بداية لسنا بحاجة الآن للحديث عن تلك العوامل والنوايا والظروف التي هيأت للمصالحة بين حماس وفتح ، فهذا يفتح لنا الباب أمام نزغات شيطانية وإساءة الظنون ، يكفي القول أن الخطوة الأولية في القاهرة للمصالحة تعتبر خطوة مخلصة وقفزة شجاعة مبنية على تحدي الإرادات والعوامل الداخلية والخارجية التي كانت تحول دون تحقيق المصالحة ، لكن يمكن القول أن هناك نضجاً وفهماً إيجابياً بأعلى المستويات لما أفضي إليه الانقسام من نتائج كارثية على الكل الفلسطيني ، فاستشعار المسئوولية وعظمة التحديات ، وطبيعة المرحلة الحرجة التي تمر بها القضية الفلسطينية ، و معاينة الأضرار النفسية والاجتماعية والفكرية للانقسام هي العوامل الأساسية التي كانت وراء الإقدام على تلك الخطوة المسئولة من قادة حماس وفتح ، ومن هذا الوجه نحن كمفكرين نثمن تلك الخطوة ونبارك للشعب الفلسطيني هذه المناسبة العظيمة ، ونشكر القادة في حماس وفتح على هذه الخطوة الجريئة .. و لكن ماذا بعد التوقيع ؟ طبعاً لا يختلف اثنان أن الانقسام ألقى بظلاله الكئيبة على مجموع النسيج الاجتماعي وأفرز ثقافة وطريقة تفكير تحتاج إلى جهد مخلص لإعادة ترميم نتائجه وثمراته ، فالمصالحة ليست فقط توقيع على الورق وبعض الإجراءات العامة التي تعيد ترتيب كل من حماس وفتح في كل من غزة والضفة ، بل المصالحة أيضاً تشمل إعادة صياغة العقلية الفلسطينية لتنسجم مع قيم التعاون بعيداً عن قيم التنازع ، وفي نظري أننا بحاجة إلى عدة خطوات هامة في هذا المجال ، أذكر بعضها على سبيل المثال . الخطوة الأولى : استدامة الإرادة الصادقة عند الأخوة الفرقاء نحو إعادة ترميم النسيج الفلسطيني واستخلاص العبر من تجربة الانقسام بما يحول دون العودة إليه أو التفاعل مع الأسباب المفضية له ، يقول الله سبحانه وتعالى : « إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا » [النساء : 35] فحتى يكون التوفيق لابد من استدامة إرادة الإصلاح . الخطوة الثانية : الخروج من دائرة قيم النزاع نحو قيم التعاون . قيم التنازع تقوم على فكرة ( أنا أو الفناء ) وهذه الفكرة لها تراكماتها وآثارها بما يسهم في التآكل الداخلي ، ويعزز التعبئة الفئوية على حساب المجموع ، وقيم التنازع قد تكون في بدايتها خادمة لحزب على حساب غيره لكنها كطريقة تفكير ترسخ تدريجياً في اللاشعور وتتحول إلى متوالية لا متناهية تصب بداية خارج الحزب ثم تبدأ بعد ذلك في التوجه إلى داخله من خلال تحويله إلى دوائر متعددة لكل دائرة مصالحها التي تتعارض مع مجموع الدوائر الأخرى ، من هذا الوجه يجب توجيه طريقة التفكير داخل الأحزاب خاصة الكبيرة إلى ضرورة استبعاد هذه القيم من دائرة تفكيرها والاتجاه نحو قيم التكامل والتعاون مع الآخر والاجتماع على نقاط الاتفاق وجعلها تطفو على السطح في واجهة التفكير وبالمقابل تغييب نقاط الاختلاف أو على الأقل إخراجها من دائرة الهيمنة الفكرية . الخطوة الثالثة : تعزيز قيمة السماحة في المجتمع ، وهذا يقتضي من الدرجة الأولى ترشيد الخطاب الديني وتوجيهه نحو تفعيل هذه القيمة ومحاربة كل العوامل المثبطة أو المغيبة لها ، إضافة إلى ضرورة مشاركة كل شرائح المجتمع الفكرية في تعزيز هذه القيمة .الخطوة الرابعة : الانطلاق من التعبئة نحو التربية ، ومرد التعبئة أن بعض الأحزاب تظن أنها بالتعبئة تحصن ابناءها من اختراق الغير لهم أو استقطابهم وهذا فكر خطأ يحتاج لتصحيح لأن التعبئة في النهاية تتحول لسلوك مدمر يصعب السيطرة عليه أو احتواؤه أو توجيهه ، والأصل أن تتضافر الجهود نحو التربية على القيم والحقوق ، كقيمة العدل والمساواة والرحمة والإحسان للغير ، فهذه القيم غيبت في ظل هيمنة التعبئة على التربية ، وإعادة النسيج الفلسطيني إلى سابق عهده وبساطته يستلزم توجيه الأسلوب الفكري والدعوي نحو التربية لا التعبئة . الخطوة الخامسة : تحري المصداقية والشفافية والموضوعية ، وهذه خطوة هامة جداً وبدونها تتحول المصالحة إلى حالة من إعادة ترتيب الأوراق والإعداد لجولات مشاحنة جديدة ، ونعلم ما أفضى له التحريض والشائعات من مساهمات عززت الفرقة ومهدت للانقسام . هذه خطوات أراها هامة جداً لاستدامة المصالحة وإعادة بناء النسيج الاجتماعي الفلسطيني ، والمجال في هذا المقال لا يتسع للإطناب فيها وإنما للتنويه إليها .