باريس / الليموند / تمّت دعوة جميع الفلسطينين من الخارج ومن الأراضي المحتلة إلى التوجه في تظاهرات يوم 15 آيار/مايو المنصرم نحو الحدود الاسرائيلية. وطلب منهم عدم اللجؤ إلى العنف والتسلّح فقط بالأعلام الفلسطينية. جاءت هذه التعبئة المستوحاة من الثورات العربية نتيجة فشل مفاوضات السلام والمأزق الاستراتيجي الذي تواجهه كلّ من فتح وحماس. صور الفلسطينيين المتجمّعين عند الحدود الاسرائيلية، في 15 آيار/مايو 2011 كانت حلماً للبعض وكابوساً للبعض الآخر. ففي الذكرى الثالثة والستين لإعلان استقلال الدولة اليهودية، وهو يوم "النكبة" من جانب الفلسطينيين المبعدين بمئات الآلاف عن ديارهم، اتجه المتظاهرون القادمون من سوريا [1] أو لبنان و الأردن وغزّة نحو أرض الميعاد. لم يكونوا سوى بضعة آلاف، لكنّ العالم بات يتساءل: ماذا لو قام غداً ملايين اللاجئين بمسيرةٍ سلمية لزعزعة الحدود والجدران؟ وهل قرّر هؤلاء اللاجئون الذين أهملتهم منظمة التحرير الفلسطينية منذ اتفاقية أوسلو عام 1973، وبعد أن كانوا في أساس اليقظة الفلسطينية في الستينات، تقرير مصيرهم بأيديهم؟ تطالب اليافطات في رام الله بدعوة جميع الفلسطينيين (في الضفة وغزة، كما بيروت أو عمان) إلى انتخاب مجلسٍ وطنيّ تمثيلي لشعب الشتات، وتدعو إلى إعادة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. فهل نحن أمام مرحلة جديدة من حرب التحرير؟ هكذا جاء الجواب الإسرائيلي الفظّ - مقتل 14 فلسطيني عُزّل يوم 15 آيار/مايو - على مستوى القلق الذي انتاب المسؤولين في الدولة العبرية. كذلك يصعب على كلّ من فتح وحماس التجاوب مع هذه النزعة غير المسبوقة من قبل "الشارع الفلسطيني"، المندرجة في سياق الثورات العربية. وهذا ما دفع الشقيقان اللدودان إلى ابرام اتفاقٍ وُقّع في القاهرة يوم 4 آيار/مايو الماضي، من قبل ممثّلين عن ثلاثة عشر فصيلٍ فلسطيني. ينصّ الاتفاق على تشكيل حكومة من التكنوقراط، وإطلاق سراح المعتقلين في الضفّة الغربية أو غزّة، وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في مهلة عام، وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة توحيد أجهزة الأمن على قاعدة مهنيّة بحتة. وقد أعطيت الأولوية لإعادة بناء غزّة التي تعاني الحصار. لم يكن مستغرباً أن تسارع إسرائيل إلى رفض هذا الاتفاق. فقد طالب رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو فتح أن تختار بين السلام وحماس. لكنّه تجاهل التذكير بأن المسؤولين الإسرائيليين يبرّرون تردّدهم في التوصّل إلى اتفاق مع محمود عباس (رئيس السلطة الفلسطينية وامين عام منظمة فتح) بحجّة أنّه لا يمثّل سوى نصف الفلسطينيين. وبنوعٍ من الصلافة، ادّعى نتانياهو أن حماس هي "الصيغة المحلية لتنظيم القاعدة" [2]. وقد أقرّ الرئيس الأميركي باراك أوباما بهذا الموقف المتصلّب عندما أكّد في خطابه في واشنطن بتاريخ 19 آيار/مايو تفهّمه "للتساؤلات الإسرائيلية المشروعة والعميقة، فكيف لها أن تتفاوض مع طرفٍ يرفض الاعتراف بحقّها في الوجود؟". مع ذلك، فإن أوباما وناتانياهو يعرفان ما ينصّ عليه اتفاق اوسلو الذي لا ينفكّان عن التذكير بمرجعيته: أنّ المرجع المخوّل بالتفاوض مع إسرائيل حول الوضع النهائي للأراضي العربية المحتلة هو منظمة التحرير الفلسطينية (وليس الحكومة الفلسطينية)؛ والحال أنّ حماس ليست جزءاً من منظمة التحرير. كما تجاهل المسؤولان تصريحات خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي كرّر تأييده لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة تكون عاصمتها القدس، مؤكّداً أن حماس ستتخلّى عن العنف في حال قيام هذه الدولة. فاجأ الاتفاق بين فتح وحماس جميع المراقبين الذين كانوا يتابعون منذ سنوات المفاوضات المتعرّجة والمضنية بين الطرفَين. ويبقى من الصعب التكهّن بمقدار حسن تطبيقه، حيث ما يزال الغموض يكتنف بعض النقاط مع تجذّر الحذر المتبادل. إلاّ أنّ العوامل الدافعة إلى هذا الوفاق قوية، منها الفلسطيني الداخلي، ومنها ما يتعلّق بالتطوّرات الإقليمية. فالطرفان يواجهان تصاعد حركة احتجاجية في كلّ من الضفّة وغزّة. شعارها المركزي لم يكن "الشعب يريد إسقاط النظام" كما في سائر البلدان العربية. والسبب، كما يوضح المثقف جميل هلال، في رام الله: أنّ "لا نظام لدينا ولا دولة. مجرّد سلطة وفوقها الاحتلال". هكذا هتف آلاف الشباب: "الشعب يريد إنهاء الانقسام". واضطرّ كلّ من فتح وحماس أخذ هذه المطالب الشعبية في الاعتبار. خصوصاً وأنّهما يواجهان كلّ من جهته مأزقاً استراتجياً. إن عملية السلام التي راهنت عليها فتح بكلّ شيء منذ العام 1993 قد دُفنت منذ سنوات. لكن مع سقوط نظام الرئيس مبارك، العرّاب الرئيسي لهذه العملية، اضطرّت حركة فتح برئاسة محمود عباس للتوقيع رسمياً على وثيقة الوفاة. فالتطوّرات القائمة مع توسّع الاستيطان - يوم ألقى الرئيس اوباما خطابه حول الشرق الأوسط، أعلنت الحكومة الاسرائيلية عن الترخيص لتشييد 1550 وحدة سكنية في القدس الشرقية - تفرغ الحوار مع إسرائيل من أيّ معنى. أمّا حماس التي تتبنّى نهج "المقاومة"، فهي تحافظ على وقف إطلاق النار مع إسرائيل وتفرضه، بالقوّة إذا لزم الأمر، على سائر الفصائل الفلسطينية. فواجهت بالتالي مجموعاتٍ سلفية، بعضها مرتبط بتنظيم "القاعدة"، تتّهمها بالتخلّي عن الكفاح المسلّح في وجه "العدو الصهيوني" وبعدم السعي إلى أسلمة المجتمع على الصعيد الداخلي. وجاء الإنذار مع اغتيال السيد فيتوريو أريغوني، المناضل الإيطالي لحقوق الشعب الفلسطيني، على يد مجموعةٍ متطرّفة. أخيراً، يتقلّص نفوذ حماس بفعل استمرار الحصار الإسرائيلي والصعوبات اليومية التي يعانيها السكّان. كما يعاني الطرفان من أزمة مشروعيّة. فسلوكهما السياسي - التسلّط والزبائنية والفساد، إلخ - لا يختلف كثيراً عما هو سائد في العالم العربي، ويثير نفس الاحتجاجات ونفس التطلّعات نحو الحرية. هكذا دفعت زعزعة المعطيات الاقليمية إلى التوافق. ففتح قد خسرت مع مبارك أفضل حلفائها، والتظاهرات في سوريا وما استتبعته من قمعٍ عنيف، أضعفت إحدى الدعائم الأساسيّة لحركة حماس، خصوصاً أن دمشق تستضيف قيادة حماس في الخارج بعد طردها من الأردن. وفي 25 آذار/مارس، أدان الشيخ يوسف القرضاوي،أحد الدعاة الأكثر شعبيةً في الإسلام السنيّ والمرتبط بالإخوان المسلمين (المنبثقة عنهم حركة "حماس")، بشدّة نظام الرئيس بشّار الأسد، مؤكداً أنّ حزب البعث لا يمكنه أن يحكم سوريا بعد اليوم. وبالرغم من ضغوط دمشق، لم تبادر حماس إلى مساندة داعمها الرئيسي. انزلاق إقليمي آخر يثير قلق الحزب الإسلامي. إذ تأجّج النزاع مع إيران بفعل قمع الثورة الديموقراطية في البحرين والحملة المعادية للشيعة في بلدان الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. والواقع أنّ رجال الأعمال الأغنياء في الخليج، ومنهم المتبرّعين لصالح حماس، لا ينظرون بعين الرضى إلى تحالف هذه الأخيرة مع طهران. من هنا فرض التقارب مع مصر السنيّة نفسه، وهو تقاربٌ بات أسهل بعد التغييرالحاصل في القاهرة إثر الإطاحة بالرئيس مبارك. فمن دون القطيعة مع الولايات المتحدة، ولا إعادة النظر في اتفاقية السلام مع إسرائيل، تحرّرت مصر من تبعيتها للمصالح الأميركية والإسرائيلية. فمبارك كان يعارض الوحدة بين فتح وحماس، خصوصاً بسبب خشيته من نفوذ الإخوان المسلمين داخل بلاده. فكان يعتبر غزّة قبل كلّ شيء مسألة أمنية، ويشارك في حصارها. وكذلك ترأس حملة المواجهة العربية مع طهران. لم تعد تلك المخاوف مطروحة اليوم، طالما يستعدّ الأخوان المسلمون للمشاركة في انتخابات أيلول/سبتمبر القادم، وربما للدخول في الحكومة العتيدة. فالمناخ الديموقراطي الجديد يسمح بالتعبير عن تضامن المصريين مع الفلسطينيين، وهذا ما لا يمكن للحكومة تجاهله. وكان وزير الخارجية المصري قد أعلن عن فتح معبر رفح، واصفاً الحصار الاسرائيلي على غزّة بالـ"مخجل" [3]. أمّا رئيس الأركان سامي عنان، فقد حذّر إسرائيل، في صفحته على "الفايسبوك": "على الحكومة الإسرائيلية أن تتحلّى بضبط النفس عندما تتناول محادثات السلام. وعليها أن تحاشي التدخّل في الشؤون الداخلية الفلسطينية" [4]. يلخّص محمود شكري السفير المصري السابق في دمشق التحوّل جيّداً: "كان الرئيس مبارك ينحاز دائماً إلى جانب الولايات المتحدة. اليوم اختلف التفكير تماماً. نريد خلق ديموقراطية نموذجيّة في المنطقة، على أن يكون لمصر نفوذها الخاص" [5]. هذا التبدّل يترجم بذوبان لجليد العلاقات مع طهران، التي رحّبت - كما دمشق - بالاتفاق الداخلي الفلسطيني. استجابة لهذه المعطيات الإقليمية الجديدة، وإزاء فشل وساطته في النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، - التي تأكّدت مع استقالة المبعوث الأميركي الخاصّ بالسلام في الشرق الأوسط، جورج ميتشل - تحدّث السيد أوباما مجدّداً في 19 آيار/مايو عن الشرق الأوسط بعد سنتين من خطابه الأوّل في القاهرة، الذي كان قد توجّه فيه إلى العالم الاسلامي. أراد أن يظهر أنّ بلاده تقف "في الجانب الصالح من التاريخ" بينما المنطقة في حالة غليان؛ وأعلن عن الرغبة الأميركية في المزج بين المصالح والقيَم، فاستنكر مثلاً القمع الذي مارسته حكومة البحرين حيث مركز قيادة الأسطول الخامس الأميركي، دون الإشارة إلى السعودية التي مدّت يد المساعدة في ذلك للمنامة. قبل خطاب أوباما، أعلنت وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلنتون بأنّ "الموقع الرياديّ الأميركية ضروريّ أكثر من أيّ وقتٍ مضى". لكنّ معلّقين آخرين، أمثال روبرت درايفوس، يتساءلون في أسبوعية "the Nation": هل هناك من ما زال يستمع إلى الولايات المتحدة في المنطقة؟ [6]. فبعد إشارته إلى الأخطاء في باكستان وأفغانستان، يقول: "ترفض إيران، بالرغم من العقوبات المكلفة والتهديد المتكرّر بالتدخّل العسكري، ليس فقط أي تسويةٍ حول برنامجها النووي، بل تستمرّ في دعم الحركات المعادية لأميركا في العراق ولبنان وفلسطين وبلدان الخليج. فالعراق المنبثقة حكومته من اجتياح العام 2003، قد رفض أيّ بقاءٍ للوجود العسكري الأميركي على أرضه، ويعرب مسؤولوه عن ارتياحهم للتحالف الجديد مع طهران". كما تبدي السعودية استياءً عالي النبرة من الطريقة التي تخلّى بها أوباما عن الرئيس مبارك وانتقاده لعملية القمع في البحرين. أمّا السيد نتانياهو، فبعد أن قاوم بصعوبة الضغوط لوقف الاستيطان، فإنّه قد رفض العودة إلى حدود حزيران/يونيو 1967، التي كان قد أكّد عليها أوباما؛ ورفض رئيس الوزراء الإسرائيلي حتّى اعتبارها قاعدةً للتفاوض، بالضبط ما كان قد اقترحه الرئيس الأميركي كحلّ. وخلال لقاء الرجلَين في البيت الأييض يوم 20 آيار/مايو، وبوقاحة من يعرف أنّه فوق العقاب، أعطى نتيانياهو محدّثه درساً في التاريخ والجغرافية السياسية. وفيما يتجاوز الدعاية المعطاة للخلاف بينهما، فإنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي أسرّ لمستشاريه قائلاً: "كنت قلقاً من تلك المقابلة لكني خرجت منها مطمئناً" [7]. في حين حيّى الرئيس أوباما "العلاقات الاستثنائية بين البلدَين"، وهو المبداً الثابت الوحيد في المنطقة، وأيضاً العقبة الرئيسية أمام قيام دولة فلسطينية، بالرغم من إعلان السيد أوباما قيامها عام 2011، وسلفه جورج والكر بوش توقّع إعلانها في عام 2005، ومن ثمّ 2008. قبل 17 شهراً من الانتخابات الرئاسية الأميركية، لا تبدو قدرة السيد أوباما على فرض هذا الهدف حاسمة. لكن هناك أمر واحد مؤكد: عندما ستنعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر المقبل، لإقرار ضمّ الدولة الفلسطينية الجديدة بحدود العام 1967 إلى صفوفها، فإنّ الولايات المتحدة سوف تعارض. بالضبط كما ترفض ممارسة أيّة ضغوط على حكومة تنتهك منذ عشرات السنين جميع قرارات الأمم المتحدة، حتّى تلك التي صوّتت عليها واشنطن. لكنّها قد تضحى معزولة في موقفها هذا. فالاتفاق بين حماس وفتح، وقيام حكومة وحدة وطنية فلسطينية والتعنّت الإسرائيلي، كلّها عوامل تخلق مناخاً يلائم تطلّعات الرئيس عبّاس. حتّى أن عدداً من الدول الأوروبية قدّ قرّرت دعم هذه التطلّعات. حتماً تستطيع مرّة أخرى استخدام حقّها في النقض. إلاّ أنّ تصويت كاسحاً في الجمعية العمومية سيسمح للدولة الفلسطينية أن تصبح على الأقل عضو مراقب في المنظمة (في حين وحدها منظمة التحرير تتمتّع اليوم بهذه الصفة)، كما هو حال سويسرا؛ وأن تنضم إلى منظّمات الأمم المتحدة المختصّة (كاليونسكو، ومنظمة التغذية والزراعة، الفاو، إلخ)؛ وان تطرح مسألة احتلال دولة (وليس فقط "أراضٍ") أمام الرأي العام والقضاء الدوليين. وسيشكّل هذا خطوة، متواضعة، ولكنّها رغم ذلك خطوة إلى الأمام. [1] كون سوريا قد سمحت للمتظاهرين بالعبور إلى الحدود يشكّل إشارة إلى تل أبيب وواشنطن بأنّ زعزعة النظام في دمشق ستشكّل تهديداً لأمن اسرائيل. [2] « le Hamas, Réplique Locale d’Al Qaida » ; israel7.com, 5/5/2011. [3] « Egypt to throw open border crossing with Gaza », Ahram on line, Le Caire, 29/4/2011. [4] « Egypt to open Rafah Crossing », Y-net, Tel-Aviv, 29/4/2011. [5] David Kirkpatrick, « In Shift, Egypt Warms to Iran and Hamas, Israel’s Foes », New York Times, 28/4/ 2011. [6] « Obama Gives Major Middle East Speech—But Is the Region Still Listening? », The Nation, New York, 19/5/2011. [7] Steven Lee Myers, « Divisions Are Clear as Obama and Netanyahu Discuss Peace », New York Times, 20/5/2011. نشرة حزيران