجية على بدايات الأسئلة الكامنة في مسرحية ‘دائرة الطباشير القوقازية’، لبريشت. ما الذي يحدد هويتنا؟ الولادة أم التربية؟ وحتى إذا جردنا الانسان عن اسمه، فهل يصبح شخصا آخر؟ هناك الكثير من الافكار والتأملات التي قام بها وجربها بريشت على المسكين ‘كالي كاي’ في مسرحيته. ولكن خلافا لكل المظاهر، لعل هذا الأخير، ليس مجرد ضحية بريئة. ففي مجتمع يسيطر عليه الوهم، ‘كالي كاي’ وحده الوحيد القادر على اختيار تحوله. يحاول بريشت أن يقول لنا هنا، بأننا كثرة، ويجب علينا أن نهيئ انفسنا، ونستوعب هذا التغيير في حالة دائمة ونهائية.
إن موضوع المسرحية يتحدث عن عملية تجريد الفرد من شخصيته لصالح المجتمع الذي يستخدمه من دون هاجس. ولكن، نحن لا نعرف فيما إذا كان ‘كالي كاي’ قد فقد نفسه وروحه حقا، عندما اخذ مظهر جندي متعجرف، أم لا ؟، ولكن هذا السؤال يمكن طرحه على رجل المجتمع، والرجل العادي اللذان اجتمعا هنا في هذه المحاكاة الساخرة للشرط الانساني، المكتوبة بلهجة قاسية تؤكد على أكثر الحالات بشاعة. تتحدث المسرحية، عن دوار الهوية الذي يغرق الحبكة في دوامة من التهور، والتراجيدية، والكوميدية؛ عن إزالة هوية رجل، ووضعها في جلد نسخة أخرى اكثر ترتيبا ربما. إنها، أي المسرحية، تضع الفرد أمام الهاوية مباشرة، وعندما نقرأ حكايتها نصاب بنفس الدوار الذي أصاب صاحبنا ‘كالي كاي’، عندما كان أمام نعشه الخاص:
وإذا كنت خيالا؟ وإذا كان الرجل، ليس إلا صفحة بيضاء فارغة، نستطيع في أوقات الفراغ، محو هويته ورسم شخصية جديدة؟ فتجيبه الأرملة بغيبك: لا تتعب نفسك بذكر اسمك، ما الفائدة؟ طالما أنك تقصد به دائما شخصا آخر؟
ماذا يبقى من الانسان عندما نجرده من تاريخه، وعائلته، بل وحتى من اسمه؟ كالي كاي: إذن، بإمكاني أن أصبح شخصا آخر، وهكذا يصبح ‘كالي كاي’، الجندي ‘جرايا جيب’، كلبا من كلاب الحرب.
ان تكون، يعني أن تصبح. وبصرف النظر عن حركة الكينونة هذه، أو بعيدا عنها، لم يعد فعل التحول، إلا ضرب من الخيال فحسب. علينا مراقبة هذا الذي يبقى من الانسان عندما يتم تجريده عن هويته. هل سيستسلم إلى شهواته كليا، مثلما حصل لصاحبنا ‘كالي كاي’؟ ثم، هل أن ما حصل له بسبب مكائد ثلاثة جنود مكلفين بمهمة حقيرة، حقا ؟، جزئيا نعم. ولكن بريشت نفسه يثير انتباهنا إلى: ‘أن كالي كاي هو دهشتنا الكبرى، وعالمنا المعاصر، إنه يدافع عن نفسه من خلال جعل قضيته تأخذ شكلا مأساويا، ويربح، في نهاية المطاف، نتيجة لتداخل المواد في جوهر روحه، بدليل أنه بمجرد ما تنتهي عملية تغير اسمه وشخصه، يصرح بأنه في صحة جيدة. إذن، إننا لسنا امام مسرحية تتحدث عن عملية غسل الدماغ. لأن ‘كالي كاي’، الوحيد الذي يبادر في عدم الرد، على اسمه، ولم يعد يتعرف عليه.
كالي كاي: من هذا الذي يحضرونه ؟
بغبيك: شخص اعدم في اللحظة الاخيرة.
كالي كاي: ما اسمه ؟
بغبيك: اذا لم تخني ذاكرتي فاسمه كالي كاي.
كالي كاي: وماذا سيجري له؟
بغبيك: لمن ؟
كالي كاي: لكالي كاي هذا.
بغبيك: سيدفنونه الان.
كالي كاي: هل كان انسانا طيبا ام شريرا ؟
بغبيك: كان رجلا خطيرا.
هناك سر عميق، هو أننا لم نصنع من تراكب حالاتنا المتعاقبة، مثلما يفكر مارسيل بروست؟ كائنات تنزع نفسها باستمرار، مثل الافاعي، وتنظر إلى جلودها القديمة دون الاعتراف بها؟ لقد كان برشت اكثر وضوحا من بروست، عندما قال: ‘الذات المستمرة هي خرافة’. الانسان يتخلى عن قناعه الخاص من اجل ان يصنع له، على الفور، واحدا آخر. ومن هوية إلى أخرى، ومن حزن إلى ثان يرسم الانسان مساره، وحركته، وأثره. مثل قلم الرصاص في الرسم اليدوي، حيث يأخذ القلم، في كل لحظة، اتجاها مختلفا، ويرسم شيئا مختلفا عن الشكل الأول. وكلما يتردد القلم في اليد، ينفتح عالم ممكن، نحو الأفضل أو الأسوء. وفي الفترة الفاصلة بين القديم والجديد، تولد الوحوش.
لقد نشرت مسرحية ‘رجل برجل’ في عام 1927، أي في الوقت الذي عرفت اعمال هذا المؤلف البافاري الذي يدعى ‘بريشت’ العظمة، والانحطاط مع صعود النازية. إذن، ألم تكن هذه المسرحية نوعا من التنبؤ والاستشراف للاضطراب الوجودي الذي عانى منه بريشت فيما بعد ؟، وربما لهذا السبب، قد قال عنها، في عام 1939: ‘إن مشكلة هذه المسرحية، هو الكذب الجماعي، والفرقة السيئة، والقوة الاغرائية’. إن الكذب الجماعي، بمثابة تنديد بتأثير النظام النازي، الذي دفعه إلى المنفى، في السويد، وفنلندا، وكاليفورنيا في عام 1941. والفرقة السيئة، فرقته وانقطاعه عن والديه في عام 1918، والاعراب الصريح عن مرارته من امريكا، التي طردته من أراضيها في عام 1947، ومن الحلفاء الذين لم يسمحوا له بالعودة إلى ألمانيا الغربية. أما القوة الاغرائية، فهي بصمة رجل مسرح يشار إليه دائما من خلال أعماله، التي أكسبته امكانية الاستقرار في برلين الشرقية، وتأسيس فرقة مسرح البرلين انسامبل، مع زوجته هيلين فايكل، الموجودة دائما حتى وقتنا الحاضر.
ما الذي يصنع جوهر الانسان؟ يحاول المخرج الفرنسي ‘كليمنت بواري’ الاجابة على هذا السؤال الوجودي الذي وضعه بريشت على المسرح في شبابه، من خلال مسرحية ‘رجل برجل’. ولكن، لكي يقص علينا المخرج ‘كليمنت بواري’، هذه الحكاية، اختار سينوغرافيا، على هيئة بناء معدني ضخم، وكأنه معمل لصنع القرطاسية أو مطبعة، على ما يبدو، مع لفات ضخمة من الورق. بحيث بدت هذه السينوغرافيا، وكأنها ليس لها أية علاقة مع حبكة المسرحية، ولكن عناصرها، سمحت شيئا فشيئا، بتشكيل مرة، معبدا بوذي، وأخرى، مطعما للجنود، أو قاطرة قطار. وفي عمق المسرح، أبواب زجاجية كبيرة تفتح على التاريخ وتغلق على السرد. وقد ترك الاخراج مجالا كبيرا إلى الكوميدية الجسدية، بحيث نعثر في المشاهد الأولى للمسرحية، على أجواء تذكرنا بالسينما الصامتة. وكان الممثلون يجسدون هذا النوع من اللعب ببراعة مدهشة، مستحضرين من خلاله شخصيات نمطية مشهورة جدا في عالم الفن. ولكن في نهاية المسرحية، أصبحت لهجة العرض أكثر جدية، واتخذت شكل الصرامة، واكتسب الروي فيه عمقا، وذلك من خلال طرحه ضمنيا للسؤال التالي: هل أن الانسان قابل للاستبدال؟ وأمام الضغط، يوافق ‘كالي كاي’ على انتحال هوية أخرى، لأن ذلك أفضل دائما من أن يطلق عليه الرصاص. إن مسرحية ‘رجل برجل’، تذكرنا من خلال نكاتها الهزلية الساخرة، بأن نفي الانسان، يبدأ دائما بحيلة.
تبدو هذه المسرحية كما لو أنها وعاء يغلي على خشبة المسرح، مشاهد المسرحية أصلية، خيالية، واحتفالية، تلعب فيها شخصيات فاحشة بشكل خاص، مثل الرقيب تشارلز فيرتشيلد، الملقب بالخماسي الدموي، وصاحبة الحانة ليوكاديا بغبيك. ولقد استدعى الإخراج الخيال بحيوية كبيرة، وتوزيع للأدوار ملفت للنظر. إن ‘رجل برجل’، مسرحية غنية جدا، ويستحق اختراقها نوع من الصمت، ويجب علينا أن نعترف بأنها كما هي تعتبر مسرحية كثيفة جدا، وكثيرة الخصال، وإنها تطلب من مشاهدها نوعا من المسافة عند رؤيتها. ولقد أختار المخرج ‘كليمنت بواري’، أن يذهب نحو هذه المسرحية، مشيا على الأقدام، دون تشذيب، أو حذف أو تقصير من طول مسافتها. وربما كان الاجدر به ان يقلل قليلا من طولها، ويكثف من احداثها اكثر فاكثر، كي لا يسمح لتسلل الضجر إلى بعض المشاهد. فالضجر شيطان ثقيل المعشر، ما أن يحل ضيفا على العرض مرة، حتى يصعب التخلص منه بسهولة، فهو يدعو المتفرج للكلام مع من بجانبه، ويسمح له بالتأفف، أو للالتفات يمنة ويسرة أحيانا، وهكذا دواليك. ولكن على الرغم من ذلك، فقد كان العرض على النحو الذي شاهدناه فيه، حدثا مدويا، وصدى حادا وقويا، ربما، لأن اللوحات التي اقتبسها بريشت من العصر الكولونيالي، لم تنتهي بعد من تحديها لنا. وربما أن المخرج أراد ان يجعلنا امام أنفسنا من خلال استنطاقه لشريط الماضي القديم الذي مازال يمارس علينا تأثيره، لا سيما ان الاستعمار لم ينتهي بعد، حتى وان رحلت آلته الحربية وجيوشه المدججة، يبقى جاثما على الصدر مثل كابوس ليس له نهاية.


